خطاب الإبادة من رواندا إلى فلسطين
تتحكم في خطاب الابادة، وفقاً لجاك سيميلين، عادة 3 ثيمات ترتبط بقوة بالعنف الممارس ضد الآخر، وهي الهوية الجماعية، والسعي لتحقيق النقاء العرقي أو القومي، والرغبة الماسّة في الشعور بالأمن.
عمليات الإبادة. تلك الفصول المظلمة من تاريخ البشرية، دليل دامغ على توحش الإنسان وإيغاله في القتل بلا رحمة. المشاهد المؤلمة للمجازر بحق المدنيين العزّل، والصفحات المروّعة التي تصف هذه الأهوال من قتل وتمثيل بالجثث وتدمير الأملاك، توقظ فينا أسئلة محرقة، منها: ما الذي يدفع الأفراد أو المؤسسات وحتى الحكومات إلى المشاركة في مظاهر بمثل هذه القسوة؟
لا يمكن استخلاص إجابات عن هذه التساؤلات المعقّدة ببساطة من الواقع، بل يجب استكشافها أيضاً في متاهة المشاعر والدوافع البشرية. السّمات الصادمة للمجازر لا يجب أن تمنعنا من التساؤل عن منطق الفاعلين، ووسائلهم للعمل ووجهة نظرهم أيضاً بشأن أهدافهم وتصوّراتهم للعدو. وعلى رغم رعب الأمر، فإنه يجب أن نعترف بأنّ هؤلاء يسعون وراء أهداف محدّدة تماماً، كالسيطرة على أراضٍ جديدة وامتلاك الثروات، أو الاستيلاء على السلطة، وتقويض نظام سياسي معين، وغيرها من الأمور.
من الضروري بمكان تحليل خطاب الإبادة لنفهم كيف استطاع بعض الأفراد أو الجماعات والهيئات ترويج أفكار أو توجهات تُحرّض على القتل أو التدمير الشامل لمجموعات معيّنة من الناس. ويجب أن ندرك قبل كل شيء أنّ المجزرة تنبع من عملية عقلية، فهي وسيلة لرؤية "الآخر" وتشويهه، وتقليل قيمته، وتدميره قبل قتله، ويمكن تسريع هذه العملية العقلية المعقدة في زمن الحرب.
وفقاً لتعريف المؤرخ الفرنسي جاك سيميلين، يُمثّل الخطاب الإبادي فنّاً مظلماً من فنون الإقناع، وهو يتألف من مجموعة من الخطب واستراتيجيات التواصل التي يستخدمها الأفراد والأحزاب، أو حتى الدول، بهدف زرع الكراهية، وتبرير أعمال العنف الوحشية ضد فئة معينة من الناس بناءً على عوامل، مثل العرق أو الدين أو الانتماء القومي، وفي نهاية المطاف، تمهيد الطريق لارتكاب أفعال بشعة بحقها.
أحياناً، قد تصبح الكراهية تجاه هذا "الآخر" وسيلة للرد على الصدمة التي تعرضت لها الجماعة، وبالتالي تصبح فكرة تدمير العدو منطقية لأنها ستعزز وجود الــ "نحن" وتسمح بإنهاء المعاناة. تساهم الخطابات السامّة للسياسيين في تأجيج مظاهر البربرية التي لا يتصورها عقل إنسان، كالتي نراها حالياً في غزة، ورأيناها سابقاً في جنوبي لبنان والبوسنة ورواندا وغيرها من الأماكن.
كذلك تؤدي الدعاية، وخصوصاً الموجَّهة من جانب السلطة، دوراً حاسماً في توجيه الرأي العام، بحيث تحث المنفذين على تكرار الأفعال الهمجية، وتعزِّز لديهم الشعور بالإفلات من العقوبة بسبب عدم وجود رادع قانوني وأخلاقي، الأمر الذي يزيد في عدوانيتهم وجرائمهم.
غالباً ما يستخدم القتلة الاستعارات والتشابيه الحيوانية لإهانة الضحايا وتحقيرهم. على سبيل المثال، استغلت القوات الحكومية في رواندا عام 1994 التقسيم العرقي بطريقة خبيثة لتشجيع الإبادة الجماعية، إذ وصف الهوتو قبائل الـتوتسي بـ "الصراصير، والجرذان والقمل" تمهيداً لتصفيتهم، ووصل نشر الخوف والتهويل إلى ذروته مع خطابات علنيّة تدعو إلى القضاء على الـتوتسي، كونهم يشكّلون تهديداً وجودياً.
