"المقاومة لماذا؟".. كريستيان غازي واستكشاف الأساليب
يبدو بطلاً حقيقياً خارجاً من أحلك ديستوبيات جورج أورويل. إنه كريستيان غازي. ماذا تعرفون عنه وعن فيلمه "المقاومة لماذا؟" الذي نجا من محرقة الحرب الأهلية اللبنانية؟
لم يكن المخرج اللبناني الراحل، كريستيان غازي (1934 - 2013)، يعرف أنّ عمله الذي أبادته وأحرقته ميليشيا لبنانية خلال الحرب الأهلية، هو واحد من 44 عملاً، سيُرمَّم من جديد ويصبح، لا شاهداً على زمن غازي فحسب، بل على الآن وهنا من زمن الإبادة الراهن. زمن الإبادة المستمرة في غزة.
عُرض فيلم غازي "المقاومة لماذا؟" (1971) في تواريخ عديدة، منها الذكرى الخمسين لاغتيال غسان كنفاني، وفي "معرض بيروت للكتاب العربي والدولي".
النجاة من عالم "1984"
-
كريستيان غازي (1934 - 2013)
في زمن الإبادة الراهن، في العالم الإبادي القائم على صناعة الجوع وخرافات الندرة، يبدو كريستيان غازي بطلاً حقيقياً خارجاً من أحلك ديستوبيات جورج أورويل، إلى حد أنّ معظم ما قاله بطل أورويل، وينستون سميث، موظف وزارة الحقيقة، ينطبق تماماً على عمل غازي المُستعاد، ويفسّره، ويشرحه، ويضعه في مكانه الآن وهنا، مع الاحتفاظ بشرطه الزمني.
تنطبق عليه تماماً تلك الكلمات التي قالها سميث: "إلى المستقبل أو الماضي، إلى الزمن الذي يكون الفكر فيه حراً طليقاً، إلى زمن يختلف فيه الأشخاص بعضهم عن بعض ولا يعيش كل منهم في عزلة من الآخر، إلى زمن تظل الحقيقة فيه قائمة ولا يمكن لأحد أن يمحو ما ينتجه الآخرون".
تصف كلمة "أورويلي" الدولة الشمولية التي تسخّرُ الحشود، وقد باتت صفة أدبية قائمة تسم العديد من الأعمال. كذلك فقد ابتكر جورج أورويل في روايته "1984" لغة جديدة هدفها السخرية من نفاق الحكومة: إذ تشرف وزارة الحب على التعذيب وغسل الأدمغة، وتشرف وزارة الوفرة على نقص الموارد وترشيد الاستهلاك، وتشرف وزارة السلام على الحرب وويلاتها، وأخيراً تشرف وزارة الحقيقة على الدعاية ومراجعة التاريخ وتزويره.
كذلك، يتطابق العنوان الذي اختاره أورويل للرواية كي يصف بطلها وينستون سميث مع شيءٍ جوهري يميّز غازي كموثّق للحقيقة وذاكرة لها. إنّ ما اختاره أورويل كعنوان "الرجل الأخير في أوروبا" ينطبق على غازي كرجلٍ أخير من الشرق وقف في وجه وزارة الحقيقة الممتدة من المحيط إلى الخليج وأراد تطهيرها.
ومثلما حدث لرواية أورويل حدث لعمل غازي، إذ اتهمت رواية أورويل أنها ذات أيديولوجية تخريبية وعمل هدّام، وإثر ذلك جرى منعها، ولقي عمل غازي مصيراً أبشع إذ ظنّت الميليشيات أنها أبادته، هو وأعمال غازي الأخرى، إلى الأبد، ولكنه نجا، بصدفةٍ ما، شاهداً على التاريخ.
يعمل وينستون سميث في قسم الوثائق بوزارة الحقيقة كمحرر يتولى مراجعة الحقائق التاريخية ليتأكد من توافق الماضي مع موقف الحزب الذي يتغير باستمرار، كما يتولى محو أي إشارة إلى اللاأشخاص، وهم أولئك الذين تبخروا، أي من لم تكتفِ السلطة بقتلهم وإنما أنكرت وجودهم أصلاً سواء في التاريخ أم في الذاكرة، هكذا إلى أن يختار انتزاع الحقيقة التي يعرفها وترضي ضميره.
