"نار الله": تحرير المثقف من عزلته
كتب كانيتي روايته، ما بين عامي (1929-1931) حيث لم تنته بعد عقابيل الحرب العالمية الأولى وبدأت إرهاصات الثانية بصعود النازية.
عندما أبدعت ماري شيلّي فرانكشتاين في القرن التاسع عشر صنعته من الجثث تعبيراً عن خوفها من لاروحانية العلم وماديّته. وبالمثل، شكّل المفكّر والروائي النوبلي إلياس كانيتي عقل بطل روايته بيتر كين: (نار الله؛ الصادرة عن دار المتوسط لعام 2023 ترجمة كاميران حوج) من محتويات خمسة وعشرين ألف كتاب منتخبة، تمثّل الثقافة البشرية عبر تاريخها وخاصة الشرقية منها؛ الصينية والهندية التي ترى العالم المادي مجرد وهم؛ على منوال تقسيم أفلاطون الكون إلى عالم المثال وعالم المحاكاة/ الوهم. لقد بنى عالم الصينيّات بيتر كين إسقاطاً ماديّاً لفكره في مكتبة أقامها في بيته، على الرغم من تمتّعه بذاكرة ليس النسيان حدّها الثاني! لم يكن لبيتر كين، إلّا جسد الضرورة الذي يحمل فوقه هذا الرأس، الذي فكّر بالتبرّع به للبحوث العلمية، ليكتشفوا قدرته الهائلة على التذكّر. وهنا، يأتي السؤال، ما هو الفزع الذي اعترى كانيتي، حتى يوجد فرانكشتاين الكتب بيتر كين؟
كتب كانيتي روايته، ما بين عامي (1929-1931) حيث لم تنته بعد عقابيل الحرب العالمية الأولى وبدأت إرهاصات الثانية بصعود النازية. كانت ظاهرة الجمهور أو الحشود قد لحظت من قبل المفكّرين منذ الثورة الفرنسية. ويعدّ كتاب غوستاف لوبون (سيكولوجيا الجماهير) رائداً في مقاربة هذا الموضوع وفي ما بعد كتب كانيتي كتابه الذائع الصيت "الحشود والسلطة" كذلك فعل الفيلسوف الإسباني خوسه أورتِغا أي غاست وأصدر كتابه "تمرّد الجماهير".
اختبر كانيتي تأثير ظاهرة الحشود البشرية في التظاهرات التي اجتاحت فيينا إثر صدور حكم بتبرئة ثلاثة من أعضاء اتحاد قدامى المحاربين في النمسا وألمانيا، الذين هاجموا حانة في بلدة شاتندورف، وقتلوا رجلًا وطفلاً ممن كانوا موجودين في اجتماع أعضاء الحزب الاشتراكي الديمقراطي الألماني والنمساوي. أدّى هذا الحكم إلى خروج تظاهرات هاجمت البرلمان ومحكمة العدل، فأطلقت الشرطة النار، وقتلت ما يقارب الأربعين متظاهراً، وبالمقابل سقط خمسة من رجال الشرطة. في أثناء ذلك، رأى كانيتي في شارع جانبي شخصاً يصرخ بأنّ الوثائق تحترق! وقد كرّر صراخه، فلا يعنيه مما يحدث إلّا الوثائق، ذاهلاً عن الضحايا من كلا الطرفين، وكأنّ تلك الوثائق هي الوجود الحقّ وباحتراقها سيعود إلى العدم.
حاول كل من لوبون، وخوسه أورتِغا، وكانيتي أن يحلّلوا ظاهرة الحشود التي اجتاحت المشهدين السياسي والاجتماعي في أوروبا. وكيف يذوب الأفراد في كتلة بشرية تتحرّك وتحيا لفترة مؤقّتة، تغيّر فيها التاريخ، ثم تعود لتتفتّت، فيرجع الأفراد إلى ذواتهم المستقلّة الحائرة، لكن يحدوهم حنين دائم إلى ذلك الطين الذي صهرهم في كائن واحد، هو الجمهور، الذي يمنحهم في لحظات تشكّله وهماً يتوقون إليه، ألا وهو قدرتهم على الإحاطة بالوجود!
خطط كانيتي لكتابة ثمانية كتب يتناول فيها شخصيات مجنونة وحمقاء ومغفّلة، لكنّ شخصية دودة الكتب بيتر كين استحوذت على اهتمامه، فصبّ جلّ اهتمامه عليها، وخاصة بعد رؤية الرجل الذي كان ينظر إلى حريق المحكمة، وكلّ همّه يتّجه نحو الملفات المحترقة، لا البشر.
