عن نجاح واكيم و«حقائقه» الجارحة... دونكيشوت في مجاهل السياسة اللبنانيّة

أيها اللبناني، لا تقرأ كتاب نجاح واكيم! اللهم إلا إذا كنت صلباً بما فيه الكفاية، وعنيداً مثل صاحب الكتاب. إنها حكاية تختصر أوجاعك ويتمك، وتقول وطنك المستحيل!

في المقهى الذي أرتاده، عندي صديق اسمه محمد. محمد هو النادل، يحدثني أحياناً في السياسة، ويخفض صوته طبعاً حين تكون الطاولات المجاورة مأهولة. لا أعرف ما الذي خطر بباله ذلك اليوم! من دون مناسبة أو مقدمات قال لي: «بكل هيدا الطقم السياسي، هناك شخصية تعجبني كثيراً، وتوحي لي بالثقة". خير؟ مين؟، «الأستاذ نجاح واكيم، رجل فظيع!». (لو أنه يعرف الحكاية التي يذكرها الأستاذ نجاح في الكتاب، عن والده لحظة إعلان الزعيم جمال عبد الناصر عن تأميم قناة السويس، لاستعمل محمد العبارة نفسها الآن: «يلعن دينو زلمة»). مد إلي هاتفه المحمول، بعد أن شغل الفيديو، من دون أن ينتظر رد فعلي. لقطة شهيرة عمرها ربع قرن، لنجاح واكيم ممتشقاً منبر المجلس النيابي، يزأر كعادته رافضاً تلك «المادة المخالفة للدستور»، وقرار الاستدانة بالعملات الصعبة. كنا أمام أول مليارين ورطنا بهما الرئيس الشهيد رفيق الحريري رحمه الله، مع الرئيس السنيورة أطال الله بعمره، بتواطؤ من شركائه في السلطة، وبمباركة أكثرية ممثلي الشعب. أضاف محمد، وهو يسترد مني موبايله: «قال لهم: هذا دين ستورثونه لولد الولد».

محمد، شاب بعلبكي، هو اليوم في عمر نجاح واكيم حين دخل المعترك السياسي. لم يعاصر الحريرية السياسية، لكنه يتحمل كالآخرين عواقبها الوخيمة. ليس له الآن إلا التسكع في الزمن الافتراضي بحثاً عن وطنه الممنوع. وقد اهتدى، في هلام "غوغل"، إلى صوت قادر على مخاطبته. دعسات صغيرة من رحلة طويلة صاخبة، تشكل مساراً سياسياً فريداً، أقرب إلى الأدب الرومنسي، أقرب إلى «الخرافة السياسية» Political fiction، منه إلى السرد المنطقي. هذه هي صورة نجاح واكيم: عابرة للحقبات والأجيال والشرائح الاجتماعية! يا لها من مصادفة يا محمد! وصلني للتو كتاب الأستاذ نجاح «الحقيقة الكاملة والحروب المتكررة» (منشورات «كتب»). مساء ذلك اليوم بدأت بالقراءة.

هذه ليست مذكرات سياسية بالمعنى التقليدي الذي نعرف. هذا مونولوغ طويل، لرجل أمضى حياته السياسية يغرد خارج السرب، يصارع طواحين الهواء. قصة شاب مسكون بالأفكار الكبيرة، وجد نفسه عنوة في عالم ليس عالمه، عالم من الدجالين والانتهازيين، واللصوص والمرتزقة. بطلنا يحمل سيفاً من كرتون، به يقارع وحوشاً أسطوريين ينفثون لهباً وسموماً، ورغم الأعاصير يتشبث بدوره على خشبة المسرح! بطل يتكلم لغة غريبة، لا تشبه لغة معاصريه في الطبقة السياسية اللبنانية. يدافع عن المثل والمبادئ، عن الحق والعدالة والعروبة، وحده ضد الجميع تقريباً. صديقنا «دقة قديمة»، دقة ناصرية قديمة، يعتبر «إسرائيل» عدواً مطلقاً، فيما الحريري الأب يراهن على «السلام»، كي يأتينا بالربيع الزاهر، وعلى التوطين كي يشطب الديون التي راكمها علينا لتمويل الهدر والسرقة والفساد. 

