معرّي اليمن.. عبد الله البردّوني: ليس شاعراً فحسب
يختلف اليمنيون في كل شيء إلا حول عبد الله صالح البردّوني. من هو هذا الشاعر الضرير الذي لقّبه البعض بــ"معرّي اليمن"؟
يختلف اليمنيون في كل شيء إلا حول عبد الله صالح البردّوني (1929– 30 آب/أغسطس 1999). فهو بالنسبة لهم أكثر من مجرد شاعر، بل هو الضرير الذي يرون من خلاله اليمن بصورة مختلفة وينظرون إلى المستقبل. كما أنه الفقير الذي يجدون في نصوصه، حاجتهم إلى النقد والسخرية والتمرّد والصراحة والهجاء والفكاهة والوصف للزمان والمكان والإنسان وغير ذلك.
والبردّوني الذي يلقبه البعض بــ "معرّي اليمن"، نسبة إلى أبي العلاء المعري، هو أيضاً المناضل الشجاع الذي لم يذق مرق السلطة ولم يرق لها، والسياسي الذي حمل همّ اليمن وعناء اليمنيين وحزنهما معاً، حتى رحل تاركاً خلفه إرثاً فكرياً ومعرفياً لا يقدّر بثمن، ولا يزال يعاني الإهمال كما عاناه صاحبه في حياته.
تمرّ اليوم الذكرى الــ 25 لرحيل البردّوني، أحد أبرز الشعراء العرب في القرن العشرين، وأكثرهم سعياً للتجديد في القصيدة العربية الحديثة وبنيتها شكلاً ومضموناً، بل قد يكون متفرّداً إلى حد كبير عن أقرانه باعتباره أيضاً ناقداً وباحثاً ومذيعاً وكاتباً في التاريخ والأدب والفكر والسياسة، وكل ذلك جعل من رحيله خسارة للمشهد الثقافي اليمني والعربي.
ولد عبد الله صالح البردوني في قرية "بردّون" بمحافظة ذمار، وعند بلوغه الخامسة من عمره بدأت معاناته، فقد أصيب بالجدري وفقد على أثر ذلك بصره بشكل تام، ثم انتقل إلى مدينة ذمار طلباً للعلم، ومنها إلى صنعاء التي عمل فيها مدرّساً للأدب في المدرسة العلمية، وتنقّل في عدد من الوظائف الحكومية منها إذاعة صنعاء.
معاناة وإهمال
على أن الحكومات المتعاقبة في اليمن، سواء تلك التي عاصرها الشاعر أو التي أعقبت رحيله، لا تختلف على فرادة إبداعه وأهمية مؤلفاته، لكنها مجتمعة قصّرت في إنصافه إلى حد الإهمال والظلم كما يرى مريدوه، رغم أنه "لا يحتاج إلى الإنصاف؛ فهو فوق مستوى ذلك وفوق أي مقارنة أو مساواة.. هو الإبداع، وهو كوكب من صنوف الإبداع الإنساني المتفرّد المذهل"، كما يراه مشرف الملحق الثقافي لصحيفة "الثورة"، محمد القعود.
بل إن ممارسات الإبعاد والإقصاء للبردّوني حياً وإهمال الحكومات له ميتاً، لم تترك أي أثر على مستوى الاهتمام والإقبال على مؤلفاته ودواوين شعره في الوسط الثقافي والمجتمع ككل سواء في اليمن أو المنطقة، فإنتاجه الثري وإبداعه الفريد يفرضان نفسهما على القرّاء وحتى الباحثين والدارسين، وثمة العديد من الدراسات والأبحاث – يمنية وعربية من الخليج إلى العراق والشام ودول المغرب العربي – متخصصة في شعر البردّوني وفكره لا تزال تصدر إلى اليوم، بحسب رئيس "الهيئة العامة للكتاب" في اليمن، عبد الرحمن مراد.
ويضيف مراد من واقع معرفته بالبردّوني واهتمامه به في دراساته، في حديث إلى "الميادين الثقافية": "البردّوني شاعر ومثقّف عصي على النسيان، فهو ليس شاعراً عابراً، بل ظاهرة ثقافية وأدبية انحازت للإنسان والمكان وابتعدت عن السلطة ورجالاتها، فجاءت قصائده معبّرة عن المواطن البسيط بكلّ همومه ومعاناته واحتياجاته، وحضر الوطن في كثير من أعماله".
أصدر البردّوني خلال مسيرته الأدبية 8 دراسات، و12 ديواناً، وله العديد من المخطوطات التي لم تطبع، منها ديوانان ودراسة وكتاب ورواية، غير أن هذه الأخيرة لا تزال مجرد كلام يتمّ تداوله ولم يتمّ توفير مخطوطتها كما يفيد مراد، ويؤكد أن الهيئة طبعت خلال العام 2022 ديوانين جديدين، كما نسّقت لإعادة طباعة الأعمال الكاملة للشاعر بما فيها الإصداران الأخيران، ويتوقّع أن تبصر النور قريباً.
