حنة أرندت: فكر سياسي بعمق فلسفي
عاشت علاقة فكرية وعاطفية مع الفيلسوف هايدغر وفرقتهما النازية. انتقدت الصهيونية، لكنها لم ترفض وجود "إسرائيل"... من هي حنة أرندت؟ وما أبرز ملامح نظرياتها السياسية؟
ولدت المُنظِّرة والمفكِّرة السياسية حنة أرندت في 14 تشرين الأول/أكتوبر من سنة 1906، في مدينة هانوفر الألمانية لعائلةٍ يهودية. ترعرعت على يد أمٍّ تقدمية في كونيغسبرغ (كلينينغراد الحالية)، كانت معجبةً بالمُنظِّرة الماركسية المعروفة روزا لوكسمبورغ، لكنّها تلقَّت مع ذلك تربيةً دينيةً من طرف حاخامٍ كان صديقاً لجدِّها.
فقدت أباها ثم جدَّها، ولم تَكد تبلغ الـ8 من عمرها حتى اندلعت الحرب العالمية الأولى، التي كان لها عظيم الأثر على الطفلة حنة.
محطات مهمة في سيرتها الذاتية
عند بلوغها سن الـ18، التقت الفيلسوف مارتن هايدغر (1889-1976)، الذي ارتبطت أعماله الفلسفية بالوجودية، ودخلت معه في علاقةٍ فكريةٍ وعاطفية عاصفة، وحضرت بشغفٍ كبيرٍ محاضرات فيلسوف الفينومينولوجيا (الظاهراتية) إدموند هوسرل (1859-1938)، التي كان يلقيها في جامعة فرايبورغ.
وفي العام 1926 درست في جامعة هايدلبرغ، حيث التقت الفيسلوف الوجودي كارل ياسبرس (1883-1969)، الذي أشرف في ما بعد على رسالتها للدكتوراه، التي حملت عنوان "مصطلح الحب عند القديس أوغسطين". درست أرندت اللاهوت والفلسفة، وتزوَّجت بعدها بالفيلسوف غونتر أندرس (1902-1992).
في سنة 1933، وبعد وصول النازيين إلى سُدّة الحكم في ألمانيا، اضطرت لمغادرة البلاد قاصدةً فرنسا، حيث قضت حوالى 8 سنوات، بعد مكوثٍ قصيرٍ في تشيكيا وسويسرا. وبعد ذلك بـ3 سنوات، انفصلت عن زوجها غونتر أندرس، وتزوَّجت بالفيلسوف هاينريش بلوخر (1899-1970)، إلى أن اضطرتها الظروف من جديد إلى مغادرة فرنسا سنة 1940، فتوجَّهت إلى الولايات المتحدة لتستقر في مدينة نيويورك. بدأت حنة تُلقي المحاضرات في عددٍ من الجامعات الأميركية، مثل شيكاغو وباركلي وبرنيستن، لكنّها كانت دائمة النشاط في المدرسة الجديدة للبحوث الاجتماعية، التي درَّست فيها بانتظام الفلسفة السياسية حتى نهاية حياتها سنة 1975.
في العام 1951، نشرت أرندت أبرز كتبها تحت عنوان "أسس الشمولية"، الذي تضمَّن دراسةً نقدية للنظامين السياسيين النازي والستاليني، باعتبارهما نموذجان للشمولية، ثم نشرت بعده كتابها الفلسفي "الوضع البشري" سنة 1958، وكتاب "أيخمان في القدس: تقرير حول تفاهة الشر"، الذي كتبته بعد حضورها محاكمة الضابط النازي الذي اختطفه الموساد من الأرجنتين ليُحاكم في "إسرائيل"، بصفتها صحفية في مجلة "نيويوركر"، ثم أتبعتها بمجموعةٍ من المُؤلَّفات والمقالات على غرار "في الثورة"، وكان كتاب "حياة العقل"، بجزأيه الأول والثاني، آخر مُؤلَّفَاتِها الفلسفية.
ملامح الفلسفة السياسية عند أرندت
في تصريح لها للتلفزيون الألماني سنة 1964، قالت حنة أرندت إنّها "لا تنتمي إلى دائرة الفلاسفة"(1)، وهذا ما جعل البعض ينسب مُؤلَّفاتها إلى النظرية السياسية أكثر منه إلى الفلسفة، بل كانت الفلسفة بالنسبة إلى أرندت غريبةً عن الحقل السياسي، فـ"الفلسفة الغربية لم يكن لديها تصورٌ سياسيٌّ"، كما عبَّرت في رسالتها إلى كارل ياسبرز سنة 1951، بل ذهبت أبعد من ذلك عندما قالت، في الرسالة ذاتها، إنَّ "الفلسفة الغربية لم تكن بريئةً تماماً في سياق صعود الشمولية في القرن الـ20".