و«سانتا كلوز» الإعمار هذا، لا يمانع من بيع أسهم "سوليدير" لمستثمرين إسرائيليين. أما خطة النهوض الاقتصادي التي وعد بها اللبنانيين، فبناها كما يكتب نجاح واكيم، بكل بساطة، على أساس "الشرق أوسطية"، واستتباع لبنان بـ "المشروع الإسرائيلي للاندماج الإقليمي". مرة قالها واكيم للحريري والسنيورة والحاضرين في اجتماع للجان النيابية المشتركة: «هل سمعتم على مدى التاريخ، أن عاصمةً تباع أسهماً في البورصات العالمية، وأن لا شيء يمنع العدو الإسرائيلي من شراء هذه الأسهم؟».

إذا أردنا أن نلخص مسار نجاح واكيم السياسي، كما يرويه في الجزء الأول من «مذكراته»، بلغة مباشرة وصدامية ونزقة وعفوية وذاتية وصريحة وموجعة وفاضحة، فسنقول إنه سلسلة متواصلة من المعارك النبيلة، من المعارك الشجاعة، من المعارك البطولية. لكنه أيضاً سلسلة من المعارك الخاسرة، خذله فيها معظم الذين راهن عليهم.

«... مجلس النواب أقر مشروع القانون الذي قدمته الحكومة (يتحدث هنا عن قانون غازي كنعان في العام 2000)... حاولت أن أجمع تواقيع 10 نواب من أجل الطعن بالقانون أمام المجلس الدستوري، فلم أتمكن. وبقيت وحيداً». وفي مكان آخر يكتب: «ليس هناك أصعب من أن تجد نفسك وحيداً، تقاتل على جبهات عدة، وسط عصابة من اللصوص والنصابين». وبعد كل خسارة، كان ينهض، ينفض عنه غبار المعركة، ثم ينتقل إلى مواجهة جديدة. ويستأنف دحرجة الصخرة إلى قمة الجبل من جديد.

«الحقيقة الكاملة والحروب المتكررة»، جزء أول من مذكرات سياسية غير تقليدية (يبدأ في الـ 1970 وينتهي في الألفين)، غير تقريرية، غير معنية بالتأريخ الدقيق والاحاطة بكل التفاصيل. إنها «ذكريات» كما يقترح الكاتب، لها تسلسلها الزمني الخاص، المبني حول محطات أساسية ومفصلية في تاريخنا المباشر... ذكريات، إذاً ذاتية حكماً، نسمعها من وجهة نظر الراوي الذي يقول لنا بصراحة، ومن البداية، من يحب ومن يكره! إنه الشاهد الملك على الأحداث: من موت جمال عبد الناصر إلى «كامب دايفيد»، من دخول قوات الردع العربية إلى القمة العربية الاستثنائية في المغرب حيث «تخلت سوريا عن الورقة الفلسطينية مقابل إعطائها نصف الورقة اللبنانية»، من خروج المقاومة إلى «أوسلو»، من «اتفاقية 17 أيار» إلى حرب المخيمات، ومن الحرب الأهلية التي رآها تتشكل أمامه إلى «اتفاق الطائف» (أو: «وثيقة الوفاق الوطني اللبناني»)... مروراً بالجزء المحوري للكتاب: صعود «الحريرية» الذي لا يقاوم (بالإذن من برتولد بريشت صاحب «صعود آرتورو أوي الذي لا يقاوم»)، أصل كل الانهيارات السياسية والاقتصادية والاخلاقية والاعلامية والاجتماعية، والانحطاط الذي يتخبط فيه لبنان اليوم. 