رئيس "الهيئة العامة للكتاب" في اليمن قال إن للبردّوني أكثر من 800 حلقة إذاعية بحاجة إلى التدوين وعشرات الدراسات في الشعر والأدب والسياسة نشرت في صحف ومجلات متعددة، وهي تستلزم البحث والجمع في كتب جديدة، لافتاً إلى أن "الهيئة العامة للكتاب" لا تمتلك الإمكانيات المادية التي تساعدها على القيام بالدور المنوط بها، وهي بحاجة إلى الدعم لتتمكّن من ذلك.
صراع مع السلاطين
عاش صاحب ديوان "جوّاب العصور" في صراع مع الحاكم، غير راضٍ عن ممارساته التي رآها تسيء للشعب والثورة والوطن والحرية، واصفاً الحكّام بالطغاة والذئاب وحتى المغول. فقد كان ينظر إلى الواقع من حوله من خلال حواسه التي لم يفقدها. يناجي الليل والجدران ويتجادل مع المكان بعد أن يضفي عليه الروح فيخبره الآخر بالبؤس ومرارة العيش في واقع تتخاطفه الأطماع ويسوقه البلهاء نحو العتمة.
واستخدم البردّوني اللغة الشعرية التي تمكّن من انتزاعها من البيئة المحلية اليمنية وإدراجها في سياق النص الشعري الفصيح بأسلوب ممتع، معتمداً على المفارقة والرمز الإنساني في الأبيات، وهذا النوع من الأسلوب الشعري جعله قريباً من القارئ، وأكسبه المزيد من الاهتمام المجتمعي، وفي الوقت نفسه ساهم في اتساع البون بينه وبين السلطة إلى الحد الذي جعل الحكومة تقاطعه، وقد تجلّى ذلك برفض وزير الثقافة في زمن وفاته، عبد الملك منصور، حضور حفل التأبين.
في حديث إلى "الميادين الثقافية" يقول محمد القعود عن البردّوني إنه: "كان متمرّداً على السائد من الفكر الراكد والآسن والخامل، والرافض لكل إرثٍ وطرحٍ جامد وبليد ومتحجرٍ يتنافى مع العقل والمعرفة والعلم والتطور واليقين، ويتناقض مع إرادة وحرية الإنسان وطموحاته وتطلّعاته وصيرورة الحياة".
ويضيف عن مواقفه "لقد كان ولا يزال ضمير الأرض والإنسانية، والضمير الجمعي لمجتمعه وشعبه؛ فهو ضدّ كلّ موانع وحواجز ولاءات تحدّ من التطلعات والطموحات المشروعة التي لم تدجّنها وتكبّلها وتشقيها قيود وأغلال وسياط الطغاة وجلاوزة وأعداء الحرية والإبداع والتطور والكرامة وإرادة الإنسان السوّي والشعوب الحرة في صناعة وبناء الغد والعالم المزدهر والمشرق البهي".
ونتيجة لذلك، عاش البردّوني حياة صعبة يصارع تقلبات أوضاع معيشية شديدة، زاد وطأتها مرض زوجته، حتى زعم أن البردّوني اضطر لبيع ديوانه "أحذية السلاطين" لأحد الأطباء مقابل أن يداوي زوجته، علماً أن هذا الحديث لا دليل عليه، لكن المؤكد، بحسب رئيس "الهيئة العامة للكتاب"، أن البردّوني ظل يتقاضى مرتباً من الدولة لا يكاد يذكر وربما دون المستويات الدنيا.
استشراف المستقبل
فقد البردّوني بصره في سن مبكرة لكنه استطاع بما امتلكه من حرص ورغبة وطموح أن يتغلّب على العمى. إذ كرّس حياته للاطلاع والبحث مستعيناً بكثير من الشغوفين لمجالسته والاستماع إلى حديثه وفكاهته وإبداعه وقراءته الدقيقة للواقع وتنبؤاته للمستقبل، فكان البعض يقرأ له الكتب والمراجع والروايات والدواوين، فيما يدوّن عنه آخرون، وكان هو في نظرته للمستقبل يقرأ ما سيكون مما كان، وما هو كائن بالقياس والسببية.
في هذا الإطار يقول الباحث علي جاحز، في دراسة بعنوان "حداثة البردّوني الشعرية"، إن البردّوني "استقى رؤيته للقادم البشري من داخل السواد المعتم الذي يحيط به من كل اتجاه؛ لأنه يرى غير ما يرى الآخرون ويسمع بطريقة تختلف عن الكل".
ويضيف: "استقراؤه لمقتضيات ما يدور إنسانياً يبدو أكيداً من خلال إخراج رؤيته من دائرة الهذيان والتحليل الجاف إلى فضاء الفن الشعري الذي يجعل من تنبؤاته قيماً ثابتة".
نجح البردّوني في التنبؤ بالوحدة والثورة وتالياتها وبالحرب. هكذا جسّدت قصيدة "مصطفى" معنى الصمود في وجه العدوان، وكانت بمثابة توجيه معنوي للأرض والإنسان.