كيف رأى الرحّالة بدو العراق والجزيرة العربية؟
يكشف الباحث في دراسته عن الأسباب التي جعلت من العراق قبلة للشرق أيام ازدهار الحضارة، ويعزو سبب اهتمام الرحّالة الغربيين بالجزيرة العربية لموقعها الاستراتيجي.
تقدّم كتابات الرحّالة مصدراً مهماً للدراسات التاريخية، وتوثّق رحلاتهم عادات الأمم والشعوب، وتفكّك تركيبة المجتمعات من وجهة نظرٍ غربية، سيما في تناول الجوانب الاجتماعية، وفي تعدّد السجلات التي وثّقت لمنطقة العراق وشبه الجزيرة العربية. وحول هذا السياق، تركّز دراسة "كتابات الرحّالة حول مجتمع البدو في العراق والجزيرة العربية" للدكتور علي عفيفي علي غازي، والصادرة عن دار قنديل في دبي، وفيها يرصد الباحث عبر منهج تحليلي مقارن كتابة الرحّالة الغربيين عن المجتمع البدوي في المنطقة، بادئاً من قمة الهرم القبلي وصولاً إلى رجال القبيلة ونسائها وعاداتهم والظروف السياسية والاجتماعية المحيطة بهم.
يعرّف الكتاب بأهداف الرحّالة عبر العصور، وينقل رؤية البدو في المنطقة العربية بين منتصف القرن السادس عشر وحتى منتصف القرن العشرين، لذا يستهلّ بحثه بتأريخ ظهور أدب الرحلات، والظروف التي دفعت إلى تدوينه وما تبعه من منافعَ في محاولة للإجابة عن أسئلة تتعلّق بفرضيّات من مثل: هل تشابهَ منهج الرحّالة بين العصور القديمة والحديثة؟ وما هي الفروق بين الرحّالة المسلمين والغربيّين؟ ومن ثم يذكّر بأشهر الرحّالة، ويكشف عن الظروف التي دفعتهم لتدوين رحلاتهم، مؤرّخاً لظهورهم في منطقة المشرق العربيّ حتى مطلع القرن العشرين.
أدب الرحلات: ظهوره ومراحل تطوّره
يشرّح الباحث مفردة "رحلة" عبر ما جاء في لسان العرب وغيره من المصادر، ويشير إلى عدّها إنجازاً فردياً أو جماعياً لما يعنيهِ اختراقُ حاجز المسافة، إلى جانب الرغبة بالتجاوب مع حركة الحياة في منطقة ما. ويفرّق بين أن تكون نشاطاً نابعاً عن هواية، وبين أن تكون حرفةً، لكنها في الحالتين استجابة لحوافز دعت إلى الحركة والتنقّل.
أما مصطلح "أدب الرحلات" فيعرّفه كنوع من نثرٍ يتخذ من الرحلة موضوعاً، ولا بدّ من توافر بعض الصفات فيه من مثل: أن يكون كاتبُهُ رحّالاً محبّاً للترحال، وأن يكتب بأسلوبٍ يعكس روح الرحلة، إضافة إلى تميّزه عن الآخرين، وبساطة أسلوبه في استعراض تفاصيل جولاته. ويشير الباحث إلى أوّل من استعمل عبارة "أدب الرحلة" وهو (كراتشكوفسكي) عندما كتب عن الأدب الجغرافي في بداية القرن التاسع عشر. بينما سجّل المصريون القدماء رحلاتهم على جدران المعابد، وخاض الفينيقيون عباب الأطلسي، عُني الإغريق بوصف البلدان والأقاليم، فكان هيرودوت أوّل من رحل إلى مصر وبلاد الرافدين، ومن بعده ديودوروبلوتارك، في حين نهض العرب برحلاتهم إلى الحبشة واليمن والشام والعراق، فكان ذكر رحلتي الشتاء والصيف في القرآن الكريم، له مدلولاته على قيام التجّار والرحّالة العرب برحلاتهم، وهنا تُجمعُ المصادر على أنّ الرحلة العربية مرّت بأطوارٍ متعدّدة حتى بلغت أوج ازدهارها، فكان القرن السادس الهجري، بمثابة عصر الرحلة الذهبي، إذ امتاز بأهمية الآثار والتدوينات التي نقلوها.
يفرد الكاتب في دراسته جانباً يتيح تصنيف الرحّالة؛ فمنهم الباحث، والسائح، وكان منهم عالم الآثار والمبشّر والدبلوماسي، بينما كان بينهم جواسيس درسوا أوضاع البلاد وكتبوا تقارير عنها. وفي النهاية خلص البعض لأن يكون محايداً، بينما سيطرت على آخرين روح التعصّب الديني والعنصري والأحكام المسبقة. وهو ما منح رحلاتهم أهمية، كون المنطقة لم تحظَ بالاهتمام الكافي في فترات معيّنة من قبل المؤرّخين، ولكشفهم عن العادات غير الملموسة، والأحداث التي لم تدوّن في الوثائق الرسمية المكتوبة، لأنّ بعضها لم يعدّ غريباً إلا لدى الباحثين الغربيّين، وهو ما منح كتاباتهم الفرادة والأهمية للقيّمين على الدراسات التاريخية والاجتماعية.