لقد كان مشهد حريق البرلمان ومحكمة العدل من قبل الحشود المتظاهرة، البذرة التي بدأت منها شخصية بيتر كين، فمن هذا الشخص الذي خرج عن إجماع الحشد وبدأ بالصراخ بأنّ الوثائق تحترق؟ ومنه استوحى كانيتي عنوان روايته البدئي: (براند) والذي يعني الاحتراق، ويحاكي اسم الفيلسوف كانط. لكن، بناءً على نصيحة صديقه الروائي هيرمان بروخ صاحب ثلاثية؛ "السائرون نياماً" التي يعدّها ميلان كونديرا من أعظم الروايات التي كتبت في القرن العشرين، أصبح عنوانها؛ "كانط يحترق"، لكن في النهاية استقرّ على العنوان التالي: "Auto-da-fé" وهو مصطلح يعود إلى محاكم التفتيش يشير إلى إجراء طقسي يخضع له المتهمون بالهرطقة ويختم بالإعدام حرقاً. وقد ترجمه كاميران حوج بـــــــ "نار الله"، والتي تشير إلى التطهير والعقاب، وإعماء البصر. وحتى إنّ اسم كين يشير إلى الراتنج الصنوبري الشديد الاحتراق.
تنقسم الرواية إلى ثلاثة فصول رئيسية: (رأس بلا عالم- وعالم بلا رأس- وعالم في الرأس) ومنها تتفرّع عناوين جزئية أقرب إلى المفاتيح، التي ستفكّ بها أغلال المتاهة، التي أوجدها كانيتي في روايته، فهو لا يكتب جملًا واضحة الدلالة، بل يتقصّد أن تكون بمعانٍ عديدة وحتى متضاربة. هذه النيّة الواضحة في تتويه القارئ تتأتّى من مقولة سارتر عن الوعي البشري الذي شبّهه بمصابيح الإضاءة، حيث كل مصباح يضيء مكانه فقط، فيما يبقى المحيط مظلماً أو مناراً بوعي آخر يقوم على معطيات مختلفة ومتعارضة. وكأن كانيتي يعارض بذلك هيغل الذي رأى بأنّه بإمكان الوعي البشري الفردي أن يكون قادراً على استيعاب الحقيقة الشاملة للوجود، من خلال فهم نهائي ينجزه العقل.
لقد كان كانيتي أكثر تشاؤماً من هيغل، ورأى أنّ الوعي البشري الفردي لن يكون قادراً على حيازة الواقع، وما التطورات التي بدأ منها العنوان وخاصة؛ "كانط يحترق"، إلّا سخرية مرّة من تلك المنظومة الفكرية والأخلاقية – بعموميتها وشموليتها، والتي كان أحد روّادها الفيلسوف الألماني كانط، فعلى سبيل المثال، أراد كانط أن يجعل من رفض الكذب عاماً، بحيث لا يمكن الكذب تحت أيّ مصلحة وضرورة. وعدّ الكذب شراً مطلقاً، وضرب مثلاً، بأنّه لو التجأ شخص إلى دار شخص آخر خوفاً من قتلة يطاردونه، فلا بدّ أن يخبرهم الحقيقة، حتى لو قتلوا هذا الشخص البريء المختفي في الداخل! هذا التطرّف الأخلاقي دفع ببعض المفكّرين للهزء من أخلاقية كانط، والتي تكون أكثر شراً من الكذب ذاته في بعض جوانبها.
رأس بلا عالم
يقدّم لنا كانيتي في هذا الفصل شخصية كين، المشغول بشكل دائم بإجراء بحوث وكتابة مقالات عن العلوم الصينية يتكرّم ببعضها على المؤسّسات العلمية. هذا الانشغال البعيد عن حيثيات واقعه في أوروبا دلالة على غربته التي ضاعفها بإرادته. يقتصر ارتباط كين بالعالم المحيط على الحد الأدنى، بدءاً بالطعام إلى الأثاث وجولة صباحية، تذكّرنا بجولات الفيلسوف كانط، يتفقّد فيها مكتبات المدينة، ليسخر من ضحالة محتوياتها ثم يعود إلى قوقعته. يرفض كين أيّ محاولة للدخول إلى عالمه، حتى من ذلك الولد الصغير المولع بالكتب وباللغة الصينية، والذي يذكّره بنفسه، فبعد أن وعده بأن يريه بعض المصوّرات، طلب من خادمته تيريزه أن تطرده. يريد كين أن يعيش في رأسه/ مكتبته، لكن الخطيئة التي أهبطته من جنّته كانت إدخال الشيطان تيريزه لحماية مكتبته من الحريق في حال غيابه. هذا الوسواس القهري أتاه من قراءة معلومة عن إمبراطور صيني قام بجمع الكتب وحرقها.
