ملحمة الدراويش
يا صديقي التقينا عند ضفتي نهر، نبحث عن جثتينا، وقد قتلتنا القبيلة ولم تعترف.
-
ليلة مرصّعة بالنجوم فوق نهر الرون، فنسنت فان غوخ
أنا يا صديقي
عِمارة منهارة
لم تستسلم جدرانها بعد
لم يخرّ طينها ساجداً
لِمعول الهادمين
لم تلفظ أنفاسها
وهذا انتصارها
أنها برغم جمادها
على قيد الحياة
تعانق بعضها بعضاً بحب
لا تملكه حتى قلوب الآدميين
وتنظر إلى العالم من تحت، ذات النظرة الشامخة من فوق
**
أنا يا صديقي تراب
مسافر
متناثر
لا يجتمع في كف
ولا يستقر على كتف
حتى إذا اقترب من تنور القلب
أحرق وجهه العشق
رغيفاً أسمر
تأكله الحياة
أنا يا صديقي مِرجل يغلي بالمعاني
لم تُفقِده الأتربة المتعلقة فيه
طعمه ولا جوهره ولا بريقه ولا صوته ولا معناه
أنا جرحٌ يقتله محبّه ويبكي
عصفورٌ يريد له العاشق جدران سجن
ويريد لنفسه أفق الحياة
يجلده سجَّانوه ويبكون
ويمنع عنه الجبابرة رغيف الخبز
فيكدح كما يكدح الشامخون
ليأكل فتات خبزه برغيف العز
ولا يجلس على موائد الظالمين الفاخرة
**
أنا رقصة شرقية لدرويش ليلة وصال
هربَت إلى الغرب فعانقت رقصة لدرويش مثلها فالتحما
درويشان من عالمين يشبه فيه الدراويش بعضاً
أنا ألوان صوفية للوحة زاهية تتجدد فيها الحياة
وينمو على جدرانها الوقت
يسقيها رسّامها حباً فتكبر
وحبراً فتكاد تنطق
وربما نطَقَت فسمعتها القلوب بمختلف اللغات
**
أنا يا صديقي آخر انعطافات الطريق
وآخر المسافات
أمّا تلك النزهة الوردية
فتفقدني
وتجدني مختبئاً في سلة ورد
وعلى جناحَي فراشة
وفي قلب عطرٍ جنوبي
لدحنونة عاشق رواها طفل
وغنّى لها في الليل لتنام
فإذا بها قد همّت بالرحيل
وأفاها حتى آخر قطرة عطر
وحبس دمعه في دفتر الذكريات
**
يا صديقي
أنا لهفة يحبسها صاحبها 20 عاماً
بل 25
لهفة خانقة مرّت كلحظة خاطفة
لصورةٍ من عالم آخر
فتوقف الزمان
ولم يجد صاحبها أجمل منها
فكررها ليل نهار
وعند كل مائدة
أنا ناقوس كنيسة مهجورة
حتى إذا عاد إليها كاهنها لينفض الغبار
صرخ الناقوس بالقرى المجاورة
قوموا.. لأعظكم
يا مدمنو النسيان كأبيكم آدم
محنَّطون أنتم كمومياء متأففة
تضع الكحل على عينيها
وتنتظر قبلة الموت منذ 20 ألف عام
لكن الميعاد يخونها
فتخلد لنومها
وتستيقظ في الغد معاودة إغواء الموت
وأنت يا صديقي
تحاور الحياة بلسان فصيح
ويدان مبتورتان
تحضن حزنك بذراعي القلب
وتعطي حمرة خدك للشمس
لعلك تنمو كما تنمو الأشجار
وتخضرّ كما الغصون
يحتويك الحب والسكينة
فتشتعل أوراقك حكمةً
وتحبل بالمعاني والثمار
حتى إذا جاء قاطفوك ليأكلوك
رموك كما تُرمى ثمار جوز الهند العالية
أما عشّاقك فتتدلى إليهم لينالوا فاكهتهم