إنه لمسار فريد حقاً ليس لديه ما يعادله في الحياة السياسية اللبنانية. كيف شق طالب الحقوق الناصري طريقه في أدغال السياسة اللبنانية التي ليس هناك ما يؤهله لدخولها؟ فهو لا ينحدر من الاقطاع السياسي، لا ينحدر من الطغمة المهيمنة، لا ينتمي إلى أي من الأحزاب التقليدية، الطائفية، لا يمثل حتى طائفته، لم تأت به السعودية، ولا عيّنته سوريا، لا ينتمي إلى شبكات المنافع والمافيات المالية والوصايات المختلفة التي تصنع السياسيين في لبنان. جاء الحياة السياسية أعزلاً لا يملك إلا أفكاره ومشروعه السياسي الوطني، وحملتْه إلى المجلس النيابي موجة عروبية ناصرية كانت تستند إلى قاعدة شعبية حقيقية... فقد كان ذلك ممكناً في السبعينيات المجيدة. 

ولعل خلفيته الثقافية، وأصوله الطبقية المغايرة، وعدم انتمائه إلى «الاستابليشمنت»، من العوامل التي عززت وجوده ككائن على حدة في هذا المشهد، وصنعت مساره المختلف، وأعطته مناعة ضد ترغيب «خيك أبو بهاء» في بيروت، وترهيب الأخ «أبو جمال» في دمشق، ورسخت عنده إلى اليوم هذه الاستقلالية، وتلك الجرأة، وهذا العناد... وكل ما يندرج في خانة «التفاؤل الثوري». ناهيك بحرية التفكير والابتكار، فقد دفع صديقنا فن الـ «الخيال السياسي» إلى حد محاولة اقحام (الكاتب والناشر) سهيل إدريس، و(الفنان) زياد الرحباني، و(المعمار) عاصم سلام، و(الصحافيين) أمين قمورية وسايد فرنجية في الانتخابات النيابية (ترشح الأخيران في انتخابات 1992، ولم ينجحا).

على امتداد فصول الكتاب، تجده يبدأ كل مرة من الصفر، لا تثنيه الهزائم والخيبات والخيانات. يخسر معركة، فيخوض معركة جديدة بكل تفاؤل وأمل، ويصطدم بالجدار نفسه. فأباطرة السلطة محصنون داخل «نظام» هو على صورتهم ومثالهم، يقوم على المصالح الضيقة والصفقات وتبادل المنافع والتبعيات للخارج. وفي هذا النظام، من الصعب جداً، بل من شبه المستحيل، أن تفتح كوة للتغيير، أو توقف الهدر والسرقة، أو تحاسب فاسداً. لا أمين الجميل، ولا سامي الخطيب، ولا بهيج طبارة، ولا ومحسن دلول، ولا فؤاد السنيورة وباسم السبع، أو أي من أقطاب الحريرية الذين يستعيد، بعد ربع قرن ونيف على كتابه السابق «الأيادي السود»، ملفاتهم وصفقاتهم المذهلة. 

بين ملفات الفساد، نذكر هنا على سبيل المثال لا الحصر، تعديل عامل الاستثمار على الكورنيش البحري، ورفع الفوائد على سندات الخزينة بالليرة، فضيحة الأسمدة الألمانية، ابن رئيس جمهورية مهرباً للمازوت والبنزين... وعدد لا يحصى من الاحتيالات الصغيرة والكبيرة، السرية أو المعلنة التي صنعت أمجاد الجمهورية الثانية! فالنهب والاثراء غير المشروع، حق مكتسب لك عندما تصل إلى السلطة، كما يبوح الرئيس إلياس الهراوي بنفسه للكاتب ذات مرة، بمنتهى الصراحة.

