منى جبّور: هل انتحرت الأديبة الحزينة؟
حازت مكانتها في عمر مبكر جداً وأصدرت روايتين قبل موتها عن عمر 22 عاماً وما زال رحيلها لغزاً. هل انتحرت منى جبّور أم ماتت بتسرّب الغاز؟
صباح يوم الجمعة 24 كانون الثاني/يناير من العام 1964 طوت كاتبة لبنانية سنواتها الــ 22، وغادرت حياة واجهتها برِوايتيْن جريئتيْن وعشرات المقالات. إنها منى جبّور، التي أتت من قريتها الشّمالية النّائية (القبيّات العكّارية)، ودخلت بيروت وبوّابتَها الثقافية بمفتاح الكلمة والصوت.
كانت جبّور، في حينها، صوت جيل ونساء وتعبيراً عن هموم وتمرّد. لكن صوتها ركد في بئر النسيان، ولا يُبعث إلا بسؤال يتيم يُطرح حين تستعاد ذكرى رحيلها: هل انتحرت منى جبّور في الحمّام؟ أم ماتت اختناقاً بالغاز؟
أوّلُ الغيث
يستعيد مفيد جبّور، شقيق منى جبّور، في حديث مع "الميادين الثقافية" سيرة شقيقته منى "المشاكسة، والمتمرّدة، والطموحة". فمنذ صغرها، حاربت الفتاة منى أسلاكَ تاء التأنيث والتمييز. أرادت متابعة التعلّم في منطقة لا تؤمّن مدارسُها للفتيات إلا التعليم الابتدائي.
ويضيف: "لكن بعد إلحاحها، تَقدَّم والدي والأهالي بعريضةٍ لإنشاء صفوف للمرحلة المتوسّطة".
قابلتْ منى شغفها وطموحَها على صفحات جريدة النهار، حيث "اشترك أحد المغتربين القادمين من فنزويلا بالجريدة التي تُوزّع على القرى كلَّ ثلاثاء وخميس".
وبما أنّ والد جبّور كان يشغل رئاسة مكتب بريد القبيّات، فكانت أعداد الجريدة تَبيت في منزل العائلة، وفي حضن وعيون منى. شغَفتْها عواميد ملحق "النهار" الثقافي، حيث اكتشفها الشاعر اللبناني الراحل أنسي الحاج. وعبر البريد، تواصلت منى مع سلمى عفيش الصحافية في الجريدة، وزوّدتْها بما كتبتْه من خواطر. لم تصدّق عفيش أنّ هذا القلم لم تتخطّ صاحبته الــ 15 من عمرها.
"من بيروت، وبالباص، وصلت عفيش إلى القبيّات". كان مشهداً يبشّرنا بأهميّة واستثنائيّة موهبة منى. أمضت عفيش الليلة في منزل آل جبّور رفقة أحلام فتاة مراهقة، "وفي الصباح، وافق والدي على طلب عفيش بالسماح لابنته بالنزول إلى بيروت"، لترسم منى شمس اسمها في سماء الأوساط الثقافية.
بعد إتمام منى جبّور البكالوريا بقسمها الأول، نفّذ الوالد وعده، "لكنّه اشترط أن أرافقَها"، يقول مفيد. هكذا استأجر مفيد ومنى شقةً في عين الرّمانة، وزاولا مهنة التعليم الرسميّ.
يستحضر جبّور يوميات لن تكفي هذه المساحة للإحاطة بتفاصيلها "عن أيام منى من الفجر إلى النجر، عن نبوغٍ بين التدريس والتحضير، واللقاءات الثقافية والنقاشات مع كبار الأدباء، وأمانة سرّ المنظّمة العالمية لحرية الثقافة مع جميل جبر، كما تنظيم وتنسيق الندوات الخميسيّة في نادي القصة، مع كتابة وتحرير مقالات في النهار، والحكمة، والجريدة، إلخ". لم تستهن جبّور بالوقت. فقد كرّستْه وقدّستْه لتحقيق "طموح لا محدود، يتجاوز العلاقات العاطفية والمسائل الثانوية".
يقول مفيد إنّه ومنى كانا "أكثر من صديقين". تَشاركا السكن، والأيام، والأمسيات وكذلك النقاشات مع منى "التي تواجه، تُحاجج وتُقنع. تحمل قضيةَ التمييز بين الرجل والمرأة. تثور على المفاهيم السائدة. بثورتِها وثروتها المعرفيّة، تطالب بالاستقلالية والحرّية. لا تَهاب مجتمعاً أو أحداً". يستذكر زيارتَهما إلى كمال جنبلاط في المختارة، حيث "ناقشتْه وجادلتْه حول أمور فلسفية ما ورائيّة. أعجب جنبلاط بعمق فكرها الأكبر من سنواتها العشرين. وأوكلَ إليها كتابةَ العمود الثقافي في صحيفة الأنباء".