العراق والجزيرة العربية بعيون أوروبية
يكشف الباحث في دراسته عن الأسباب التي جعلت من العراق قبلة للشرق أيام ازدهار الحضارة، ويعزو سبب اهتمام الرحّالة الغربيين بالجزيرة العربية لموقعها الاستراتيجي، والذي جعل المنطقة مستودعاً تجارياً على طريق الربط بين أوروبا وجنوب شرق آسيا، إذ تركت بغداد سحرها في نفوس الرحّالة، وهو ما دفع العيون الأوروبية إليها، ودفع الإنكليز لتعيين أوّل مقيم بريطاني في بغداد عام 1797 في الوقت الذي كان فيه نابليون يحلم بأن يكون اسكندرَ ثانياً في زحفه عبر دجلة والفرات. هكذا نفذ الرحّالة الأوروبيون إلى الشرق، ودرسوا تركيبة المجتمع القبلي والعشائري في العراق والجزيرة، فالتركيبة الإثنوغرافية في العراق لم تخلع عنه العباءة العربية، إذ سكنته قبائل كردية شمالاً وما بقي من تركمان وشركس وأرمن ترامى في أرجائه المتفرّقة، وهو ما حذا بالرحّالة للتركيز على تركيبة المجتمع الروحية والدينية، وتوثيق سطوة القبيلة على الفرد، فضلاً عن إسهام المسلمين في التعريف بالشرق الأقصى، فكانوا مرجعاً أساسياً في دراسة العمران والجغرافيا.
كما تُخلي الدراسة حيّزاً للتركيز على خروج الرحّالة الأوروبيين نحو الشرق لزيارة الأراضي المقدّسة، وقد عُدّت رحلاتهم في العصور الوسطى البداية الحقيقية لظاهرة الاستشراق، واتصال أوروبا بالشرق وتتبّع أخباره. أما خلال عصر النهضة فقد زاد اهتمام الأوروبيّين بالشرق حتى صار الأوروبي يتطلّع بعد عصر التنوير إلى ثقافات ولغات جديدة، وينحو لمراكمة معرفته عبر الترحال إلى الأراضي العربية. وهنا يقول الباحث بأنه لا غرابة بأن يكون الرحّالة خلال تلك الفترة من الحجّاج، لكن ذلك انعكس على رحلاتهم، إذ جاءت سريعة، وخالية من الدقة سيما أنها كُتبت بعد انقطاع طويل عن الشرق. ويفضّل أن يُصف رحّالة القرن الثامن عشر بأنهم رحّالة باحثون عن المعرفة، وأكثر دقة، إذ كانوا مموّلين من قبل جمعيات علمية، وشركات كبرى لقاء تقديمهم نتائج رحلاتهم، في حين كان بعضهم جواسيس مهّدت كتابتهم لإرسال حملات عسكرية عند مطلع القرن التاسع عشر.
وبينما تعدّدت هويات الرحّالة في القرن التاسع عشر، تباينت مهنهم وشخصياتهم، فكان على الرحّال أن يتعلّم اللغة العربية قبل أن يغادر بلاده نحو الشرق، ويقرأ كل ما كُتب عن البلاد العربية، ويتعلّم الشعائر والفقه والعقائد الإسلامية، إضافة إلى إلمامه بتاريخ القبائل العربية وارتدائه الزي العربي المسلم. وما يميّز رحلات تلك الفترة نحو العراق والجزيرة مشاركةُ العنصر النسائي فيها، فكان منهن النبيلات، إلا أن أبحاثهن لم ترقَ إلى الدقة، إذ حوت العديد من المبالغات والروايات المشكوك بأمرها، حتى خلص الباحث إلى مطلع القرن العشرين، حيث زاد تدفّق الرحّالة نتيجة تعاظم النشاط السياسي والاقتصاد في المنطقة العربية.
المجتمع البدوي والأسرة العشائرية
يفرد الباحث فصلاً اهتمّ بكتابات الرحّالة عن تركيبة المجتمع البدوي في المنطقة العربية، وكانت دراساتهم بمثابة كشف عن الغموض الذي يحوم حول أصغر وحدة مصغّرة للحياة في المجتمع البدوي، وذلك لارتباطها الوثيق بالتقسيمات الاجتماعية. وقد ركّز الرحّالة في أثناء بحثهم على عدة محاور ضمن الأسرة البدوية: مثل الحب وطبيعة علاقة الفتيات بالفتيان والقواعد الضابطة لذلك. والزواج وأعرافه، إلى جانب مقدّسات القبيلة حول ضرورة عدم تدنيس دم الأجداد بدم غريب أو الاقتران بالعبيد، فضلاً عن توثيق علاقة الأمومة واستسهالها كحدث فيزيولوجي بسيط، والفروقات بين المواليد الذكور والإناث والختان كظاهرة واجبة في المجتمع البدوي ومناسبة عُدّت لأجلها الأفراح.
مواجهة حضارية
يختم الباحث دراسته بالإشارة إلى إفادة مؤلفات الرحّالة بتقديمها صورة جلية عن الطبوغرافيا التاريخية للمنطقة، ومزجها الجغرافيا بالتاريخ في تناسق حيوي، وانغماسهم في منطقة الجزيرة العربية والعراق ضمن ما أسماه مواجهة حضارية حقيقية بين الجانب الشرقي المسلم والغربي الصليبي، فضلاً عن توفير صورة مهمة عن خريطة العراق العشائرية والعرقية مع تبيان أوجه التشابه بين كتابات الرحّالة العرب والغرب، وهو ما أكسب الدراسة جوانب معرفية ونقدية مهمة، ومكَّن من اعتبارها مرجعاً أساسياً لدارسي التاريخ الحديث والمعاصر.