من يكتب التاريخ؟
فلسطين اليوم ومقاومتها وروايتها، وتحديداً تلك المتعلقة بوحدة الساحات... هي من يعيد كتابة التاريخ.
أن ندرك بعد فوات الأوان أن الأمة لم تؤت إلا من حيث حصّنها الله وكلّفها بصريح النص عندما خاطبها بأن "أعدوا"، فهذا يعني أن غيابنا المؤقت عن صناعة التاريخ إنما هو مفرز طبيعي لغياب تكليف الإعداد.
نعم، التاريخ يكتبه المنتصرون - هذه حقيقة - وهذا ما بدا واضحاً في حجم ما كُتب ودوّن في عقود ما قبل تأسيس "دولة" الاحتلال، وما بعدها من دراسات وأبحاث ومقالات تنتصر بمجملها للرواية الصهيونية على حساب الحقيقة الفلسطينية، والسؤال هنا: إذا كان معيار الانتصار هو الثابت الأهم في كتابة وتوثيق أو نفي الهوية التاريخية لأي أمة من الأمم، فكيف يمكننا تحضير البنية الفكرية والثقافية العربية والإسلامية وحتى العالمية لاستعادة القدرة على فهم مركزية الهوية الفلسطينية وخصائصها الحضارية؟ وتحديداً بعد ما تحقق من انتصارات للمقاومة الفلسطينية في العقود الأخيرة، وما أثبتته من قدرة على تحقيق العديد من الانتكاسات البنيوية في الخطاب الإعلامي للحركة الصهيونية؟
هناك الكثير من الأسئلة التي تتطلب بحثاً معمقاً في إجاباتها وربما تستدعي استنفاراً على مستوى النخب الثقافية والفكرية. فالتهديد اليوم بات وجودياً ولا يتعلق بالهوية الفلسطينية من دون هوية الأمة، وتحديداً في ظل ما بدا من قصور في فهم مفهوم الإعداد وتعطيل مضمونه الشمولي.
لكن السؤال الطارئ والأهم بالنسبة إليّ، والذي جاء كمفرز طبيعي لمعركة "طوفان الأقصى"، هو كيف استطاعت الهوية الفلسطينية أن تقف وحيدة في معركة الوعي، على الرغم من عظيم ما كُتب ودُوّن خلال 76 عاماً من النكبة الفلسطينية، ورغم كل المجازر ومحاولات شطب الهوية والتذويب والأسرلة؟ وكيف استطاعت الرواية الفلسطينية استحضار الرأي العام العالمي وتفتيت مسلّماته ما بعد "طوفان الأقصى"، على الرغم من كل ما ذكرناه آنفاً؟
للإجابة عن هذه الأسئلة، لا بدّ لنا بداية من تتبع بعض المرتكزات التي تقوم عليها النواة الصلبة للهوية الفلسطينية، والتي شكلت عاملاً حاسماً في ثباتها واستمرارها، بل وحافظت على خصائصها الحضارية وهي:
البعد العقائدي
فالعقيدة الإسلامية هي الحامل الحقيقي لهوية الأمة، وبالتالي هي الجزء الأهم من خصائص الهوية الفلسطينية، وذلك لقدرتها على ضمان إعادة تركيب الجغرافيا الفلسطينية ضمن محيطها الإسلامي رغم كل محاولات الفصل والإقصاء، وسيادة الخطاب المتعلق بنفي البعد الديني العقائدي عن الهوية الفلسطينية.
من جهة أخرى، فإن الحضور التاريخي والروحي للديانة المسيحية في فلسطين شكّل عاملاً ثابتاً في استحضار الهوية الفلسطينية في المخيال الديني المسيحي على أنها مركز الإشعاع الروحي والبداية الأولى لانطلاق التراث الديني.
والعقيدة هي أيضاً أداة التأطير الناظمة لجملة المسلمات والخطوط الحمر في معظم الممارسات النضالية للشعب الفلسطيني، أي أنها أحد أهم متاريس الاستمرار في المقاومة والسعي لتحرير الأرض بخلفية دينية مؤيدة بنص شرعي، "فَإذَا جَآءَ وَعۡد ٱلۡأٓخرَة ليَسـٔواْ وجوهَكمۡ وَليَدۡخلواْ ٱلۡمَسۡجدَ كَمَا دَخَلوه أَوَلَ مَرَةٖ وَليتَبرواْ مَا عَلَوۡاْ تَتۡبيرا".
البعد الإنساني
التجربة النضالية للشعب الفلسطيني، جعلت من الهوية الفلسطينية نموذجاً إنسانياً من لحم ودم لكل تلك التجارب النضالية في العالم، وهيأت المناخات المناسبة لتعزيز حضورها في المحافل الدولية كشاهد على المظلومية التاريخية، وكأداة لتصويب أي محاولة للتزوير.
البعد التاريخي
لا يمكن بأي شكل من الأشكال الحديث عن ثبات الهوية الفلسطينية من دون قراءة متعمقة للسياقات التاريخية التي أدت إلى تشكيلها، فالهوية الفلسطينية هي جزء لا يتجزأ من المكوّن التاريخي للمنطقة، وهي أحد أهم عوامل الصراع مع السردية الصهيونية، والتي ما زالت تبحث في طين وهمها عن أثر واحد يعزز روايتها، ولهذا فإن شهادة الحجر في كل ركن من أركان فلسطين المحتلة ونفيه المطلق للوجود الاحتلالي عامل استقرار في بناء السردية الفلسطينية، وأضفى المزيد من الأبعاد التاريخية للهوية الفلسطينية عبر إثباته الوجود الحضاري والقيمي للشعب الفلسطيني.