استقدم الخادمة للعناية بالبيت والمكتبة، فتشعره الخادمة بأنّها تحب الكتب. وعندما أهداها كتاباً أمسكته بقفازين نظيفين من قماش. تدفعه هذه الحادثة بعد محاورة عقلية أجراها مع كونفشيوس إلى الزواج بها. كان لتيريزه من العمر ست وخمسون سنة، فيما كان كين في الأربعين. وفي ليلة العرس، تزيح تيريزه الكتب بعنف عن الأريكة الوحيدة في البيت منتظرة من كين أن يزيل عذريتها. هذا التصرّف كان قاتلاً بالنسبة إلى كين الذي ابتعد عنها. لم تكن تيريزه مختلفة عن كين، بيد أنّ لها عالمها العقلي الخاص، فهي تتخيّل بأنّها جميلة وترى بفستانها الأزرق المُنشّى جوهر فتنتها، لكن في الحقيقة، هي قبيحة وكل همّها يتجه إلى النقود. أدّت حياة كين الخاصة والغريبة إلى أن تدفع تيريزة إلى الاعتقاد بأنّ كين متورط في جريمة ما، وخاصة تلك السرّية التي يحيط بها وجوده بين السادسة والسابعة صباحاً.
لم تكن تلك الساعة إلّا لاختيار الكتب التي سيضعها كين في حقيبته كي يظل قريباً من مكتبته، على الرغم من مشوار الصباح. تبدأ تيريزه في عزل كين، حتى لا يتبقّى له سوى مكتبه، وأمام ذلك الهجوم، يسعى كين لاستنهاض مكتبته للحرب، فيلقي خطاباً في كتبه يصوغ فيه بياناً للحرب ضد مدبّرة منزله / زوجته.
ومع ذلك، فإنّه يشعر بالحماقة في استخدام الكلام الشفوي، متذكراً أنّ الصمت الحكيم لبوذا كان أقوى أشكال التمرّد لديه. وعندما يتأمّل كتبه، يدرك أنّه حتى هؤلاء لا يستطيعون الاتحاد والاتفاق مع بعضهم البعض حول مسار العمل. لا يستطيع بوذا الانسجام مع هيغل، ولا يستطيع هيغل الانسجام مع شيلينج، وهناك خلاف بين كانط ونيتشه. أخيراً، يقرر كين أن يقلب كتبه بحيث يصبح موقع العنوان منها إلى الجدار. وبذلك، يحجب هوياتها مع إبقائها مصطفة في صفوف مرتبة. وهكذا تصبح الكتب صامتة، وتم محو اختلافها، وغدت جمهوراً، واتحدت لدعم مالكها، في تمرّد صامت ضد استيلاء تيريزه على البيت.
إنّ معالجة كين للوقائع، على الرغم من ثقافته الواسعة تبدو صورية، بل عبثية، وإن كانت منطقية، فالمعرفة التي يمتلكها منفصمة عن الواقع، فيأتي فهمه لها مملوءاً بالهلوسات، منبتاً وبعيداً من الواقع.
فبالمقارنة مع البواب بفاف، رجل الشرطة سابقاً، الذي يستطيع أن يكشف تيريزه يغدو كين ساذجاً وجاهلاً، ومع ذلك تصيبه تيريزه بعدوى هواجسها، فيتصوّر أنّها سترث تركة ما، وستوصي بها له، دلالة على حبّها، وبهذه الوصية سيزيد من سعة مكتبته وعدد كتبها. تتضاعف المفارقات اللامنطقية بين كين وتيريزه، وتتحوّل إلى عنف ممنهج من قبلها، يعارضه كين بإغلاق حواسه، فيسدل جفونه كي لا يراها. ويتمنّى أن تكون لأذنيه جفون حتى لا يسمعها. وأخيراً، يتحوّل إلى صنم خلف مكتبه؛ الأرض الوحيدة التي يسيطر عليها، لكن هذا الوضع لا يستمر طويلاً، فتطرده تيريزه خارج البيت.
عالم بلا رأس
في هذا الفصل، يهبط كين من جنّته إلى أرض الواقع، وأول شيء فكّر فيه هو إعادة إنشاء مكتبته في رأسه، فيمرّ على المكتبات التي كان يزدريها ويطلب قوائم طويلة من الكتب، لكن أصحاب هذه المكتبات يطردون هذا المجنون.
