من الفاطميين إلى بونابرت.. كيف دخلت احتفالات المولد النبوي بيوت المصريين؟
الاحتفال بالمولد النبوي الشريف في مصر له مميزات خاصة. ما سببها؟ ومن أتى بالاحتفال بالمولد النبوي إليهاَ؟
في الـ12 من شهر ربيع الأول، الذي يصادف فيه الـ15 أيلول/سبتمبر هذا العام، يحتفل ما يقرب من ملياري مسلم حول العالم بمولد النبي محمد، ويُعرف الاحتفال به باسم "المولد النبوي الشريف". هذه المناسبة تحتل مكانة وحضوراً مميزَين في الثقافة الشعبية المصرية، وتتخذ الاحتفالات بالمولد النبوي طابعاً خاصاً لدى المصريين، بحيث تتشابه مظاهر الاحتفال في كل أرجاء مصر المحروسة، فتنتشر الحلوى بكل أشكالها في المحال والسرادقات، كما تقام "الليالي النبوية"، التي تتخللها حلقات الذكر والمديح والإنشاد.
تصف "الهيئة العامة المصرية للاستعلامات" مظاهر الاحتفال بالمولد النبوي، والتي ما زالت مستمرة حتى اليوم في الريف والأحياء الشعبية في المدن الكبرى، في إقامة سرادقات وشوادر كبيرة حول المساجد الكبرى، كمسجد الإمام الحسين، والسيدة زينب، وتضم تلك الشوادر والسرادقات زوار المولد من مختلف قرى مصر والباعة الجوالين بجميع فئاتهم، وألعاب التصويب، وبائعي الحلوى والأطعمة، بالإضافة إلى سيرك بدائي يضم بعض الألعاب البهلوانية وركناً للمنشدين والمداحين، وهم فئة من المنشدين تخصصت بالمدائح النبوية.
منذ قرون.. عادات لم تمت
داخل المنازل، تمتلك الأغلبية العظمى من الأسر المصرية عادات وطقوساً توارثتها عبر عشرات الأعوام للاحتفال بالمولد النبوي. تحدثت "الميادين الثقافية" إلى عائلات مصرية ما زالت تحافظ على هذه التقاليد والعادات، ومنها أسرة سارة عادل (34 عاماً) في مدينة دمنهور في محافظة البحيرة. فقد اعتادت هذه العائلة الاحتفال بالمولد النبوي من خلال طهو أصناف معينة ترتبط بأذهان سارة وأخواتها بهذه المناسبة.
وتقول سارة عادل إنه "على مدار أعوام اعتادت والدتي في هذا اليوم طهو "كسكسي" حادق بالإضافة إلى كفتة أرز وصنف من اللحوم الطازجة، قد يكون البط أو الإوز". وتشرح كيف يُعَدّ مولد النبي أحد المواسم الكبرى، إذ لا بد من أن تأكل الأسرة "الزفر"، أي اللحم، حيث تتباين أيام المواسم والأعياد عن تلك العادية.
وما زالت والدة سارة تحرص على إهداء حفيدتها عروس (دمية) المولد التقليدية المصنوعة من السكر، والتي تمثل رمز الاحتفال بيوم مولد النبي لدى الجدة، بحسب سارة.
أما في منزل عائلة نسرين قاسم (45 عاماً) فيُعَدّ صنع "طبق المهلبية" جزءاً أساسياً من الطقس الاحتفالي بيوم مولد النبي، بالإضافة إلى شراء أنواع متعددة من "حلوى المولد". وتروي نسرين كيف تجتمع مع أخواتها في مثل هذا اليوم من كل عام، ويَقُمن بطهو المحشي، والرقائق، وأحد أصناف اللحوم أو الدواجن، ثم تجتمع العائلة في نهاية اليوم إلى مائدة واحدة، لتناول وجبة الغداء ثم حلاوة المولد.
في عائلة نسرين قاسم تحصل الفتيات الصغيرات على "عروس المولد"، بينما يحصل الأطفال الذكور على "حصان المولد"، ولم تنقطع هذه العادة في العائلة منذ الصغر.
أما في محافظة المنيا في صعيد مصر، فيتباين الأمر قليلاً، إذ يحيي عبد الراضي السيد (اسم مستعار) المولد النبوي منذ أكثر من 25 عاماً من خلال احتفالية صغيرة يقيمها والده في قرية زعبرة.
ووفق عبد الراضي (44 عاماً)، فإن الاحتفالية، التي تستمر يوماً كاملاً، تُفتتح بتناول الطعام قبل أن يبدأ المنشدون مدحَ النبي وآل بيته. وتشهد هذه الاحتفالية حضور ما يقرب من ألف شخص من أهل القرية والقرى المجاورة.