البعد السيكولوجي للشخصية الفلسطينية
تشكل النكبة العقدة الأهم في بناء تصوراتها ومحاكماتها، فالفلسطيني يمتلك التجربة التاريخية القاسية التي تنزهه عن التفريط في الهوية وبعدها الجغرافي والمكاني، وتعيد ترتيب أولوياته الحياتية ضمن محدد الانتماء الفطري لمدينته وقريته ومفتاح بيته وبالتالي لهويته، وتحديداً بعد أن عايش مرارة النكبة والنزوح والبحث عن الهوية ضمن جغرافيا الشتات. ولعل إرادة التحدي هي الصفة الأهم في طبيعة التكوين السيكولوجي للشعب الفلسطيني، لأنه يدرك تماماً بأن الانكسار أو التفريط أو الاستسلام وحتى الهروب، لن يشكل عاملاً حقيقياً في حمايته من القتل أو التهجير والتنكيل، وبأن المكافئ العقائدي للصهيونية العالمية هو القضاء على الهوية الفلسطينية، وبالتالي فإن عامل التحدي هو الضامن الوحيد في بقائه واستمراره والحفاظ على كينونته.
وأيضاً، فإن اليقين بحتمية النصر مكوّن أصيل في شخصية الشعب الفلسطيني، والذي جاء بناء على جملة المعتقدات الدينية ونتيجة لأصالة التجربة التاريخية في حتمية استعادة الأرض، ما شكل دافعاً حاسماً للصبر والتحمل والاستعلاء على كل الجراح ومحاولات شطب الهوية والتذويب والأسرلة.
ويبقى لمفهوم التكيف في الشخصية الفلسطينية ذلك الأثر المديد في تحييد العديد من الممارسات الإقصائية للاحتلال والتعامل معه على أنه الثابت الأهم في تطوير إمكانيات المقاومة واستحداث أنماط نضالية مستمرة وقادرة على فرض الهوية وإعادة تمكينها. وبهذا، فإن ثبات الهوية الفلسطينية وقدرتها على الاستمرار، حافظا بالضرورة على فرصة إنعاشها على مستوى الرأي العام الدولي، ومكن من استحضار سياقاتها التاريخية والحضارية عند أول استحقاق عسكري وسياسي كالذي حدث في 7 تشرين الأول 2023.
كما أنه مهّد لمنازلة تاريخية على مستوى الرواية والسردية، والتي بدأها الاحتلال في الأسبوع الأول من هذه الحرب بتطويع كل وسائل الإعلام والرأي العام الغربي وتهجينهم ضمن محددات الإرهاب وقتل الأطفال وحرق الجثث، ثم حاول إيجاد مقاربة ما بين الهوية الفلسطينية المقاومة وبين "داعش" وكل ما يحمله هذا الخطاب من مقومات ليّ الحقيقة، ثم استفرد في بناء منظومته الروائية على شرعنة القتل من خلال طرحه لمصيرية المعركة، ومفصلية الوجود الصهيوني، ثم أعاد استنهاض كل قواه وتحالفاته الإقليمية لإعادة الرواية الفلسطينية إلى ما كانت عليه قبل انطلاق المعركة، أي إلى مرحلة إعادة الرواية الإسرائيلية إلى مربع القداسة واستحالة الهزيمة والتفوق.
هنا، لا بد لي أن أتوقف طويلاً عند المعنى المقصود في قراءة أحد قيادات حركة "الجهاد الإسلامي" في فلسطين للمعركة وتحديداً في قوله إن: "السابع من أكتوبر هو عمل مبدع ولكن الصمود الفلسطيني هو معجزة". لا شك أن صمود الرواية الفلسطينية وقاعدتها الصلبة في بناء سرديتها أسس لمعركة 7 تشرين، ولكن من جهة أخرى، فإن قدرة المقاومة وحواضنها الشعبية على الصمود في المعركة والثبات وتقديم التضحيات هو الذي مهّد لاختراق جدران الرواية الإسرائيلية وحقق تقدماً على مستوى الرأي العام الدولي. كما قام بتصحيح كل تلك الصور النمطية المتعلقة بالفلسطيني "الإرهابي والمجرم" وإعادة إنتاجها خارج كل مفردات السردية الإسرائيلية، حيث قدمته كمقاتل لا يمتلك مقومات الجيش النظامي ولكنه يقاتل عاري القدمين ويدافع عن أرضه بأظفاره - وهذه صورة لا تكون إلا لصاحب حق - ما أحدث فجوة عند المتلقي الغربي بين ما كان يراه ويسمعها وبين ما تقدمه الصورة والرواية الفلسطينية من حقائق.
هذا الأمر عبّد الطريق لمزيد من الإنجازات على مستوى الرواية الفلسطينية وانحسار الحاضنة الدولية للاحتلال، ثم انتفاضة النخب الطلابية في الجامعات الأميركية والأوروبية، والتظاهرات الحاشدة، والأخطر، التفلت من قوانين معاداة السامية والهولوكست وتداعي جوهرة الرواية الصهيونية.
أخيراً، لا أعرف حقيقة إن كانت الرواية الفلسطينية تمتلك وحدها مفاتيح تصحيح ما زيف وما طمس من تاريخ هذه الأمة، ومن الكتابات والبحوث المسكوت عنها! كما لا أعرف كيف يمكن تفسير وتبرير هذا التفاوت الحاد بين الإعداد لمعركة التحرير، وبين الإعداد لمعركة التدوين والكتابة وتأطير الحقائق بما يخدم مفهوم النصر الكامل، لكن ما أعرفه تماماً، بأن فلسطين اليوم ومقاومتها وروايتها، وتحديداً تلك المتعلقة بوحدة الساحات... هي من يعيد كتابة التاريخ.