يتعرّف كين على القزم ذي الحدبة (فشيرله) الذي يتخيّل أنّه لاعب شطرنج كبير، وكأنّنا أمام دون كيشوت وسانشو. لكن فيشرله أكثر مكراً وخبثاً من سانشو، فيرى في كين الثروة التي بموجبها سيتمكّن من الذهاب إلى أميركا ليصبح بطل العالم في الشطرنج. يساعد فيشرله كين في حمل أعباء مكتبته التي تملأ رأسه، وفي كل ليلة يقوم فيشرله بإخراج الكتب من دماغ كين ويرتبها في غرف الفنادق التي يستأجرانها.
ينشئ فيشرله عصابة من رعاع القاع وينصب فخاً لكين بإخباره بأنّه يمكنه إنقاذ الكتب عبر منح أصحابها مالًا بدلاً من رهنها في مكتب الرهنيات الذي يشي اسمه بارتباط مع الخادمة تيريزه. هكذا يستنزفون نقود كين السعيد بدوره الذي يشبه المسيح وهو ينقذ الكتب، إلى أن تأتي تيريزه والبوّاب لرهن محتويات مكتبته الخاصة، فتحدث معركة مجنونة بين كين وتيريزه والبواب بفاف والقزم فيشرله تنتهي بأن يُقاد كين إلى السجن، وهناك يتخيّل كين أن تيريزه قد ماتت ورميت جثتها في مكب الزبالة.
يتبين للشرطة أنّ كين رجل مجنون، فيعهد به إلى البواب بفاف. يمتلئ هذا الفصل بالمفارقات المجنونة التي تثبت أن كين منفصل تماماً عن واقعه، وليس هو فقط، بل الجميع، وصولاً إلى قائد الشرطة. هناك حالة اغتراب تعمّ الجميع حيث كل وعي في قوقعته الخاصة. وفي النهاية، لا أحد يختلف عن كين، بيد أنّ جنونهم أكثر شيوعاً وتماثلية في مجتمعهم من جنون كين الخاص.
ينتهي هذا الفصل بمقتل فيشرله على يد صديقه الذي يدعي أنّه أعمى، والذي كانت معضلة حياته عندما يلقي أحدهم زرّاً في صحن الشحادة ويصدر صوتاً كرنين النقود، لكنّه لا يستطيع أن يعترض، لكي لا يفضح كذبه بأنّه أعمى، فيكتفي بشكر صاحب العطية. لكن، قبل ذلك، كان فيشرله يخطط ليلتقي بأخ كين الطبيب النفسي في باريس ليطلب منه المساعدة في الذهاب إلى أميركا، وفكر أن يرسل إليه رسالة عاجلة، كتب فيها بعد عدة محاولات: "أنا طق عقلي نهائياً" ووقّع تحتها بكلمة :" أخوك".
عالم في الرأس
هذا الفصل كشّاف للفصول السابقة وهو الأخير، ففيه نرى كين وقد احتجزه البواب بفاف في غرفته أسفل البناية، وأوكل إليه مراقبة الداخلين إليها من عين سحرية. كان لبفاف زوجة وابنة قتلهما وكان يقيم علاقة محرّمة مع ابنته الوحيدة، التي تجرأت وواجهته، وحلمت بأن تهرب مع عامل في بقالية، لكن العامل سرق البقالية وفرّ.
يُذهل كين بتلك العين السحرية، ويبدأ بمراقبة الداخلين والخارجين من البناء، حتى فكّر بأنّ يكتب بحثاً عن لابسي السراويل والأحذية من الذكور، فهو يكره النساء جداً لذلك لن يلحظهن في دراسته. يعود كره كين للنساء إلى الخادمة تيريزه التي طردته من جنّته، حتى إنّه ألغى اللون الأزرق من الكون، لأنّها كانت ترتدي تنورة زرقاء وأقام محاكمة صورية أثبت فيها، بأنّ علماء الفيزياء كانوا يكذبون، عندما عدّوا اللون الأزرق من الألوان الأساسية الثلاثة (الأزرق والأخضر والأحمر) بل إنّ اللون الأزرق غير موجود مطلقاً.
ينتهي الأمر بكين مسجوناً في غرفة بواب البناية، لكن استلام الطبيب جورج رسالة فيشرله تغيّر الوضع. يصل الأخ من باريس، ويجد أخاه على تلك الحالة المزرية، فيقرّر إعادته إلى كتبه/ قوقعته، بعدما تأكّد أنّ لا حلّ إلّا بذلك.
