"الجمعية السرّية للمواطنين": السياسة في مواجهة الفنّ
الرواية تحكي حادثة تاريخية تبدأ أحداثها من مطلع السبعينيات في القاهرة، وحتى عام 2011، من مكان معروف بعزبة الوالدة في حلوان، حيث تخرج أصوات الأبطال منها، وتأخذ من الهامش والمهمّشين في المجتمع معرضاً لأحداثها.
يمكن للفنّ أن يغادر من مكان إلى آخر من غير أن يفقد رمزيّته، والأمثلة على ذلك كثيرة، منها لوحة الفنان العالمي بابلو بيكاسو الشهيرة بالجورنيكا، والتي أنهاها عام 1937 لتجسّد معاناة البشر، وتكون رمزاً للتوق إلى العيش، ومَعلماً يذكّر بمأساة الفرد مع العنف وحربه الأبدية مع الاضطهاد. من هذه النقطة يأخذ الكاتب المصري أشرف العشماوي (1966) في روايته "الجمعية السرية للمواطنين" طريقة الفنان التشكيلي في رصده اليومي وتجلّيه حتى التجسّد. ويصح القول بأن البداية التي تنطلق منها الرواية الصادرة عن الدار المصرية اللبنانية يجعلها تأخذ شكل اللوحة الأولية، والتي أراد لها الكاتب أن تصوغ شكلها مثلما تصاغ المنحوتات، ذلك أنها تشدّ القارئ على مدار صفحاتها الأولى، ويظل مأخوذاً بالحدث اليومي من غير أن يستشف ما سيحدث من جرّاء ضربات الريشة الخفيفة هنا وهناك.
ومن غير الخفي على أدب الكاتب أسلوبه الفني المندمج بالنسق الروائي، وانهماكه في الحادثة التاريخية بعيداً عن رصدها العلمي، إذ تبدأ أحداث الحكاية من مطلع السبعينيات في القاهرة، وحتى عام 2011، من مكان معروف بعزبة الوالدة في حلوان، حيث تخرج أصوات الأبطال منها، وتأخذ من الهامش والمهمّشين في المجتمع معرضاً لأحداثها.
نتعرّف إلى معتوق الرفاعي، الفنان المضطهد، والذي يجسّد صورة الحقّ في مواجهته الأزلية مع العالم. ومحاولته لخلق عالم بديل؛ من رضوخه لـ "غريب" وإغراءات الثراء السريع، ودفعه لسرقة لوحة زهرة الخشخاش وتزويرها، مدفوعاً بكسب لقمة العيش، وباحثاً عن حياة أراد فيها العيش لا أكثر. وهو حين يعمل على تزوير اللوحات ويبيعها بأسماء وهمية، إنما يشعر بالخيانة لنفسه.
هو تشكيلٌ فريدٌ لبطلٍ يذكّرنا بأبطال الروايات الكلاسيكية حين باعوا أطفالهم للعيش، وبالإنسان الذي سيّرتهُ المأساة ليفاوض على حياته. هذا ما يحسه معتوق في كل مرة تخلى فيها عن فنه، وكأنه يبيع دمه لقاء خبزه. ومن غير أن يظهر غافلاً، إذ توقظه ابنته زهرة، وتذكّره ببؤسه اليومي، والتي جعلها الكاتب صامتة طوال النص، وكأنه بصمتها يُنطق المسكوت عنه. هذا ما يظهر في المشاهد الساكنة بين زهرة ومعتوق، وفي رجائها اليومي أمام المدرسة للبقاء؛ هكذا تضعنا الرواية أمام طفلة تعيش وهم الغربة يومياً، وأبٍ يهرب من نفسه ومن زيف الحياة التي يحياها مجنّباً ابنته تلك الحقيقة.
يكمل الكاتب تجميع أجزاء لوحته، ويصوغ أبطاله من مجموعة سكان في عزبة الوالدة. ويبدو اختياره للمكان أداة تربط أجزاء الرواية، إذ تبقى العزبة البطل الأثير، وهي كمكان تأثّر بالتحوّلات السياسية والاقتصادية التي عاشتها مصر خلال ثلاثين عاماً، تكاد تعطي صورة عن حال البلاد بأكملها بعد أن آلت إلى حال بائسة. نشاهد فيها "كومبارس" موهوباً، ومحامياً مخادع، وطبيباً مزيّفاً إلى جانب شاهد زور ومسؤول حكومي يرتدي قناع الفنان ويسرق لوحات معتوق لتجميعها في معرضه.