تنتقل مع نجاح واكيم بين المحطات والمتاريس والمعارك، وتسأل نفسك كل مرة: من أين يأتي بكل هذه الحرية، وبكل هذه الثقة؟ كأن هناك دولة عظمى تحميه، في حين يعرف الجميع أنه لا يمتلك سوى مبادئه وكرامته وأخلاقه ونصاعة كفه، ومثاليته التي لا تنفع في عالم من البراغماتية والانتهازية. لا يمتلك غير مشروعه الوطني، في مواجهة كل أشكال التهديد والضغط والابتزاز الأمني والقضائي وغيرها... مروراً بمحاولة اغتياله (1987)! كان نجاح أحد النائبين اللذين صوتا (مع زاهر الخطيب) «ضد اتفاقية 17 أيار»! حاول الوقوف بوجه «قانون الشركة العقارية لوسط بيروت – سوليدير» فوجد ضده كل الطبقة السياسية، إضافة الى «الحماية السورية» للحريري، والشراكات معه في كل صفقاته وارتكاباته.

معاركه الكبرى، خاضها من داخل مجلس النواب، أو في الكواليس من خلال محاولة التأثير على دوائر الحكم وصناعة القرار. نجح في تحقيق بعض المكاسب، لكنه غالباً هزم كما يهزم الأبطال في التراجيديا القديمة. حاول أن يفتح ثغرة في جدار النظام الطائفي فلم يسمعه أحد. وهل هم مجانين كي يصغوا إليه؟ نجاح ليس لديه ما يخسره إلا أصفاده، فقد أتت به إلى السلطة آنذاك القوى الشعبية والقومية (التي عاد فابتلعها النظام الطائفي). «فقراء ينتخبون فقيراً مثلهم» كتب أنسي الحاج في «ملحق النهار»، العام 1972، كما ذكر الكاتب سركيس أبو زيد في «معرض إهدن للكتاب». أما أباطرة النظام، فقد أتى بهم نظام إقطاعي طائفي، قائم على المحسوبيات والمحاصصات، ثم «تحالف المافيات والميلشيات الذي تسلم لبنان بعد الحرب الأهلية» كما يكتب في مذكراته... وأي اصلاح سياسي سيجعلهم يخسرون كل شيء! 

«إصلاح قانون الانتخابات هو المدخل الى الإصلاح السياسي» كان يردد. «لا يمكن أن نقبل بوطن ضعيف، ملغى اجتماعياً وسياسياً وشعبه مصادر، تحت وطأة انعدام المحاسبة وغياب المعرفة». كان يؤمن ألا «بديل عن الإصلاح السياسي والاجتماعي والاقتصادي والمالي والإداري»، وقد وقف، مع حفنة صغيرة من ممثلي الشعب، ضد مشاريع الخصخصة التي تأسست عليها الفلسفة الحريرية، ودعا بلا كلل لإعادة الاعتبار إلى الاقتصاد المنتج بدلاً من الريعية التي تدمر الاقتصاد وتدمر البلد، كما اكتشف اللبنانيون متأخرين جداً، وعلى حسابهم!

اشتغل نجاح واكيم بثبات على مواجهة سياسة الفساد والافساد و«التناهب». لكن الآلة الضخمة «المحمية من الممسكين بالملف اللبناني في سوريا» كما يكتب، لن تسمح له بالتقدم. سرعان ما اكتشف أن كتلته التي تكونت على أساس أنها كتلة معارضة، «كتلة الإصلاح والتغيير» (نحن في الـ 1992)، «معظم أعضائها يعملون عند رفيق الحريري»!

