"الزار" المصري.. أو حكاية طقوس تحولت إلى فن مهدد بالاندثار
من طقس لطرد الأرواح الشريرة وما تسبّبه من أمراض، إلى عرض فني يشمل الرقص والغناء. إليكم حكاية فن "الزار" في مصر.
بإضاءة خافتة، وقرع طبول، ودق دفوف، تلتقي "أم سامح" جمهورها من محبي فن "الزار" المهدَّد بالاندثار، يوم الأربعاء من كل أسبوع. تُمضي معهم، هي وأعضاء فرقتها المصرية "مزاهر"، أكثر من ساعة، يقدمون خلالها نسخة محدثة عن فن الزار، على شكل عرض فني يشمل الرقص والغناء.
مزيج من الغناء والمدائح النبوية باللهجتين المصرية والسودانية، تصاحبه مجموعة من الآلات الموسيقية، يقدمها أفراد الفرقة بترتيب معين وتعاون قوي، لتشكل في النهاية 3 من أشكال فن الزار في الحفلة الواحدة.
في عام 2002، بدعم من أحمد المغربي، مؤسس ومدير المركز المصري للثقافة والفنون "مكان"، تكونت "فرقة مزاهر"، التي أصبحت الفرقة الوحيدة، وربما الأخيرة، التي تحافظ على إحياء هذا النوع من الفن التراثي.
في حديثها إلى "الميادين الثقافية"، تقول "أم سامح" (74 عاماً)، رئيسة "فرقة مزاهر"، والمغنية الرئيسة في الفرقة، إن: "الدكتور المغربي شافنا وإحنا بنقدم عرض للزار، وأُعجب بنا جداً وقرر أنه هياخدنا نقدم زار في فرنسا، ومن بعدها تكونت فرقة مزاهر وبدأنا نقدم عرضاً أسبوعياً للزار في مركز مكان".
وتروي كيف بدأ تاريخها مع "الزار"، بالقول إن "حبي للزار بدأ مع أمي اللي كانت ريسة زار |(قائدة فرقة والمغنية الرئيسة)، وبدأت أشتغل وراها من وأنا عندي 13 سنة، ومع تقدمها في العمر، بدأت أنا أرئس مكانها وخصوصاً أني ورثت منها موهبة الصوت، ومن وقتها وأنا بشتغل في الزار".
"الزار" من الحبشة إلى مصر: هكذا نُشفى من الشرّ
يُعرّف المعجم الوسيط "الزار" بأنه حفلة راقصة تقام لطرد الأرواح الخبيثة التي تمس أجساد بعض الناس، وفق زعمهم، بينما يرى بعض الباحثين أن كلمة "زار" عربية مأخوذة ومستعارة من اللغة الأمهرية.
أما الباحثة زينب حبيب فتفسر معنى "زار" في دراستها المعنونة "الزار في الصورة السينمائية والتلفزيونية المصرية"، بأن "الزار"، كلفظ، أمهري، ومعناه عند الأحباش شرّ ينزل بإنسان، لذلك فإن "الزار" عند معتقديه يقوم بوظيفة علاجية.
وترجّح حبيب أن المعتقدات الشائعة للزار انتقلت من الحبشة إلى العالم الإسلامي، وأن الطقوس المتصلة بهذا النوع من الفن في مصر انتقلت إليها في القرن الــ 19.
يتفق المترجم والباحث أحمد إبراهيم الصيفي مع دراسة حبيب، بحيث يوضح، من خلال ترجمته رواية "احتفالات الزار في مصر.. رواية شاهد عيان"، أن ظاهرة "الزار" انتقلت إلى العالمين العربي والإسلامي من وسط أفريقيا والحبشة (إثيوبيا)، مضيفاً أن الأفارقة عادة ما يتوسلون إلى الآلهة طوال الوقت عن طريق عدد من الطقوس، التي تحولت مع الزمن إلى شكل معين من الأداء، والذي تحول بدوره إلى طقس احتفالي راقص لطرد الجن والحصول على رضا الجن.
"الزار" في مصر: تثاقف وتنوع
وفق الأرشيف المصري للحياة والمأثورات الشعبية، فإن "الزار" طقس احتفالي يرتكز على معتقد شائع لدى بعض المصريين، مفاده أن بعض الأمراض ناتج من تلبّس الجن للإنسان، والهدف منه هو علاج هذه الحالة بإبعاد الأرواح عن جسم المريض عن طريق إرضائها بتقديم ما تطلبه.
وتنظم "الزار" وطقوسه امرأة تعرف بــ "كودية الزار" أو "الشيخة"، التي تقود الطقوس وتحدد نغمات "الزار"، بينما تشكل أغاني "الزار" جزءاً من العلاج، ويصاحبها بعض الآلات الموسيقية، مثل الدف والطبلة. وتسمى كل أغنية "دقة"، بحيث تهتز المريضة مع الإيقاع، وتسمى هذه الحركة "التفقير".
