سراب الماركات الفاخرة

المجتمعات التي تستبدل الكتاب بالحقيبة الفاخرة، والفكرة بالموضة، تتحوّل إلى صحراء ثقافية. لا تولد الحضارات من رحم الاستهلاك، بل من رحم الأسئلة المقلقة.

  • (إيمانويل غواداراما)
    (إيمانويل غواداراما)

أثارت الصين ضجة غير مسبوقة حين كشفت أن أبرز العلامات التجارية العالمية تُصنِّع منتوجاتها في المصانع الصينية بكلفة زهيدة، فيما تُسوِّق تلك المنتوجات بأسعار خيالية، لا سيما منها حقائب اليد النسائية. 

هذه الحقيقة تسببت بموجة هلع لدى محبي المظاهر والـ show off، وعلى وجه الخصوص، لدى "المؤثرات" ممن لا يملكن ما يتباهين به سوى "البرندات" من حقائب وأزياء ومقتنيات باهظة الأثمان؛ فغصت مواقع التواصل الاجتماعي بحفلات نواح وبكاء لوعةً وأسى على ضياع "البرستيج" ومعه المال المهدور على المظاهر الفارغة.

يقال شرّ البلية ما يضحك، ولعلّنا نمرّ في واحدة من أكثر الفترات المضحكة المبكية في عالم مصاب بنوع من انفصام الشخصية، حيث يتم تسليط الأضواء الساطعة على واجهات المحال الفاخرة، وتتراقص شعارات العلامات العالمية كالسايرنات التي تغري البحارة بالاقتراب من صخور الهلاك. 

هنا، في هذا العالم المزين بالذهب الزائف، تحيك الشركات الكبرى أساطيرها ببراعة تثير الدهشة، فتحوّل قطعةَ قماش عادية إلى حكاية تفوُّق، وحذاءً مصنوعاً في مصنع مغمور إلى رمز للرفعة. 

لكن وراء هذا المسرح المخادع، ثمة حقيقة مريرة: إنها لعبة استنزاف مُحكمة، حيث تصبح أنفاس الإنسان سلعة تباع في سوق الوهم.  

لا تبيع العلامات الفاخرة منتجات، بل تبيع أحلاماً. كل شعار لامع هو مفتاح وهمي لمملكة النخبة، كل حقيبة مذهَّبة هي قارب يبحر بالمشتري نحو جزيرة التميز الوهمية. 

الشركات هنا ليست سوى سحرة جدد، يستخدمون لغة الإعلانات كتعويذات تحوّل الغرور إلى فضيلة، والاستهلاك إلى طقس ديني. إنهم يخاطبون أعماق الإنسان الهشة: "أنت ما تمتلك"، فيصدق المرء أن سعره مرهون بثمن ما يلبس.  

لكن الصين، بـ"آلاتها الصدئة" وعمالها الذين يتعرَّقون بصمت، كشفت عن اللعبة. ها هي الحقائق تتدفق كالنهر الجارف: الحذاء نفسه الذي يباع بثمن بيت صغير، تُكلّف صناعته بضعة دولارات. الساعة نفسها التي تزيّن معصم الثري، وُلدت من خط إنتاج لا يعرف الفرق بين الذهب والبلاستيك. الشركات تضحك وسع أشداقها، فالفارق بين التكلفة والسعر ليس رقماً، بل هو مقياس لسذاجة من يصدق أن الثمن يبرّر الوهم.  

عندما يكتشف المدمن على الماركات أن "اللوغو" الذي دفع من أجله نصف راتبه مجرد ختم فارغ، يصبح كمن يستيقظ من سكرته ليجد نفسه في شارع مظلم. الخيبة هنا ليست في الخدعة المادية، بل في انهيار المعنى. لقد ظنَّ أنه يشتري مكانة، فإذا به يفرغ ذاته ليملأها بشعارات. صار إنساناً مسطحاً، كظل يلهث وراء علامة تجارية تغنيه عن قيمته الإنسانية.  

هنا تكمن الجريمة الكبرى: تحويل الإنسان إلى آلة استهلاك بلا روح. العلامات الفاخرة تجيد إلهاء الناس عن أسئلة الوجود الحقيقية بصراعات مصطنعة: "iPhone الجديد أم القديم؟"، "هل هذه الحقيبة من الموسم الماضي أم الحالي؟". في هذا العالم، تصبح الحرية اختيار ماركة، والذكاء اقتناء جهاز، والأناقة تقليداً مشهوراً. هكذا يتم تفريغ الذات الإنسانية من كل معانيها، وتحويل الحياة إلى متجر كبير، كل رفٍّ فيه يهمس: "أنت ناقص.. فاشترِ نفسك من جديد!".  

في عصر الهوس بالماركات، تصبح المكتبات مجرد ديكور خلف صور "السيلفي"، وتتحوّل المسارح إلى خلفية باهتة لعرض الملابس الجديدة. العقل الذي كان يمكن أن يحتفي بأسئلة الفلسفة، أو يسبح في عوالم الرواية، صار مشغولاً بمقارنة كتالوغات العلامات كأنها نصوص مقدسة. السؤال الخطير: ماذا يبقى من إنسان يتقن قراءة أسعار "اللوغوات" ولا يعرف قراءة نفسه؟ هنا تشرع الشركات أبواب الجحيم ببرودة: إما أن تكون عبداً لشعار لامع، أو تعلن تمردك على قيم العصر الواهية.  

المجتمعات التي تستبدل الكتاب بالحقيبة الفاخرة، والفكرة بالموضة، تتحوّل إلى صحراء ثقافية. لا تولد الحضارات من رحم الاستهلاك، بل من رحم الأسئلة المقلقة. حين يصبح الهمّ الأكبر هو "امتلاك الأحدث"، تنكمش أحلام الابتكار، وتنزوي المخيلة خلف جدار المادة. إنها جريمة ترتكب بحق الإنسانية: تحويل العقول إلى مستودعات للشعارات، بينما تتعفن الكتب على رفوف النسيان.  

العبودية الحديثة لا تحتاج إلى سلاسل حديدية، بل تكفيها شعارات ملوّنة تقيّد الإدراك. السلطة هنا لا تضرب بالعصا، بل تغزو بالصورة: اجعلهم يؤمنون أن سعادتهم في "العلامة القادمة"، وسترى شعوباً تتهافت على الفراغ كالنمل نحو السُّكّر. 

الخطر الكامن أن الإنسان المستهلك يخسر أهم أدوات تطوره: الفضول المعرفي، والنقد الثقافي، والحس الجمالي الحقيقي. مجتمعات اليوم تشبه سفينة مليئة بالبضائع الفاخرة، لكنها تبحر بلا بوصلة نحو غرق محتوم. فالثقافة التي لا تغذيها المعرفة تتحوّل إلى وهم، والحضارة التي تستمد قوتها من الاستهلاك تولد ميتة.  

الحل ليس فقط في مقاطعة الماركات، بل في مقاطعة العبودية التي تجبرنا على رؤية أنفسنا من خلالها. الجمال الحقيقي لا يحمل شعاراً، والرفعة لا تقاس بملصق على الملابس. حين نتعلم أن القيمة تأتي من الداخل، وأن الشغف بالإنسانية أرقى من أي مُنتَج، سنرى تلك العلامات كما هي: أوراق زينة في ريح الخريف، تسقط لتبقى الأشجار شامخة بجذورها التي لا تباع.

 

اخترنا لك