لم ينجح في تعطيل عملية نهب واحدة، أو محاسبة مرتكب واحد! ملف «فضيحة مروحيات البوما» وضعه الشيخ رفيق في الدرج كرمى لعيني الشيخ أمين الجميل. مع الحريرية صارت السياسة هي الافساد. والحريري الذي «بدأ حياته السياسية بإزالة الدشم أمام الزحف الإسرائيلي» بتعبير واكيم، حول «الفساد والافساد» إلى فن من الفنون الجميلة. أبدع في شراء الذمم وترويض الاعلام وتدجين النخب وتجنيد المثقفين وإشراك عبد الحليم خدام وغازي كنعان والآخرين في صفقاته. فإذا كان رفيق الحريري يدين للسعودية بوجوده، فهو يدين للشراكة مع الحليف السوري، باستمراره وتوسيع إمبراطوريته. لولا تلك الشراكة لما نجح في تمكين النظام القائم بتعبير واكيم، على «تحالف ميلشيات الحرب ومافيات رأس المال المضارب»! 

يتوقف الكتاب عند مزايا «خطة النهوض الاقتصادي» على الطريقة الحريرية: من تركيب الديون، إلى ضرب الصناعات اللبنانية والإنتاج المحلي، إلى بيع الأملاك البحرية... «الحريرية» هي شطب الضرائب على الأرباح العقارية، وعلى فوائد سندات الخزينة والثروة، ومحاولة بيع أملاك الدولة. اليوم بسبب السياسات التي أرساها وكل نتائجها الكارثية، لبنان محاصر فعلاً، ويواجه ضغوطاً عظمى لبيع أصوله ومقدراته، فيكون الشعب اللبناني سرق مرتين: حين نهبوه، واستدانوا على حسابه وسطوا على مدخراته وودائعه في المصارف، ثم حين سيخصخصون المرافق المربحة التي تملكها الدولة، ويبيعون ثرواته الوطنية في سوق النخاسة، ليطفوا مسروقاتهم. 

حارب نجاح وحيداً وخذلوه. حتى الرئيس سليم الحص (الذي يكّن له، بنظافة كفه وكفاءته، احتراماً واضحاً في الكتاب)، خذله بتنازلاته وتسوويته ومهادناته. وليبراليته الاقتصادية، وموقفه من الخصخصة تحديداً... ورفضه خوض المعارك الكاسرة. لقد ساهم الحص في تعبيد الطريق أمام رفيق الحريري الذي اشترى بيروت، ثم طرده منها. وما زالت صالونات السلطة التي كان يتنقل بينها نجاح واكيم كالمبشرين ومشايخ الصلح، ترجع أصداء نبوءته الموجعة: «أنتم تعطون الثقة سلفاً للعصابة التي ستحكم لبنان في المرحلة المقبلة».

من النادر أن نقع على سياسي معاصر يقرأ تاريخنا القريب بهذه المباشرة، وهذا الوضوح. خذوا هذه الجملة مثلاً: «أجرى الرئيس المكلف استشارات نيابية غير ملزمة لم أشارك فيها، ثم شكل حكومته. كانت أسماء معظم أعضائها معروفة سلفاً، وهم مجموعة من النصابين واللصوص والأزلام»! الحديث هنا عن حكومة الحريري الأولى في الـ 92... استنجدت بــ "غوغل" لأتذكر من هم الذين خصهم نجاح واكيم بهذا «التقريظ»... من الأفضل ألا أذكر الآن تلك الأسماء!

يستعيد القارئ وهو يتقدم في «الحقيقة الكاملة...» الحقائق المرة التي يعرفها جيداً. يستعيدها من خلال شاهد عاش تلك المحطات الحاسمة من داخل: السياسة في لبنان هي فن الكذب والتزوير والخديعة وتحريف معنى الكلمات والأفكار والشعارات. قاتل نجاح واكيم كي يعيد الاعتبار إلى المعنى. وهذه معركة دونكيشوتية بامتياز. نعم كانت معركته في اللغة أيضاً، في تحرير اللغة السياسية من محاولات التحريف والتزوير: الاستدانة بالدولار اسمها الرسمي «إعادة هيكلة الدين» و«تخفيف الضغط على الدين الداخلي». «معاهدة 17 أيار»، هدفها الوطني النبيل «انسحاب الجيش الإسرائيلي من لبنان»، «اتفاق الطائف» صمم رسمياً لـ «إنهاء الحرب الأهلية»، في حين أنه عملياً يعيد إنتاج النظام الذي أفرز تلك الحرب، التحقيق في فضيحة مروحيات PUMA اسمه «تدخل في الانتخابات الفرنسية» (!)... وقس على ذلك.

