"التراجيديا" الفلسطينية في مجتمع إنساني دولي مضلل

يختصر "الجوع" السردية الفلسطينية بكل ما تحمله من ذاكرة ضحايا وجرحى وإعاقات وأحلام مكسورة. وهي سردية تطعن في الصميم بالسردية الصهيونية التلمودية المزيفة التي نشأت منذ وعد بلفور وتغذت من الحروب.. لكنها متصاعدة قتلاً وتهجيراً وتهويداً واستيطاناً. 

  • غزة
    غزة

يوماً بعد آخر، تستفحل أزمة الجوع الفلسطيني على نحو خطر في قطاع غزة، وتتزايد الوفيات بسبب سوء التغذية، وبات مئات الآلاف مهددين بالموت جوعاً في ظل حصار الاحتلال الذي يمنع بشكل شبه كامل دخول المساعدات للمحاصرين. ومنذ 2 آذار/مارس 2025، يغلق الاحتلال جميع المعابر مع القطاع ويمنع دخول المساعدات الغذائية والطبية، ما تسبب في تفشي المجاعة داخل القطاع.

ويكاد مصطلح "الجوع" يختصر التراجيديا الفلسطينية، حاملاً بصمات التغريبة وما رافقها من مآس ومرارات، والمصير الملحمي الدامي. لكن هذ المصير لا ينتهي بموت الفلسطيني أبداً، فالأخير بألف روح وروح، فهو يحمل فرادة تاريخه وقيامته دوماً، باعتباره تعبيراً عن قدر وقدرة الفلسطيني المقاوم.

ففي عالم كنا نظنه قرية صغيرة، لكنه أضحى كالمسرح التراجيدي الكبير، يأخذ فيه كل فرد دوره بين كواليس الحياة ولا يعرف بموت غيره البعيد، ترتسم مأساة على أرض فلسطين المحتلة، حيث الأصوات المبحوحة والأنفاس الحبيسة تشكل سيمفونية القهر التي تعزف في غزة على يد الاحتلال الصهيوني.

والعالم الذي كان يزعم يوماً أنه وصل إلى قمة التضامن الإنساني يقف اليوم متفرجاً - بل متآمراً ومتخاذلاً - أمام مشهد يندى له جبين الإنسانية. في زمن كان يفترض أن يكون أكثر تواصلاً، يجد البشر أنفسهم يتباعدون، وتتراجع خطواتهم إلى الوراء حيث يموت الأطفال قصفاً وجوعاً، لا لشيء إلا لأن القائمين على إدارة العالم يريدون ذلك، ليبدو الخيار الأول للغزيين أفضل بمراحل من الموت البطيء.

***

اليوم، لم يعد بمقدور الفلسطينيين توفير الحد الأدنى من مقومات البقاء، حيث فقدت غالبيتهم الدقيق اللازم لصناعة الخبز، بينما ترتفع أسعار الكميات القليلة المتوفرة منه في السوق السوداء، بشكل لا يمكن للفلسطينيين المجوّعين الحصول عليه.

عشية دخول عدوان الاحتلال على غزة عامه الثالث، لا تزال الأصوات الدولية والأممية ترتفع محذرة من كارثة إنسانية قد تعصف بحياة الملايين، لكن من دون جدوى؛ بينما يستمر إصرار الاحتلال، بمباركة الإدارة الأميركية، على إدخال أكثر من مليوني بشري إلى نفق المجاعة كسياسة ممنهجة للتجويع، وما يوميات القصف والدمار والمجازر الدامية التي راح ضحيتها مئات الآلاف، إلا تأكيداً على أن الحرب على الفلسطينيين هي إبادة جماعية تتم بأحدث الأسلحة الغربية الممولة من عائدات النفط العربي!

***

من منظور فلسطيني، يشكل الموت جوعاً وقتلاً ظاهرة مثيرة ومباشرة للمقاومة الشعبية المقبلة. هذا الوضع يخلق بيئة خصبة لإعادة ابتكار وإنتاج نماذج لانتفاضات جديدة تتميز بتنظيم أفضل وأكثر شمولية إذا نجحت حركات مثل "حماس" و"الجهاد الإسلامي" والجبهتان الشعبية والديمقراطية في توحيد صفوف الفصائل الفلسطينية وتعبئة الدعم الشعبي والإقليمي.

ولكن الصمود يعكس التحديات المتنوعة التي يواجهها الناس في جميع أنحاء فلسطين. وهو الصمود الذي دفع أكثر من 100 منظمة إنسانية دولية بتاريخ 23 يوليو/ تموز 2025 من بينها "أطباء بلا حدود" و"أوكسفام" و"إنقاذ الطفولة"، إلى توقيع بيان ينذر بأن غزة على شفا «مجاعة جماعية».