هو عالم قوامه الخداع والزيف، وفي الوقت ذاته وسيلة الكاتب ليصوغ لنا شكل القاهرة فيما يشبه لوحة موزاييك تسقِط ذلك الخداع على المكان نفسه. وعلى نسخ من أبطال ذوي مرجعيات نفسية واجتماعية، ويحاولون تجاوز وضعية الهامش ليكونوا ذوي تأثير في عالمهم. إلا أن محاولاتهم في صوغ حيواتهم لا تتجاوز تأثير المكان، حيث يرتبط بالعزبة كل ما يحدث، سيما عندما يخططون لتسجيل موقفٍ حاسمٍ تجاه الحياة، ويؤسسون جمعية ضد الاضطهاد، وضد الظلم، بأسلوب يبني داخلهم وعياً تصاعدياً كما يحدث لدى معتوق، والذي نراه في البداية فناناً غير ذي شأن، بينما على مدار النص نكتشف أننا بصدد فنان حقيقي. إذ تتحول الشخصية وتكبر لتؤدّي غرضها الأساسي في الكتابة؛ وهو تأثير التحولات السياسية والاجتماعية على الفرد، واكتشاف ما يجعل البائس بائساً، والطيب شريراً.
هذا الصراع بين الحقيقة والظاهر بما يتداخل مع عزبة الوالدة ومرجعيّتها التاريخية، يسلّط الضوء على مرحلة مهمة من تاريخ مصر، ويرصد التحوّلات التي أدت بالمكان نحو الانهيار، وانحداره من حدائقه وقصوره، ليصير حياً من أحياء العشوائيات. هذا الإسقاط يستخدمه الكاتب لإسقاطه على البلاد، وهذا التحوّل الذي عكس الانحدار الاجتماعي، والفساد المتفشّي داخل نسيج المكان، دفع الشخوص من معتوق وغيره للتحوّل، الأمر الذي حمّل المكان دلالات اجتماعية ونفسية وهو الانعكاس المتوازي ذاته بين الفرد والمكان.
"إنهم يريدون الحياة، لكنهم فشلوا حتى في ذلك.."، ربما تصف هذا العبارة محاولة الإنسان المهمّش أن يؤدّي دور البطولة، وكيف يمكن لمجموعة أشخاص ذوي مرجعيات اجتماعية بسيطة أن يصبحوا مؤثّرين، ويصنعوا فلسفتهم الخاصة عن الحياة، ويتعلّموا من المكان كيفية ترميم الفجوات في أرواحهم. وتلك هي مهمة الكتابة حين تصوغ نسقاً عادياً وتحوّله إلى مدهش.
هكذا وبلغة ساحرة تدمج التهكّم بالمرارة، تفتح الرواية عالماً بعيداً عن الخيال، إنما هو عالم واقعي، ومكان يشبه فجوة في جسد المدينة، ومنه يصوغ الكاتب ما يشبه جورنيكا خاصة بالقاهرة، من غرفة متهالكة لفنان مهمّش، وبؤس يوميّ تقطعه طفلة فقدت صوتها، هي الرمزية التي يصوغها الكاتب في أحداث حكايته، وبتحميله ابنة بطله اسم "زهرة" إنما يوازيه مع حدث سرقة لوحة زهرة الخشخاش لفان كوخ، ومن جهة منح الطفلة الصمت الذي له أن يؤثّر. هو ما جعل الرواية أقرب إلى الفنية الرفيعة، إذ نستطيع أن نصفه بالصمت الذي يُنطِق الجامد، حين يتجسّد في المشهد بين زهرة ومعتوق وهي ترجوه ألّا يغيب.
يطوف الكاتب عبر القاهرة، من مستشفى للمجانين، إلى عزبة الوالدة، ومتجوّلاً بشخوصه بين مقاهي المدينة. نجد معتوق يلعب ليسيطر على لوحته، ويمنح أبناء عزبته مساحة تمنح الانتصار لأصواتهم المضطهدة، ولأولئك العالقين وسط مصائرهم البائسة. يعلو صوت الصحبة بينما يبقى المكان شاهداً يصوغ سيرة العاصمة وتقلّب الأحوال فيها على مدار ثلاثة عقود، ليخلق في النهاية لوحة تصنع المساواة. تلك العدالة التي عجزت عنها السياسة، وتعمدُ الساسة إلى تعطيل العدالة لصالح الفساد والمنتفعين، أسس لحصار الفنان وحوّله إلى مزيّف محترف. يظهر هذا جلياً في شخصية "أسعد الكومبارس"، وهو يؤدي مشاهد شبه صامتة، وكأنه يخترع حيوات موازية، ويهرب عبرها من واقعه.
هكذا يمكن للكتابة أن تأخذ من الفن أداة، وتفضح الزائف وتسلّط الضوء على ما تُعجزنا السياسة عن رؤيته، وعلى الرغم من النهاية المفتوحة للرواية، إلا أن المكان الذي مرت عليه السنوات بقي محتفظاً بتلك المساحة الصغيرة للحرية، وبرهاناً على بؤس الأبطال داخل المجتمعات الفردية التي لا تفكّر سوى بالغرق.