طلاق الفن والسياسة
بدو أن الساسة طالما تجاهلوا تماماً رسالة الفن، وضربوا عرض الحائط بكل منجزاته المتجسدة بتقديمه مجسات في غاية الرهافة والجمال للقياس والتقييم والتنبؤ. ولم يكتفوا بالتجاهل فقط، بل عكفوا في كثير من الأحيان إلى اضطهاد الفن والفنانين.
كان من الطبيعي جداً أن يمشى في جنازة عبد الحليم حافظ أكثر من ربع مليون شخص بشكل بالغ العفوية، بالإضافة إلى عشرات الجنازات الرمزية التي أقامها الناس في كل بقاع الوطن العربي، و التي لا تقل شأناً في صدقها وعفويتها عن جنازته في القاهرة. هذا اهتمام بالغ بحد ذاته إذا إهملنا حوادث الانتحار الناجمة عن وفاته آنذاك، و هو شيء نادر الحدوث في العالم العربي. ولعل جنازته بمعايير معينة قد تساوت أو تفوقت على جنازات الكثير من الزعماء والرؤساء والملوك ورجال الدين.
وقد يبدو مستغرباً ذلك العرض الخيالي الذي تلقته السيدة فيروز للغناء في العاصمة السعودية مؤخراً، وبعد رفضها للعرض قدِّم لها عرض خيالي آخر لكي تحضر تكريماً يقام لها هناك من دون أن تغني، ومع ذلك تم رفض العرض. ولن ننسى الاهتمام الشعبي الواسع بشخص فيروز وبردود أفعالها ومظهرها وكبريائها في مقابلتها للرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون عندما طلب زيارتها، لدرجة أن الحدث كان "فيروزياً أكثر مما هو ماكرونياً"، وكان من الطريف أن ينتقدها البعض على قبولها بلقاء الرئيس الفرنسي.
الأطرف من الأمثلة السابقة عن شهرة وقوة بعض الفنانين، ما قيل عن أم كلثوم أنها استطاعت في عهد جمال عبد الناصر أن تعيد طائرة بعد إقلاعها من مطار القاهرة، لأنها تحمل على متنها "الواد عظمة" (عازف الكنترباص في فرقتها عباس فؤاد) الذي غادر القاهرة من دون إذنها، وهذا شيء لم يستطع أن يفعله مسؤولون كباراً آنذاك.
وهناك حادثة أخرى تدلل أكثر على قامة وأهمية أم كلثوم، عندما رضخ القصر الملكي لرغبتها في عدم تعديل كلمات بيت من أبيات القصيدة التي لحنها رياض السنباطي أثناء تسجيلها،حيث كان القصر قد أرسل مندوباً يطلب فيه حذف بيت يتضمن كلمة اشتراكية من قصيدة "ولد الهدى" لأحمد شوقي. ولكن أم كلثوم رفضت ذلك، وتم تسجيل الأغنية بالشكل الذي أرادته.
منذ أشهر استفاق الناس على حدث وفاة وديع وسوف، نجل الفنان السوري جورج وسوف، واشتعلت مواقع التواصل الاجتماعي بعبارات المواساة والأسف، وقد أدهشتنا تلك المحبة والتعاطف والمشاركة بالحزن التي نالها جورج وسوف من الناس بشكل تلقائي وعفوي وصادق إلى أبعد الدرجات، بمن فيهم ما يمكن تسميتهم بخصومه الفنيين والسياسيين، الذين عجزوا عن إلقائه في زنازين التعتيم الإعلامي، فما يملكه من محبة الناس يفوق قدرة أي محاولة للإعتام أو الإبعاد بالرغم من عدم قدرته على الغناء حالياً.
الأمثلة السابقة، تبين بمقارنات بسيطة، الفرق في القدرة على كسب محبة الناس بين الفنان ورجل السياسة. ويبدو من المقارنة أن الفنان الحقيقي هو الفائز عند النظر إلى "قدرات" رجل السياسة على إظهار عكس ذلك. إذْ كيف يمكن لشخص لا يمتلك الجيوش والأموال الطائلة وأجهزة المخابرات أن يمتلك قلوب الناس وعقولهم إلى هذه الدرجة؟
قد يحيلنا هذا إلى إشكالية العلاقة بين الفن والسياسة عبر العصور، ومدى التأثير المتبادل بينهما.
إذا اخذنا الجانب الغائي لعلم السياسة، فإننا نلخصه بأنه علم يهدف إلى تحقيق أعلى درجات الكفاية والأمان الجمعي لمجتمع معين، والسياسة بهذا الوصف فقط، تعتبر نظرياً من أرقى الأنشطة الإنسانية على الإطلاق، لأن ممارستها تتضمن استثمار كافة منجزات الأنشطة الإنسانية الراقية الأخرى بما فيها الفن.
غير أن تضارب مصالح المجموعات الإنسانية الكبرى الناتج من قلة الموارد وميلها باتجاه الندرة والنضوب أحياناً، يجعل من السياسة السبب الأول للحروب التي تهدد البشرية، مما يجعل السياسة نقيضاً لغاياتها في هذه الحالة. هنا بالضبط يأتي دور الفن وباقي الأنشطة الإنسانية الراقية في تقديم الحلول وتقريبها من متناول الساسة، بوصفه أداة تستخدم وسائل قابلة للتذوق الجمالي بهدف التعبير عن الحاضر، والتأريخ للماضي، وتخيل واستشراف المستقبل وإن بطريقة خيالية، كالتي ظهر لنا فيها بساط الريح في الحكايات القديمة. وهذه الميزات التي يتمتع بها الفن ناتجة حتماً عن الحرية الداخلية التي تتمتع بها الموهبة الفذة، والتي لا يمكن للإبداع أن يحدث من دونها. فهل حدث عبر التاريخ أن استعان الساسة بالفن من هذه الزاوية تحديداً؟
تاريخياً، يبدو أن الساسة طالما تجاهلوا تماماً رسالة الفن، وضربوا عرض الحائط بكل منجزاته المتجسدة بتقديمه مجسات في غاية الرهافة والجمال للقياس والتقييم والتنبؤ. ولم يكتفوا بالتجاهل فقط، بل عكفوا في كثير من الأحيان إلى اضطهاد الفن والفنانين. ثم اهتدوا في ما بعد إلى وسائل أكثر لطفاً مثل شراء الفن أو ترويضه أو رشوته، لامتصاص ذلك المخزون الهائل من محبة الناس وميلهم للفن. وهذا هو بالضبط السبب الأهم للعلاقة المضطربة بين الفن الحقيقي والسياسة.
وبحسب ما سبق من عرضٍ مختزلٍ جداً، نستنتج أننا كمجتمع إنساني، بعيدين جداً عن عالم تكون فيه السياسة (عملياً لا نظرياً)، أرقى الأنشطة الإنسانية على الإطلاق بالنظر إلى الهدف العظيم لها، لأن معظم الساسة المسيطرون على العالم، سواء كانوا أفراداً أو مؤسسات، بعيدون عن ممارسة السياسة كفن يمتلك ما تمتلكه بقية الفنون من جماليات ظاهرية وباطنية.