والكتاب إدانة، مباشرة أو غير مباشرة، للنخب السياسية والفكرية في لبنان، للمثقفين والكتاب والاختصاصيين والأكاديميين والإعلاميين والاقتصاديين والمصرفيين والموظفين الكبار ورجال الامن والقضاء، والمشاركين بشكل أو بآخر في صناعة القرار. فظيع مشهد نقيبي الصحافة (محمد بعلبكي) والمحررين (ملحم كرم) يترقبان لساعات طويلة على باب الأمير سعود الفيصل! باختصار: كل شيء منخور وفاسد ومضروب في الجمهورية الثانية. 

من المهم أن نلاحظ على هامش هذه السيرة، أن نجاح واكيم من الشخصيات السياسية القليلة في لبنان التي تجسد اليوم تلازم طرفي المعادلة في المشروع الوطني التقدمي والتغييري: أي التحرر والتحرير. من جهة معركة العدالة الاجتماعية والإصلاح السياسي والاقتصادي، ومن جهة أخرى المعركة ضد الوصاية والتبعية والاحتلال. ما زال الرجل منذ السبعينيات، ممسكاً بقوة بطرفي المعادلة التي عبر بها حروباً وعهوداً وثورات وتحولات كبرى: التحرر والتحرير! هذا ما نلمسه في كل صفحة من الكتاب. 

في المشهد السياسي اللبناني الذي تعرض لمختلف أشكال الاختراق والتحريف، تشعر، تحت وطأة الخطاب المهيمن، والوعي السائد، أنه بات عليك أن تختار بين الانتماء لمحور المقاومة (وبالتالي تحسب على المنظومة القائمة)، أو الانخراط في معركة «التغيير» على طريقة مارك ضو ووضاح الصادق (وهي تمر حكماً بالتبعية لـ «أنظمة أبراهام» و«محور الإبادة»). نجاح من الزمن المبارك التي كان فيه للمفردات معنى، وللنضال جذورٌ شعبية. لذا تراه يجسد النهج التقدمي التغييري بامتياز، وهو نهج عروبي ومقاوم ومعاد للاستعمار. لقد حرف مشروع «التغيير» في لبنان، خلال السنوات الماضية، وفرغ من معناه، خلال الانتفاضات المجهضة من 2015 إلى 2019، التي جاءت صدىً لـ «الربيع الجهنمي» في المنطقة (التعبير لنجاح واكيم)، حتى بات الاعلام الممول من الأنظمة الابراهيمية، والسفارات الأجنبية هو الذي يقود «الثورة» و«حركة التغيير».

نجاح لم ينحن لرئيس أو صاحب جاه، أو صاحب سلطة. كان قاسياً مع الرؤساء والأمراء ورؤساء الحكومات، والوزراء («سد بوزك» صرخ بوزير فاسد كان يحاول أن يقاطعه في مجلس النواب)، والسفراء والقضاة والمسؤولين الأمنيين. لذا تراه يتعامل بـ «العنجهية» نفسها مع الأمير سعود الفيصل، ومعمر القذافي (حين دعا إلى «ترحيل المسيحيين من لبنان») ، وياسر عرفات (الذي استغرب أن يكون واكيم ضد فكرة «عزل الكتائب»)، وعبد الحليم خدام، وإلياس الهراوي (أعطاه درساً في النظافة السياسية)، ورفيق الحريري (الذي حاول المستحيل لاحتوائه)، وغازي كنعان، وكثيرين غيرهم. يتحرك بهذه الحرية وهذه الثقة المستندة فقط إلى قوته الداخلية، وتماسكه السياسي والفكري، وقناعاته، ونظافته واستقلاليته. ولا بد من التوقف عند لقائه بدايفيد هيل، بناء على طلب الأخير، وكان السكرتير الأول في السفارة الأميركية في بيروت. لقد تنبأ نجاح واكيم لهيل قبل 20 سنة بـ «انهيار الإمبراطورية» الأميركية عاجلاً أم آجلاً، وانتهره قائلاً: «لا يمكنكم أن تعيشوا في عالم كله يكرهكم»!