ونذكر هنا استخدام إذاعة ميل كولينز الشهيرة في رواندا منصةً لنشر خطاب الكراهية، بحيث دعت مباشرة إلى العنف ضد الـتوتسي ووصفتهم بـالخونة وأنهم أشخاصٍ غير مؤمنين، يحاولون استعادة الملكية التوتسية واستعباد شعب الهوتو.
أمّا بالنسبة إلى غزة فوصف وزير الحرب "الإسرائيلي"، يوآف غالانت، الفلسطينيين بــ "الحيوانات البشرية"، قائلاً: "نحن نقاتل حيوانات ونتصرف وفقاً لذلك". وكذلك فعل الصحافي الإسرائيلي، شمعون ريكلين، الذي لم يخجل من التصريح برغبته في رؤية مزيد من جرائم الحرب بحق الفلسطينيين: "لا أستطيع النوم من دون مشاهدة بيوت غزة تنهار. أريد رؤية المزيد والمزيد من البيوت والمباني والأبراج تهدم. في التوراة كانوا يرشون الأرض بالملح. لا أريد أن يكون هناك مكان يعودون إليه".
يستغل أصحاب خطاب الإبادة أيضاً الخطوط التقسيمية القائمة داخل المجتمعات، سواء كانت عرقية أو دينية أو ثقافية، مكثفين التوترات القائمة. ومن خلال تعظيم هذه الانقسامات، يخلقون فكرة "نحن ضدّ هم "، فيصبح القضاء على العدو مسألة حياة أو موت.
كما يدّعي الخطاب الإبادي غالباً مبررات زائفة، و يعمل أصحابه على خلق سردية تحوّلهم من جلادين إلى ضحايا، ويسعون لكسب التعاطف الدولي أو تعبئة أفراد المجتمع.
خلال حرب البوسنة (1992-1995)، اعتمد الخطاب الإبادي، بصورة رئيسة، على حجج إثنية وطائفية، وعمل القوميون الصرب على خلق صورة سلبية عن البوسنيين، وعَدُّوهم مهاجمين مسلمين يهددون استقرار صربيا، وتم وصفهم بالغزاة المسلمين. هذا الخطاب زاد في الخوف من "التسلل الإسلامي"، ومنح المبرر للجيش والعصابات الصربية للقيام بالمجازر وعمليات التطهير، أو جرائم الاغتصاب بحق المدنيين الأبرياء.
تتحكم في خطاب الابادة، وفقاً لجاك سيميلين، عادة، 3 ثيمات ترتبط بقوة بالعنف الممارَس ضد الآخر، وهي الهوية الجماعية، والسعي لتحقيق النقاء العرقي أو القومي، والرغبة الماسّة في الشعور بالأمن.
ويلجأ دعاة هذا الخطاب إلى العناصر التاريخية والتراثية والدينية لتشكيل الذاكرة الجماعية والتلاعب بها بهدف تغذية الاستياء العام والحقد، وصولاً إلى تشجيع أعمال العنف، وخصوصاً في فترات الأزمات، بحيث يميل الأفراد إلى الاحتماء بهويتهم المشتركة، متخلين أحياناً عن هوياتهم الفردية لتعزيز تماسك المجموعة.
كما أن السعي لـ"النقاء" يرتبط بالعنف الجماعي، ويتمظهر من تصنيف "الآخر" كغير نقي، واستحضار ثنائيات النظافة/القذارة، والنقاء/الدنس، والبياض/السواد. أما الحاجة الى الأمن والأمان فتزيد في سعير الهمجية ضد الآخر، فالخوف، سواء أكان حقيقياً أم خيالياً، هو سبب أساسي في تصاعد أعمال العنف.
في سياق الصراع "الإسرائيلي" - الفلسطيني المستمر منذ 75 عاماً، يرتبط الخطاب الإبادي بمنطق "الدفاع الشرعي" عن النفس، بحيث تسعى "إسرائيل" لتصوير نفسها كضحية لأعمال عنف مستمرة من جانب الفلسطينيين، وأنّها مضطرة إلى استخدام القوّة لإنقاذ "مواطنيها" و"حمايتهم من الإرهاب".