من الفاطميين إلى بونابرت.. كيف بدأ الاحتفال بالمولد النبوي في مصر؟
يذهب عدد من المؤرخين إلى أن الفاطميين كانوا أول من احتفل بالمولد النبوي. ويقول أحمد بن على القلقشندى، في كتابه "صبح الأعشى في صناعة الإنشا"، إن الخليفة الفاطمي، المعز لدين الله، كان أول من نظّم احتفالاً بالمولد النبوي عام 362 هـ، بعد بضعة أشهر من دخوله مصر، وكان الهدف من إقامة هذه الاحتفال تقريب المصريين إليه وضمان انقيادهم إلى حكمه. وروى المقريزي، عن المؤرخ ابن الطوير، أن المولد النبوي كان ضمن 6 موالد استحدثها الفاطميون في مصر، إذ احتفلوا أيضاً بمولد علي بن أبي طالب ومولد فاطمة بنت الرسول ومولد الحسن والحسين سبطي النبي محمد ومولد الخليفة الحاضر.
أما عبد المنعم عبد الحميد سلطان، فيصف في كتابه "الحياة الاجتماعية في العصر الفاطمي" الاحتفالات آنذاك بالقول إنه: "كان الاحتفال بالمولد النبوي في الدولة الفاطمية يتميز بكثرة ما يوزَّع فيه من الصدقات والأطعمة والحلوى، فكان يخصص من "مال النجاوي"، التي يدفعها أتباع المذهب الفاطمي، مقدار 6 آلاف درهم توزع على سبيل الصدقة في هذه المناسبة. كما كان بعض رجال الدولة يجودون في هذه المناسبة بالصدقات الوافرة، فكان سناء الملك بن ميسر يوزع في هذه المناسبة على الفقراء والمحتاجين 400 رطل حلاوة وألف رطل من الخبز".
من جانبه، يشرح الكاتب حسن السندوبي في كتابه "تاريخ الاحتفال بالمولد النبوي من عصر الإسلام إلى عصر فاروق الأول"، أن الملك المظفر، الذي يُعَدّ من عظماء الدولة الأيوبية ومن أقوى أركانها، "كان يحتفل بإحياء ذكرى المولد النبوي بأسلوب كان مضرب الأمثال في العظمة والجلال، وكان يبدي فيه من العناية والبذل ما هو فوق الآمال". ونقل السندوبي عن سبط ابن الجوزي، أن "الملك المظفر في بعض الاحتفالات المولودية، كان يحضر عنده أعيان العلماء والصوفية فيخلع عليهم ويطلق لهم الهبات، ويعمل للصوفية سماعاً من الظهر إلى الفجر، ويرقص معهم بنفسه، وكان يصرف على الموالد في كل سنة 300 ألف دينار".
من بعد الفاطميين تمسك سلاطين المماليك بالاحتفال بالمولد النبوي. وتورد المصرية أسماء عبد الناصر محمد أحمد، في بحث أكاديمي عام 2022 بعنوان "الاحتفالات الدينية الإسلامية في مصر المملوکية"، أن "الاحتفال كان يبدأ في القلعة بتلاوة آيات من الذكر الحكيم، فيجتمع القراء ويتعاقبون على القراءة ويحب أصحاب الجوق الحضور لكثرة الإنعامات، ففي أحد الاحتفالات أنعم السلطان على كل جوقة بــ 500 درهم فضة، وعلى كل قارئ بـــ 400 درهم، وكذلك الأمراء أنعم كل واحد منهم بشقق حرير، في حين تميز احتفال السلطان قايتباي بالمولد بطابع خاص، فقد أقام خيمة خاصة عجيبة الأوصاف أطلق عليها "خيمة المولد"، وأنفق عليها 36 ألف دينار".
لم يتباين الأمر كثيراً مع مرور السنين. إذ يروي الكاتب حسن السندوبي أن نابليون بونابرت، قائد الحملة الفرنسية على مصر، سعى للتقرب من المصريين واستمالة قلوبهم إلى الحملة الفرنسية، بحيث أمر بالاحتفال بذكرى المولد النبوي، وكان يُدخل في هذا الاحتفال والمشاركة فيه شيئاً من الابتهاج والسرور على نفوسهم، ويُرضي عواطفهم.
في كتاب "المولد النبوي في مصر ونابليون بونابرت"، يقول عبد الرحمن الجبرتي إن بونابرت أمر بإقامة الاحتفال بالمولد النبوي الشريف، عام 1213هـ/1798م، من خلال إرسال نفقات الاحتفالات، ومقدارها 300 ريال فرنسي إلى منزل الشيخ البكري (نقيب الأشراف في مصر) آنذاك، وأُرسلت أيضاً إليه الطبول الضخمة والقناديل، وفي الليل أقيمت الألعاب النارية احتفالاً بالمولد.