**
يا صديقي التقينا عند ضفتي نهر
نبحث عن جثتينا
وقد قتلتنا القبيلة ولم تعترف
فوجدتُ أنا جثتك ووجدتَ أنت جثتي
وأتيتني كأنك نفسي فقلت لك
البسني يا حبيب العمر
وأنا ألبس وجهك وأحمل قلبك
أما أنت فعد إلى قبيلتي
ودعني أطوف هنا
على أجساد التائهين مثلي
أغيِّرُ كل يوم جسداً
وأحكي كل يوم لغة
وأكتب كل يوم قصيدة
اتركني هنا مرمي على ترابي
لا أعرف أي جسدٍ ألبس اليوم
لكني لا أغيّر قلبي
اتركني لتحرقني الشمس
كما فَعَلَت بسيدي الحسين
لكني لا أملك قلباً ليُقتَلَ رضيعي
لذلك سأترك هنا جسداً واحداً
وأنوح صامتاً مدى الدهر
لا يعرف حزني سوى الذين رأوني أدفن نفسي في كربلاء
وأصرخ، أصرخ يا صديقي
أخرج من تحت التراب
أرفع قبعتي
فيتعرّف المارّون عليًّ
وتقول الجميلات همساً
وخط الشيب لحيته
قلنا مات
لكنه عاد
والله وحده عالم بالغيب
ربما تزدحم طريق الماء حينها
لكن قلبي لم يجد شمساً
تضيء جميع فصوله
لأن الجمال أفقدني حروفي
فرُحت أبحث في القرى
عند السواقي
ألملم لغتي من صفحات وجه المرهفات
وأحمل في جيبي كتاباً
بالأسامي والصفات
وألتزم القواعد
أعرب ما تحته خط
وأعرب ما وراء السياج
ويعربني الكحل
واللطفُ
وصوت ملاعق العقل
وأحِبُّ أن تقول الأنثى "لا "
أتظلُّ أنثى؟
إن قالت الأنثى "لا"؟
أتظلُّ أنثى
سأقول لك
الأنثى هي أن تقول "لا"
وها أنا وأنت يا صديقي
تذرونا الرياح
وتهدأ سكرة الأقداح
ونعرف من مكاتيب الريح
عناوين أحبتنا
من رحلوا
ومن بقوا
ومن استراح
وها أنا يا صديقي من وراء الغيم
أكتب دفتري
أنثر أشعاري
حتى تصير الكلمةُ كالقنبلة
ويصير الحرف سكّيناً
والفم مدفعاً
يا صاحبي
حتى يذيب الحق أطنان الحديد
ويذيب دم الطفل المسجّى تحت الركام
أساطير البلد الجديد
**
الموت يصرخ ارحموا جسد الصغار
الموت يبكي في مدينتنا مع المعزّين
الموت رتّب موعد اللقاء
أمّ وطفل أخ وأخت أب وجدّ
الطائرات أكثرنا وصلاً لأرحام العائلة
لم تُبق غير الأسماء
سكان سمائنا صاروا أكثر من سكان الأرض
يا لسكان السماء
يا لأطفال السماء
يا للهفات المراجيح السماوية
وخشخشات الألعاب السماوية
والمهد السماويِ
أيا إلهي كل قبورنا أطفال
أحربٌ هذه
أم حفلة قرابين
أي الآلات الموسيقية أكثر حزناً
أي نوتة
أيُّ سُلَّم
من يغني صوت الموت
لحن خرير الدم
نهر الطفل الأحمر
هل تستحق الأرض كل هذا
يا للأرض
يا لأقدام الدراويش يمرون عليها
أمّا نحن يا صديقي
أنا وأنت
إذا السماء انفطرت تعانقنا
كشجرةٍ أنا على الأرض
وأنت في السماء
لكن لا تنسيك الخمرة يدي
ولا تنسيني الخمرة يديك
تبتسم فأبتسم
وتنفخ فيَّ الروح
فأكتب باسمكَ
ملحمة الدراويش!