ويوظّف المشروع الصهيوني، بصورة خاصة، أيديولوجيا التوراة، ويَعُدّها مكوّناً رئيساً من الفكر الصهيوني وأساساً لبناء هويّة جامعة. إنّ جرائم الإبادة الجماعية، التي قام ويقوم بها الصهاينة، تجد صدى لها في حكايا الكتاب، وخصوصاً تلك التي تروي ما قام به الأسلاف ضد الشعوب الأخرى (الأغيار أو الغوييم )، وكيف عملوا بوحشية على استئصالهم.
نجد مثلاً في سفر صموئيل الأول قول رب الجنود: "اذهب واضرب عماليق وحرّموا كل ما له، ولا تعف عنهم، اقتل رجلاً وامرأة، طفلاً ورضيعاً، بقراً وغنماً، جملاً وحماراً". والتحريم يعني الإبادة الكليّة للناس والأشياء.
أما العماليق فهم من الشعوب التي كانت تسكن أرض كنعان. وقام المشروع الصهيوني بإسقاط أسطورة عماليق على أعدائه الحاليين، وأصبح الفلسطينيون والعرب هم العماليق الجدد، الذين يجب إبادتهم بهدف بناء "دولة قوميّة يهودية".
طبعاً، لا يمانع الصهاينة من تكرار غزوات الماضي لتحقيق أهداف هذا المشروع، ونسمع كثيراً هذه الأيام وسائل إعلامهم تتحدث عن قتل الفلسطينيين وإحراق غزّة. ووصل الأمر بأحد الوزراء الإسرائيليين إلى الدعوة إلى إلقاء قنبلة نووية على أهلها. ووفقاً للباحث عصام سخنيني، صاحب كتاب "الجريمة المقدسة" (2012)، فإنّ حكايات التوراة يقع معظمها في إطار منظومة الإبادة الجماعية. والاسوأ من كلّ ذلك أن الرب العبراني "يهوه"، هو الذي يدعوهم إلى ذبح سائر الأقوام، ويقف إلى جانبهم ويحارب عنهم، وهو من منحهم أرض فلسطين وفاءً لوعد قطعه لأسلافهم.
لكن الباحثين المتخصصين باللغة والتاريخ والآثار يدحضون الخطاب الصهيوني الذي يدّعي حقوق لليهود في فلسطين من أجل تبرير العنف والعنصرية ضد الفلسطينيين، وأشهرهم الباحث التاريخي واللغوي اللبناني، كمال صليبي، الذي يؤكد في كتابه، "التوراة جاءت من جزيرة العرب"، أنّ أحداث "العهد القديم" لم تكن ساحتها فلسطين، بل وقعت في جنوبي غربي الجزيرة العربية ، لأنّ الأكثرية الساحقة من أسماء الأماكن التوراتية لا وجود لها في الأراضي المحتلة، والقليل الموجود هناك لا يتطابق من ناحية الحدث مع تلك المذكورة بالأسماء ذاتها في التوراة.
ويحدّد الصليبي منطقة "إسرائيل" القديمة، التي عاش فيها بنو إسرائيل سابقاً، في الأرض الواقعة عند جانبي الجزء الجنوبي من جبال السروات، جنوبي الحجاز وعسير، من الطائف نزولاً إلى الحدود مع اليمن. وهذه الأطروحة تنسف كل ما يدعيه اليهود عن حق تاريخي لهم بفلسطين.
خطاب الإبادة هو، إذاً، قوّة مظلمة تتجاهل الحقائق وتتلاعب بالعواطف البشرية بهدف تشكيل سردية تُبرّر المذابح الجماعية وعمليات التطهير العرقي. تحليل هذا الخطاب يجعلنا ندرك أنّ الكلمات قد تكون مُدمّرة ولها القدرة نفسها للأسلحة، وقادرة على إحداث ضرر كبير ، وخصوصاً في عصر التكنولوجيا الحديثة، بحيث توَسّع وسائل التواصل نطاق الخطاب الإبادي، وتسمح الدعاية، سواء من خلال وسائل الإعلام التقليدية أو منصّات الإنترنت، بنشر الرسائل المعادية والمعلومات الزائفة، والخطب المثيرة للفتنة، بسرعة وبفاعلية.
لا شك في أن الفهم العميق لخطاب الابادة هو أمر حيوي لمنع مثل هذه الجرائم ضد الإنسانية. ولا شكّ في أن الوعي، وتعزيز التثقيف النقدي للجمهور، وإنشاء روايات مضادّة تقوم على أدلة علمية، سيكون لها دور إيجابي في مقاومة هذا التلاعب المدمّر.