"عروسة المولد".. رمز مصري خالص للاحتفال بالمولد النبي
تقول "الهيئة العامة المصرية للاستعلامات" إن حلوى "عروسة المولد" تُعَدّ من المظاهر التي ينفرد بها الاحتفال بالمولد النبوي في مصر، بحيث تُصنع من هذه الحلوى بعض لعب الأطفال التي تؤكل بعد انتهاء المولد، وهي "عروس المولد" للبنات و"الحصان" للأولاد. وتُعَدّ "عروس المولد" مصرية خالصة، واستمدت فكرتها من تقاليد مصرية قديمة، بحيث كانت في العصر الفاطمي تُصنع من السكر على هيئة حلوى وتجمل بالأصباغ، ويداها توضعان في خصرها، وتزين بالأوراق الملونة والمراوح الملتصقة بظهرها.
ووفقاً لبحث مصري مشترك (عام 2014)، بعنوان "الاستفادة من بعض عناصر الفن الشعبي المصري في إثراء المشغولة النسيجية باستخدام نظرية الفوضى"، فإن الحكام الفاطميين قاموا بتشجيع الفنانين على الاستلهام ثم الإبداع والابتكار، وكانوا يمنحون العطايا مما كان له أكبر الأثر في الفنان الشعبي. هكذا أبدع كثير من الفنانين من خلال نماذج من الحلوى، يأتي في مقدمها "عروسة المولد"، التي جعلوها براقة متلألئة بالألوان والزينة، في حين تأثر الشكل الجمالي لــ "عروسة المولد" بطابع الأزياء الفاطمية، التي تميزت بكثرة الزخارف والألوان.
وتُرجع المصرية عبلة البدري، استشارية الدراسات الاجتماعية والنفسية، تمسّك المصريين بمظاهر الاحتفال بالمولد النبوي حتى يومنا إلى خصوصية الاحتفالات الدينية لدى المصريين، بحيث تحتل الشعائر الدينية مكانة كبيرة. لذلك، فإن المصريين دائماً يحرصون على إقامة الاحتفالات الدينية سواء من منطلق ديني عقائدي، أو كنوع من أنواع إدخال البهجة والسرور إلى أنفسهم.
في منطقة ميدان رمسيس، وتحديداً شارع باب البحر، وسط القاهرة، زارت "الميادين الثقافية" مصنع "العربي" للحلويات. هناك التقينا محمد السنوسي الذي يعمل في صناعة العرائس المصنوعة من السكر منذ أكثر من 40 عاماً. يقول السنوسي إن نسبة الطلب على عرائس السكر انخفضت، بصورة كبيرة، خلال السنوات الماضية، حيث انتشرت العرائس البلاستيكية وأصبحت تمثل بديلاً قوياً.
أما عن أنواع العرائس المصنوعة من السكر، فيشرح السنوسي أنه "في بداية عملي في صناعة العرائس، كانت تلك المصنوعة من السكر تلقى رواجاً كبيراً، وكانت أشكال العرائس تتنوع وتتخذ أسماء متعددة، كـ "عروس هيلا هوب"، و"عروس قلب مقلوب"، و"عروس مروحة"، و"عروس الزفاف" و"عروس النفقة".
ويضيف: "لم يتبقَّ من تلك الأنواع سوى "العروس المروحة" التي ما زالت تُصنع باستخدام الأدوات والتقنيات نفسها التي كانت تستخدم لأكثر من قرن".
وخلال جولتنا في حي باب البحر، الذي يُعَدّ معقل صناعة حلوى المولد في القاهرة، التقينا أيضاً جلال الزهار، أحد أقدم بائعي الحلوى في الحي، بحيث امتلكت عائلته قبل أعوام مصنعاً للحلويات، وكانت عرائس المولد أحد أشهر منتوجات المصنع قبل إغلاقه.
ويقول الزهار لــ "الميادين الثقافية" إن "صناعة عرائس الحلاوة كانت تتباين كثيراً عما توجد عليه الآن، بحيث كان يصنعها حرفيون مهرة، ثم يقومون بتزيينها بأنواع متعددة من الميك آب، كما كانت ترتدي العروس فستاناً يصنع من الأقمشة الحقيقة، ويوضع لها شعر مستعار".
وعن طريقة عمل "عروس السكر"، يقول الزهار، "يوضع السكر في قوالب مخصصة لذلك، تحت درجة حرارة عالية، ثم يتم إخراج السكر الصلب من القوالب ويترك ليجف، ثم تبدأ مرحلة تزيين العروس". ولعل أكثر العرائس شهرة ورواجاً هي "العروس النفقة"، حيث يقوم العريس بشرائها وتقديمها هدية للعروس في ذكرى المولد، ويصل ارتفاعها إلى 70 سم ومصنوعة من السكر الخالص، بحسب الزهار.