كلما تقدمنا في هذا الكتاب، نشعر أن الراوي ذاهب الى المأزق، بروح رياضية وبمزيد من الحماسة والصبر والتفاؤل. نجاح واكيم يتصادم مع الواقع باستمرار، ومع أنك تعرف ما يكفي من سيرته ومواقفه ومعاركه، تتفاجأ وأنت تقرأ «الحقيقة الكاملة...»، كأنها رواية ملحمية بقدر ما هي كتاب سياسي... وتتساءل طوال الوقت: ماذا سيحل بالبطل؟ بل تسأل أحياناً: ماذا يفعل هذا الرجل هنا؟ لماذا يحاول مجدداً أن يحيد بجمهورية الموز عن مصيرها المحتوم؟ ألا يعرف سلفاً أنه سيفشل؟ لو كان لي أن أقترح عنواناً لهذا الكتاب، لكان «يوميات دونكيشوت في مجاهل السياسة اللبنانية». 

هناك كتب تأسف أنها لم تكتب قبل الآن، أو أنك تأخرت في قراءتها، وكتب تتمنى لو أنك لم تقرأها أبداً.  كتاب نجاح واكيم «الحقيقة الكاملة والحروب المتكررة» ينتمي إلى كلتا الفئتين. الكتاب ممتع كأجمل ما يكون الامتاع. تقرأه بشغف، وتضحك كثيراً، وتشتم كثيراً، وتصدم أحياناً. نعم، تكتشف أن هناك أشياء لا تزال تصدمك في الذاكرة السياسية اللبنانية... لكنه أيضاً كتاب مزعج، تحتفظ منه بطعم مرارة يصعب التخلص منها بعد الانتهاء من القراءة.

كيف يعقل أن تاريخنا بشع إلى هذه الدرجة؟ وأن أحلامنا كلها «بلا طعمة»؟ كنت تعرف كل الخلاصات، وتعرف الحقبات والمفترقات… إذ لا شيء جديداً هنا! ومع ذلك تبدو كمن يكتشف للمرة الأولى هذا المسار السيزيفي (نسبة إلى أسطورة سيزيف). تبحث عن قصتك الحميمة بين ثنايا سيرة هذا الدونكيشوت الناصري الذي غرد طوال عمره السياسي خارج السرب. قارعهم كلهم، وخذله الجميع (تقريباً). تنتبه فجأة أن «الكلة» الشهيرة التي يستعيدها الكاتب في المقدمة (يتحدث نجاح عن «كلة الشقاق وعنزة الوفاق». فالحرب الأهلية التي شهدها جبل لبنان العام 1840، قيل إنها بسبب خلاف بين الأولاد على لعبة كلل، وهي الكرويات الزجاجية الصغيرة. أما العنزة فمستعارة من المثل الشهير: «هنيئاً لمن له مرقد عنزة في جبل لبنان»)، تنتبه أن «كلة 1840» إياها ستبقى تتدحرج خلفنا، ونحن نهرب منها… حتى القبر. 

أيها اللبناني، لا تقرأ كتاب نجاح واكيم! اللهم إلا إذا كنت صلباً بما فيه الكفاية، وعنيداً مثل صاحب الكتاب. إنها حكاية تختصر أوجاعك ويتمك، وتقول وطنك المستحيل!