و"الزار"، كما يصفه الأرشيف المذكور، علاج نفسي شعبي، يشارك فيه نساء من المجتمع المحلي من النساء، متزوجات، وغير متزوجات، وتتفاوت أعمارهن بين 20 و60 عاماً أو يزيد، كما تتفاوت الطبقات الاجتماعية والاقتصادية التي ينتمون إليها.
في لقائه مع "الميادين الثقافية"، يقول الدكتور محمد أمين عبد الصمد، المتخصص بالأنثروبولوجيا الثقافية، إن انتقال "الزار" من أفريقيا ثم الحبشة وصولاً إلى مصر، يُعَدّ إحدى محاولات التأصيل، كونه كفناً، انتقل من مكان إلى آخر في إطار ما يعرف بعمليات التثاقف.
ويضيف: "تُعَدّ عمليات التثاقف عملية انتقال أو استعارة لعناصر ثقافية وافدة من ثقافة إلى أخرى، فـتتبناها وتدخل في نسيجها".
وبشأن الصورة الشائعة عن فن "الزار" في أذهان معظم المصريين، تقول "أم سامح" إن بعض الأفلام السينمائية والدراما التلفزيونية ساهم في تقديم صورة سلبية وغير حقيقية عن هذا الفن، موضحة أن "الزار، الذي أعمل به منذ الصغر، هو ما نقدمه حالياً في "مكان"، مع وجود تباين، مفاده أن الزار حالياً سماعي وأقرب إلى حفل، ولا يشارك الناس في طقوسه، وعند استخدام الآلات الموسيقية يكون الإيقاع هادئاً قليلاً".
بكلمات مختصرة، تصف "أم سامح" "الزار" بأنه محاولة لإخراج الطاقة السلبية، وأنه ليس شعوذة، كما يصوره البعض.
تتكون "فرقة مزاهر" من 10 أعضاء تتقدمهم "أم سامح"، بينما ينقسم سائر الأعضاء بين عازفين ومنشدين، وتحرص الفرقة على تقديم الصورة الحقيقية لفن الزار الأصلي الذي يعمل به كل أعضاء الفرقة منذ البداية، وقبل تأسيس "مزاهر"، بحسب "أم سامح".
وتقدم "مزاهر" 3 أنواع من "الزار"، وهو "الزار السوداني" الذي يعتمد على آلة الطنبورة، وهي آلة وترية تشبه القيثارة. أما "الزار المصري" فيتضمّن أغاني وأناشيد متعلقة بـ"مدح النبي" باللهجة الصعيدية المصرية، وأخيراً "زار أبو الغيط"، وهو مدح للنبي أيضاً، لكن تصاحبه آلة الكولة التي تُشبه الناي.
ووفق ما يورده أحمد إبراهيم الصيفي، فإن "الزار السوداني" يتميز بـاقترانه بالآلات الوترية الإيقاعية، بحيث تُعَدّ الطنبورة الآلة الوحيدة فيه. لذلك، يشار إلى "الزار السوداني" بــ "زار الطنبورة". أما "الزار الصعيدي" فإنه، في الغالب، يكون مقتصراً على عازفات من النساء من دون الرجال إلا في حالات معينة، بينما يُعَدّ "زار أبو الغيط" أحد الطقوس المصرية الخالصة وأكثرها دينية، بحيث تتم فيها مخاطبة الأولياء بالقصائد.
أما بشأن بقاء فن "الزار"، على رغم تغير شكله ووظيفته، فيقول أمين عبد الصمد إن الظواهر، التي تؤدي وظيفة في ثقافة معينة، تستمر دائماً، بحيث لا يستطيع المنع الرسمي مطاردتها أو إنهاءها، لكن من الممكن أن تتخذ شكلاً آخر.
ويضيف أن "الزار" حالياً يُقدَّم كعرض فني في مناطق متعددة، عبر استخدام تكوينات "الزار" التقليدية، مثل الدفوف والتكوينات الحركية واستخدام الظل والضوء في العرض الفني ذاته، بالإضافة إلى ملابس الراقصين وأزيائهم. وسط كل هذا، يشعر الحاضرون بأنهم يقومون بشكل من أشكال تفريغ الطاقة السلبية من خلال الحركة في إطار فني، عبر استخدام الموسيقى والغناء.
ويصف عبد الصمد "الزار" في شكله الحالي، بأنه واحد من أشكال الممارسات العلاجية النفسية المرتكزة على معتقدات، ما تبقى منها من شكل فني يخاطب في داخلنا الجانب الجمالي والاستمتاع بالموسيقى والأداء الصوتي، وأيضاً كشكل من أشكال التخلص من الأثقال والهموم.
تختتم "أم سامح" حديثها مشيرة إلى أن "فرقة مزاهر" قدمت عروضاً للزار في عدد من الدول الأوروبية، بالإضافة إلى جمهور "مكان" المتنوع، والذي يأتي من مختلف الدول العربية والغربية.