منى جبّور.. "رواية يأس قصيرة"
مقالات منى جبّور في "الأنباء"، "النّهار"، "الحكمة" و"الجريدة"، جمعَها الأب مارون حايك في كتابه الصادر عام 2018 بعنوان "منى جبّور، رواية يأس قصيرة".
في حديثه معنا، يوضح الأب حايك أنّ التفتيش في أرشيف الصحف انطلق كمبادرة فرديّة، حيث غاص في الملاحق "ببحث شاقّ عن مقالات منى جبّور الثقافية، الوجدانية والاجتماعية المتضامنة مع العمّال والكادحين".
رافق حايك منى الإنسانة التي كانت "شابّة ثائرة على المنظومة الاجتماعية، عبقريّة ومبدعة سبقت عصرها"، كما حلّل سيكولوجياً روايتَيْها "فتاة تافهة" (1959) و"الغربان والمسوح البيضاء" (صدرت بعد رحيلها عام 1966).
يعتبر حايك أنّ جبور لملمت شظاياها الشخصيّة وحروقها الواقعية، وأورثتْها لبطلة روايتها الأولى "التي عانت مع المجتمع، والسلطة الذكورية". أمّا بطلتها الثانية، فهي صورة عن "منى بين القرية والمدينة، بين الشّرنقة والإحباط، والخروج إلى الضوء بعد التحرّر من السّوداوية بمحاولة النسيان"، مؤكداً أن عوالم كتابات جبور "تُطلق إنذارَ مصير مختومٍ بانتحارٍ أحمر بعد الوجع الأسود مع آلامها ومجتمعها".
مقالات نقديّة قليلة تلك التي استحضرت الرّوايتين من ناحية الأسلوب واللغة والأفكار. لكنّ بطلتَي الروايتين، ندى وكوثر، والفارق الزمني بينهما (4 سنوات) يصوّران النضج والاختلاف اللذين عاشتْهما منى جبّور جغرافيّاً وفكريّاً واجتماعياً. غير أنّهما اجتمعتا في غابة عدم الاستقرار النفسيّ. ترافقتا لمواجهة أسئلة وجوديّة في مجتمع ظالمٍ. فندى المتمرّدة ترفض مجتمعها وجسدها وتقول: "يا يسوع لماذا كوّنتَني فتاة؟"(ص67). تريد أن تكون كياناً لا يستمدّ شرعيّته من أمومة أو شهوة. لكنّها تعود وتلتحق بقلبها وجسدها بعد مدّ وجزرٍ مع رغبتها.
أمّا كوثر، فتنظر للرجل كشريك "ألتقي عبر شفتيه مع الله" (ص189)، إلّأ أنّها لا تطمئنّ لحبّ يريد انتشالها وتفتيت صخور داخلية تَتوق لهواء حرّ. حفرت ندى أيضاً على هذه الصخور، طيلة مسير ومصير ينتهي بِـ"أسير، وأسير وأسير... دون أن أدري إلى أين أمضي" (ص168).
اللّيلة الأخيرة
يحتفظ مفيد جبّور بحقّ نفيه كلَّ التحليلات حول انتحار منى جبّور: "ما برحَتْ منى تتوق لتذوّق الحياة المنكّهة بالطموح. سنَتَذاك، تابعت صفوفَها في مدرسة ليليّة لنيل شهادة القسم الثاني. وكانت بانتظار ردّ يوسف حبشي الأشقر الذي سلّمتْه مسوّدةَ (الغربان والمسوح البيضاء) قبل أسبوع من الحادثة".
ويضيف: "بعد وفاتها، سلّمني إياها مثلما تسلّمَها. كما جهّزتْ جوازَ سفرها للمشاركة في ندوة نسائية في العاصمة الأردنية".
وللمرّة الأولى، يسترجع جبّور الليلة الأخيرة: "كانت طبيعيّة. وكما جرت العادة، تحاورْنا: تناقشنا في الحياة الرهبانية وأبعاد التقشّف إبّان قراءتنا كتاب "Dialogue des carmelittes". واتّفقنا على تناول الغداء في اليوم التالي، قرب مكتبها في المنظّمة العالمية لحرية الثقافة. عند الظهيرة، وبعد انتهاء دوامي في مدرسة الحكمة، عُدت إلى الشقّة. كان ضوء الحمّام مضاءً. استعجلتُها. ناديتُ عليها. كرّرتُ النداء، وكرّرتُ: منى، منى...".
خلع مفيد الباب....هنا منى، هنا عيناها، هنا يداها، هنا قلبُها المثقَل بالغاز، وهنا روحها المغتسلة بماء الألغاز.
بين همسات وتأكيدات أدبيّة وسيكولوجيّة من جهة، وبين بيّناتٍ أخويّة من جهة أخرى، تبقى حقيقة منى جبّور مع شابّة صادقت وامتهنت كلمةَ "لا". لم تدفنْها. امتشقتْها. وقفَتْ على رأس ألفها. حاربت بها. كتبت معها. وعلى قبرها، زرعتْها صرخة وذكرى .