تعد الأزمة التي نتجت عن كل هذا، وأكثر من عامين من القصف الجوي والمدفعي، واحدة من أكبر وأهم قصص القتل والتدمير والتجويع في العالم. لكن ربما سيصعب سردها، إذا مات الصحفيون جوعاً. إذ يكافحون لمساعدة وكالات الأنباء العالمية في سردها ونقل الأخبار إلى العالم.

لكن، ما الذي يمكّن "إسرائيل" من الإفلات من العقاب على جرائم القتل؟ لطالما حمت الولايات المتحدة "إسرائيل" من الانتقادات الدولية ودعمتها عسكرياً. وتتراوح الأسباب المقدمة لهذا الدعم عادة بين الرابطة "الثابتة" بين البلدين، ونفوذ لجنة الشؤون العامة الأميركية اليهودية (أيباك) AIPAC في واشنطن. ويمكن للمرء أن يجادل بأن الشيء الوحيد المختلف في هذه الحرب الحالية هو نطاقها.

في حوار مع عزرا كلاين Ezra Klein من صحيفة "نيويورك تايمز"، قدمت أستاذة القانون الدولي لحقوق الإنسان الأميركية، أصلي بالي، Asli Bali تفسيراً واحداً لما يميز فلسطين. وتشير إلى أنه في عام 1948 كانت فلسطين "الأرض الوحيدة التي كان من المقرر إنهاء استعمارها عند إنشاء الأمم المتحدة… والتي لم يتم [حتى الآن] إنهاء الاستعمار فيها". باختصار، "إسرائيل" مفارقة تاريخية. كانت جنوب أفريقيا في يوم من الأيام ضمن هذه الفئة. لعقود، اعتبرت فلسطين وجنوب أفريقيا "مثالين مستمرين على إنهاء الاستعمار غير المكتمل، استمرا طويلاً بعد انتهاء الاستعمار الكامل في بقية العالم". اليوم، تعد فلسطين الاستثناء الأخير لتلك العملية التاريخية.

***

في عام 2003، كتب المؤرخ البريطاني Tony Judt أن "مشكلة إسرائيل هي أنها وصلت متأخرة جداً. لقد استوردت مشروعاً انفصالياً بطابعه المميز من أواخر القرن التاسع عشر إلى عالم متطور، عالم تسوده الحقوق الفردية، والحدود المفتوحة، والقانون الدولي". إن فكرة "الدولة اليهودية" ذاتها – دولة يتمتع فيها اليهود والدين اليهودي بامتيازات حصرية، ويستبعد منها المواطنون غير اليهود إلى الأبد – متجذرة في زمان ومكان مختلفين. باختصار، "إسرائيل" مفارقة تاريخية. إن فكرة Judt بأن "إسرائيل" من مخلفات عصر آخر تتطلب فهماً لكيفية تسارع الجهود العالمية لإنهاء الاستعمار بشكل ملحوظ بعد عام 1945. وكانت النتيجة عالماً جديداً – عالماً تخلى عن الفلسطينيين، تاركاً إياهم في مخيمات اللاجئين عام 1948. هذا العالم الجديد، الذي انبثق من رماد الحرب العالمية الثانية، أصبح ما نسميه اليوم "النظام الدولي القائم على القواعد"، والذي من المفترض أن يعد القانون الدولي عنصراً أساسياً فيه.

إذا كان هناك بصيص أمل في كل هذا البؤس المثير للغضب، فيمكن إيجاده في العدد المتزايد من الشعوب حول العالم الذين يرفضون الخضوع للترهيب لإسكاتهم. ربما رأينا مثالاً بسيطاً على هذه الشجاعة في إسبانيا وإيرلندا ومدن عالمية أخرى كلندن ونيويورك، والتبدل الملحوظ في الرأي العام الدولي تجاه "إسرائيل". 

يختصر "الجوع" السردية الفلسطينية بكل ما تحمله من ذاكرة ضحايا وجرحى وإعاقات وأحلام مكسورة. وهي سردية تطعن في الصميم بالسردية الصهيونية التلمودية المزيفة التي نشأت منذ وعد بلفور وتغذت من الحروب.. لكنها متصاعدة قتلاً وتهجيراً وتهويداً واستيطاناً. 

لن تظل السردية الصهيونية مسموعة وعالية الضجيج، وسيكتب المغلوبون سرديتهم هم على جدران منازلهم وصدورهم وحكايا كبارهم وصغارهم. 

في السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023 أعلنت كتائب القسام معركة "طوفان الأقصى"، فاقتحمت المستوطنات الإسرائيلية في غلاف غزة، وأسرت جنوداً ومستوطنين إسرائيليين. قامت "إسرائيل" بعدها بحملة انتقام وحشية ضد القطاع، في عدوانٍ قتل وأصاب عشرات الآلاف من الفلسطينيين.

اخترنا لك