لوحات من غزّة: الحياة تحت النار
ليست الألوان هنا مجرد ألوان، إنها شظايا من سماءٍ حُجبت بدخان القنابل، وبقايا بيوتٍ مزقتها الحرب. إنها ريشة باسل المقوسي الذي يُحيل طائرات العدو إلى كائناتٍ أسطورية في لوحاته، بينما يُمسك ماجد شلا بفرشاته ليزرع البساتين والصبار في قلب الدمار.
-
(سهيل سالم)
حين تكون في عمّان وتعلم أن ثمة معرضاً تشكيلياً لرسامين من غزة، تلغي كل مواعيدك وتذهب إلى حيث المعرض كي ترى ماذا يرسم فنانو غزة وهم في جحيم الإبادة الهمجية، وتحت نار العدوان الإسرائيلي المتواصل منذ سنتين.
وحين تجول على اللوحات المعروضة ستدهشك تلك الإرادة الهائلة التي تجعل هؤلاء الرسامين الباحثين عما يسد رمقهم ورمق عائلاتهم، يستنبطون الألوان من مواد بسيطة في قطاع ممنوع عليه الأكل والشرب، فما بالك بالمستلزمات الفنية؟
في قلب العاصمة الأردنية، وعلى تلة جبل اللويبدة حيث تقع "دارة الفنون" بين أحضان الحاضر والماضي، وتشهد حجارتها على حقبات تعاقبت عليها وعلى عمّان، تبدو لوحات معرض "تحت النار" شهوداً على إبادة جماعية لا تني تتواصل، شهود تم تهريبهم رغم العدوان والحصار كي يرى العالم أن إرادة الحياة أقوى من وحشية الإبادة.
هنا، في هذه البقعة التي تحتضن الذاكرة وترنو نحو المستقبل، تُعرض شهادات مصورة تنبض بألمٍ صامت وصراخ ملون، في معرض مقاوم للنسيان أبوابه مفتوحة للزائرين حتى 30 أيلول/سبتمبر الجاري.
هذه اللوحات التي أُنقذت من بين براثن النار، تحمل قصة 4 فنانين من غزة لم تكسر الحرب أقلامهم، ولم تثنِ إرادتهم جريمة الإبادة الصهيونية، ولا أثقال المعاناة اليومية من قصف وتهجير، ولا انعدام الماء والكهرباء والطعام.
إنهم باسل المقوسي، وماجد شلا، ورائد عيسى، وسهيل سالم، الذين بدأت علاقتهم بهذه الدار منذ نهاية تسعينيات القرن الماضي، حين شاركوا في أكاديميتها الصيفية تحت إشراف الفنان السوري، مروان قصاب باشي. عادوا إلى غزة حاملين حلم الفن، فأَسسوا صروحاً ثقافية تُضيء في ظلمة الحصار: "التقاء" و"شبابيك". واليوم، ها هي تلك الصروح نفسها، ككثير من بيوتهم وأعمالهم، تحت الركام بفعل وحشية الاحتلال الإسرائيلي وهمجيته.
لكنهم يستمرون. يرسمون بأقلام الحبر الجاف على دفاتر مدرسية، وعلى ظهر عبوات الأدوية والأوراق المتناثرة. يستنبطون ألوانهم من الشاي والرمان والكركديه، لأنهم يرفضون أن تموت لديهم القدرة على القول، حتى وهم تحت النار.
ليست الألوان هنا مجرد ألوان، إنها شظايا من سماءٍ حُجبت بدخان القنابل، وبقايا بيوتٍ مزقتها الحرب. إنها ريشة باسل المقوسي الذي يُحيل طائرات العدو إلى كائناتٍ أسطورية في لوحاته، بينما يُمسك ماجد شلا بفرشاته ليزرع البساتين والصبار في قلب الدمار، مؤكّداً أن الجذور هنا أعمق من كل شيء.
وفي زاوية أخرى، يحوّل رائد عيسى النازحين إلى رموز وصور تروي حكاية الانتظار تحت الخيام والأشجار المحترقة، بينما يصوغ سهيل سالم بأنامله وأقلام حبره على دفاتر مدرسية وجوهاً لا تزال تحلم، رغم كل شيء، بزهرةٍ تنمو.
هذه اللوحات ليست مجرد أعمال فنية، بل شهادات حية تعكس إصرار هؤلاء الفنانين على الاستمرار رغم فقدان منازلهم ومراسمهم والكثير من أعمالهم السابقة. يقف فنهم اليوم شاهداً على حرب الإبادة الجماعية المستمرة، وشاهداً أيضاً على إصرار الحياة على الظهور حتى في أحلك الظروف.
هذا المعرض في "دارة الفنون" ليس للعرض فقط، بل للاستماع. إذا أمعنت النظر، ستسمع صوت فرشاة تتحدى دوي القنبلة، وهمس طفل يرسم قوس قزح على جدار متهدم، وصلاة امرأة تروي بدمعها زهرةً في أصيص محطم. إنه صوت الحياة التي ترفض أن تُهزم.
عندما تغادر هذا المكان الواقف بشموخ في جبل اللويبدة، لن تحمل معك فقط صوراً لمعاناة يظنها البعض بعيدة، بل ستحمل يقيناً بأن الفن هو آخر حدود الكرامة الإنسانية، وأول أساليبها في النضال. هؤلاء الفنانون لم يرسموا ليُذكّروا العالم بأنهم يموتون، بل رسموا ليُذكّروا العالم بأنهم أحياء.
"تحت النار" معرض يقول للعالم إن الإنسان هنا لا يزال يرسم، ويحلم، ويقاوم، حتى تحت القصف ورغم همجية العدوان.