رائحة الكتب .. أصدقاء قدامى

مع تقدّم عمر الكتاب، تبدأ المركبات الكيميائية المستخدمة - الغراء والورقة والحبر - في الانهيار، وتطلق مركبات متطايرة (مصدر الرائحة). 

خذ كتاباً قديماً من مكتبتك. افتح صفحاته وقم باستنشاق رائحته بعمق، ربما - وعلى الأغلب - ستذكّرك بالقهوة والشوكولاتة والخشب والفانيلا. ذلك أن رائحة الكتاب الورقي ساحرة، ويمكن لها أن تثير فيك شعور الحنين إلى الماضي، بحسب وصف زوّار المكتبات القديمة. فما سرّ هذه الرائحة؟ وماذا يمكن أن تفعل بنا؟ 

مع تقدّم عمر الكتاب، تبدأ المركبات الكيميائية المستخدمة - الغراء والورقة والحبر - في الانهيار، وتطلق مركبات متطايرة (مصدر الرائحة). 

تقول "الرابطة الدولية لبائعي الكتب الأثرية"، إن الرائحة الشائعة للكتب القديمة هي تلميح من الفانيليا: "الليجنين"، الموجود في جميع الورق الخشبي، والذي يرتبط ارتباطاً وثيقاً بالفانيلين عندما ينهار.

وحدّد العلماء مجموعة من المركبات الكيميائية التي تساهم في إنتاج رائحة الكتب القديمة، وهي: البنزالديهايد (benzaldehyde) ويضيف رائحةً تشبه اللوز، والفانيلين (vanillin)  ويضيف رائحة تشبه الفانيلا،ومُركبا إيثيل البنزين (ethylbenzene) والطولولين toluene ويضيفان رائحةً حلوة، إضافة إلى مركّب إيثيل هيكسانول (ethyl hexanol) الذي يساهم قليلاً في إعطاء رائحة الأزهار.

واستخدم العلماء في جامعة كوليدج لندن "تحليل مساحة الرأس" لقياس المركّبات المتطايرة التي يتم إنتاجها عند اضمحلال الورق: من بين أمور أخرى، الورد وحمض الخليك والفرفورال والليجنين. هذا الأخير هو الذي يقوم بمعظم العمل.

ويوضح خبير العطور، لوكا تورينو، أن مادة اللجنين هي مركّب يمنع الأشجار من التدلي، وهو مرتبط كيميائياً بجزيء الفانيلين، "عند تحويله إلى ورق وتخزينه لسنوات، فإنه ينهار ورائحته جيدة. وهذه هي الطريقة التي رتبت بها العناية الإلهية لرائحة المكتبات المستعملة مثل الفانيليا المطلقة عالية الجودة، مما يؤجّج الجوع للمعرفة فينا جميعاً".

في بعض الأحيان تتأثّر الكتب بالبيئة المحيطة، وهذا هو السبب في أنّ لبعضها رائحة التبغ أو القهوة. ومثال ذلك أن مارك توين كان يمتلك قاموساً، ولا يزال حتى اليوم ينفث رائحة تبغ مميّزة، والسبب هو أن توين كان مشهوراً بتدخينه للسيجار والغليون.

إن إحساسنا بالرائحة قريب جداً من مركز الذاكرة في الدماغ. وهنا يأتي الارتباط بين الذاكرة والرائحة في استعادة الماضي والأشياء الجيدة، والشعور بلذة اللحظات العاطفية، والهدوء والأمان. كما أن الكتب هي أفضل شيء تفوح منه رائحة في العالم، لأن الكتب تروق للذاكرة الصريحة والضمنية.

الفيلسوف الفرنسي، غاستون باشلار، كتب في "شاعرية الفضاء" متذكّراً منزل طفولته: "أنا وحدي، في ذكرياتي لقرن آخر، يمكن فتح الخزانة العميقة التي لا تزال تبقيني وحدي بهذه الرائحة الفريدة".

ويقول أشخاص إن رائحة الكتب تملأهم بالترقّب، لأنهم يتذكّرون القصص التي كانوا ينتظرونها بفارغ الصبر وهم أطفال. لقد سمعنا أن رائحة الكتب مريحة لأنها تذكّر الناس بالدفء والالتفاف والاسترخاء.

وتمارس الكتب القديمة قوة إبداعية، وتشكّل خيوطاً من الحمض النووي للقرّاء، بل غراء يربط المشهد باستحضار التفاصيل لروائح عرضية مثل أكاليل الورد، أو العلاقات السابقة المحمومة بالعطور أو الكولونيا. وتعطي ارتعاشاً يمر عبر الجسد بالكامل.

إن رائحة الكتب ذات الأطراف البالية، والأغلفة الممزقة، تعيدني إلى "الزنبقة السوداء" لألكسندر دوماس، أفضل نسخة كتاب نمت معي. تعيدني لأوّل زهرة تفتحت تحت ظل شجرة، للطفولة، للتوق إلى الحرية، للحبّ وليلة شتائية دافئة تحت ضوء الشموع، أو لرائحة جندي عائد من المعركة.

الكتب القديمة أيضاً لها تاريخ وقصص تتجاوز ما ظهر على الصفحات. فهي تنتمي إلى صاحبها، في مغامرات مستمرة. هي ليست مجرد كتب على الرفوف، بل أصدقاء قدامى. كل واحد منهم يحمل قصتين في قصة واحدة، وعالمين في مكان واحد. وربما أكثر من ذلك.. أشياء لا تقدّر بثمن.