يعمل كريستيان غازي في قسم الوثائق بوزارة الحقيقة كمخرج يتولى مراجعة الحقائق التاريخية ليتأكد من أنه يسمع الحاضر صوت الماضي. كما يتولى أن يستعيد كل الإشارات إلى الأشخاص، الذين حققوا شرطهم الوجودي والتاريخي، وليس غريباً أن يكون غسان كنفاني، قبل اغتياله على يد الموساد الإسرائيلي بسنةٍ واحدة، مشاركاً في الفيلم عن الجبهة الشعبية.
وظهر كنفاني في الفيلم إلى جانب نبيل شعث عن حركة (فتح)، والمفكر السوري صادق جلال العظم عن "الجبهة الديمقراطية"، والكاتب والمؤرخ الفلسطيني صبري جريس، والكاتبة الفلسطينية نادية حجاب، والسياسي والباحث الفلسطيني أحمد خليفة، والفيزيائي والمؤرخ الفلسطيني اللبناني أنطوان زحلان، والرسامة والنحاتة ومصممة الأزياء اللبنانية أوغيت كالان.
استكشاف أساليب المقاومة
-
لقطة من فيلم "المقاومة لماذا؟" لكريستيان غازي
يتصل فيلم غازي، في إطار الاستعادة، بفيلم صدر عام 2024 تحت عنوان "استكشاف أساليب المقاومة" Exploring Modes of Resistance، الذي عُرض في مهرجان نيويورك للأفلام المعارضة، NYCFF، بإخراج يحمل اسم "حمامة المقاومة".
أقيم المهرجان الذي عرض الفيلم فيه في "منتدى الشعب"، وهو مساحة تنظيم مجتمعي في وسط مانهاتن. ووفقاً لأحد منظمي المهرجان، الذي طلب عدم الكشف عن اسمه، كان من المقرر عرض هذا الفيلم إلى جانب أفلام أخرى مدرجة في المهرجان لإثارة النقاش، وقد نجح بالفعل.
يطرح الفيلم ويجيب عن سؤال بسيط: كيف تبدو المقاومة؟ ولفكّ تشابك الافتراضات والصور النمطية الجامدة التي تتبادر إلى الذهن، يجمع المشروع لقطات من مختلف أساليب المقاومة المستخدمة في الحركة المناهضة للصهيونية منذ منتصف القرن العشرين وحتى اليوم. المقاطع مرتبة ترتيباً زمنياً؛ وكان الفاصل الوحيد بين المقاطع شاشة سوداء قصيرة.
يبدأ الفيلم، الذي تبلغ مدته 63 دقيقة، بلقطات سينمائية محببة من أفلام السيلولويد تُصوّر الجهود المبكرة المناهضة للصهيونية، ما يوفر سياقاً حاسماً لأعمال المقاومة المعروضة طوال بقية الفيلم. وتضمنت اللقطات مجموعة واسعة من "أساليب المقاومة"، كما يوحي عنوان الفيلم.
ومن بين هذه الموضوعات تدريب الميليشيات، وتعليم الأطفال في الفصول الدراسية، والصراع العنيف، والتجمعات المجتمعية، والرقص، والتحالف الدولي من كوبا إلى الجيش الأحمر الياباني، ومقابلة مع مالكوم إكس. كما تضمنت النسخة لقطات إضافية من حركة التضامن الطلابية في ربيع العام 2023 مع غزة.
يصوّر الفيلم مجتمعاً مزيجاً حيوياً من اللغات والأعمار والمواقع ومستويات الإنتاج والكوميديا والألم. استُمد بعضه مباشرةً من منظمات المقاومة وحركاتها، بينما تم الحصول على البعض الآخر عبر وسائل التواصل الاجتماعي - مقاطع قصيرة صُوّرت بكاميرات الهواتف المحمولة من وسط تظاهرات حاشدة.
ووصف المنظّم الفيلم بأنه "سينما نضالية" تهدف إلى الإرشاد والتثقيف، ملتقطة ليس فقط النطاق التكتيكي للحركة، بل أيضاً التاريخ العالمي الواسع للمقاومة الفلسطينية.