كان جورج كين طبيب أمراض نسائية، لكنّه أصبح طبيباً نفسياً، وتسلّم رئاسة مستشفى المجانين الذي يتألّف من ثمانمئة مجنون لكلّ منهم عالمه الخاص. فهم جورج بأنّه يجب عدم شفاء المجانين، بل تفهّم حالاتهم. هذا الموقف حوّل جورج إلى قديس في نظر المجانين. عندما التقى أخاه أيقن أنّ كين مجنون تماماً، ولا حلّ إلّا بإعادته إلى حياته السابقة كقوقعة معرفية. خاض مع شقيقه نقاشاً معرفياً أبان عن تحيّز كين الثقافي لِما يعتقد، بل قصر هذه المعرفة بما يخدم توجّهه، فالمرأة لديه هي شرّ كامل! ويستشهد لأجل ذلك بمقولات من بوذا إلى توما الأكويني تدين المرأة. يخبره أخوه الطبيب جورج بأنّ هذه الاستشهادات منتزعة من سياقاتها، لكن كين يرفض ويتهم أخاه بأنّه ملوّث بالنساء. أمام هذا الواقع، يتساءل جورج عن المعنى من أن يتقاسم أخوان ثروة العائلة؛ واحد أنفقها على الكتب والآخر على المجانين!
يقوم جورج بخداع كل من الخادمة والبواب ويقيم معهما صفقة للابتعاد عن حياة كين، ويتم ذلك، ويعيد أخاه إلى مكتبته، لكن كين الذي تعرّض لحمى العالم الخارجي لم يعد قادراً على العودة إلى قوقعته. وفي لحظة من الجنون والحقيقة والعقل يشعل كين النار في المكتبة، بينما تتردّد ضحكاته عاليّاً، كما النار التي كانت تحرق كلّ شيء وضمناً كين.
نار الله
لم تأخذ هذه الرواية شهرتها بالمعنى الحقيقي، إلّا بعد أن نال إلياس كانيتي جائزة نوبل عام 1981. وقد لحقها سوء فهم كبير، حتى إنّها اعتبرت من آداب ما بعد الحرب العالمية الثانية، مع أنّها كتبت قبلها بما يقارب العشر سنوات ونشرت عام 1935 ولم ينتبه النقّاد، أيضاً، إلى السخرية والتهكّم المضمر فيها من كل المنظومات الفكرية والسياسية والدينية والاقتصادية، التي لا تقدّم للكائن البشري إلّا وحدة تتفتت عند صدامها مع الواقع، أكانت المواجهة بالحرب أو بالفقر، وحتى بالعنصرية وإلغاء الآخر.
تعدّ رواية "نار الله"؛ الرواية الوحيدة لكانيتي مع كتب أخرى، تنوّعت بين المسرحيات والسِيَر الذاتية وكتابه الشهير، "الحشود والسلطة". أوّلت هذه الرواية على أوجه كثيرة، لكن بوصلتها تشير إلى هشاشة الفرد وعزلته أمام الوجود.
لا بدّ من القول، بأنّ قراءة هذه الرواية صعبة، وتحتاج إلى أسلوب كتابة المحراث، وذلك بالعودة إلى أجزاء بعينها وفقرات أيضاً، ومن ثم تجميع هذه القطع، لتتكوّن الصورة النهائية لها. إنّ رواية "نار الله"، عبارة عن تأمّل مكثّف ومفصّل حول الحقائق الذاتية المختلفة والمتعارضة التي يعيشها البشر، وكيف يتداخلون ويتفاعلون، ويتعارضون ويتعاملون مع بعضهم البعض كأنّ كل واحد منهم جزيرة وحده.
الرواية مؤثّرة ومرعبة ومضحكة ومأساوية في آن واحد، وتطرح أسئلة مهمة حول طبيعة بناء الواقع من قبل العقل البشري في العصر الحديث الذي ينبئ بفردانية منعزلة، لم يعد الحشد ضامناً لها ولا الثقافة ولا الدين، فالإنسان الفرد يتجه إلى عزلة إرادية، مادام الوعي البشري لا يعترف بقصوره عن فهم الوجود كلية، وأنّ الانفتاح على الآخر هو الذي سينجيه من ذلك.
أخيراً، لا بدّ من الإشادة بالمترجم كاميران حوج على الجهد الكبير الذي بذله، فأفكار كانيتي مخادعة ومخاتلة، ولا تسلّم قيادها بسهولة أبداً.