كان لنفور أرندت من الانتساب إلى دائرة الفلاسفة علاقةٌ بتأييد مارتن هايدغر للنازية، وهو الذي ارتبطت معه بعلاقةٍ غراميةٍ وفكريةٍ في مرحلةٍ مُبكِّرةٍ من حياتها، كما سبق وذكرنا. بالنسبة إلى أرندت فإنَّ الفلسفة لم تعصم صديقها من الارتماء في أحضان الفكر النازي، ولم تمنعه من معرفة حقيقة هذه الإيديولوجية، لكن مع ذلك فإنَّ ياسبرز اعتبر أنَّ النظريات السياسية التي كتبتها أرندت هي فعلياً مقولات فلسفية، فالنظرية السياسية لا يمكن لها أن تخلو من عمقٍ فلسفي (2).
من أبرز ملامح الفلسفة السياسية عند حنة أرندت دراسة ما أسمته "الأنظمة الشمولية"، وقد قصدت تحديداً النظامين النازي والستاليني، على الرغم مِمَّا بينهما من تناقضٍ بنيوي. وفي متن كتبها ضمَّنت آراءها حول قضايا مختلفة؛ العنف والسلطة والحرية وغيرها. اعتبرت أرندت أنَّ الأنظمة الشمولية هي أكبر خطر يتهدَّد البشرية، والتي صعدت في سياق حدثين تاريخيين مُهمَّين عاصرتهما في القرن الـ20، وأثَّرا فيها بشكلٍ مباشرٍ، هما الحربين العالميتين الأولى والثانية.
تُفرِّق أرندت بين النظام الشمولي (التوتاليتاري)، وبين النظام المُستبد. فالأنظمة المستبدة تتميَّز بغياب القانون، والخضوع التعسفي للحاكم الطاغية، استناداً لمونتسكيو. ترى أرندت أنَّ مبدأ الفعل الذي يُدير العلاقات بين الأفراد والسلطة في ظل الأنظمة المستبِدَّة هو الخوف، على عكس الشمولية التي تخضع للقوانين، ولكنّها "قوانين خارجة عن الفعل الإنساني"، على حدِّ تعبيرها، وهي قوانين أيديولوجية؛ قوانين الطبيعة في الحالة النازية، وقوانين التاريخ في الحالة الشيوعية. تنسف الأنظمة الشمولية كل حماية قانونية لصالح التفريق بين "الأعداء الموضوعيين" للنظام، وبين السكان الذين من المفترض أن يشكِّلوا لوحدهم النظام الاجتماعي الجديد (طبقة البروليتاريا، الجنس الآري...). تهدف الأنظمة الشمولية، بحسب أرندت، إلى تشكيل إنسانٍ فريدٍ خاضعٍ بصورةٍ آليةٍ، إذ إنّها لا تدع مجالاً لأيِّ فعلٍ يتعارض مع الأيديولوجيا (3).
تناولت أرندت مواضيع ترتبط مباشرةً بالحركات الشمولية، وجذور الشمولية كنظام، فحلَّلت مثلاً الأسباب التي تجعل منها جماهيريةً وشعبيةً، والتي ردّتها إلى الدعاية والتنظيم من جهةٍ، والتلقين العقائدي من جهةٍ أخرى، كما حللت ظاهرة اللامبالاة وانعدام الوعي عند الجماهير المتماهية مع الحركات الشمولية، وكذلك ممارستها للعنف في مراحل معينة، خاصةً بعد تمكٌّنها من السلطة، وخاضت أيضاً في مواضيع سياسية عديدة، كالمواطنة والمشاركة السياسية، حيث أكَّدت على العلاقة الوطيدة بين الفعل السياسي، الذي يتلخَّص في المشاركة السياسية للمواطنين في الشأن العام، والقوة السياسية الفعَّالة الناتجة عن هذا الفعل، وقد اعتبرت أنَّ المشاركة السياسية المباشرة والنقاش المشترك في الفضاءات العامة هما أساس المواطنة والتعبير الفعَّال لممارسة القوة السياسية، وهما التجسيد الفعلي لمبدأ تقاسم السلطة.
أرندت والصهيونية
في جوابها على سؤالٍ طُرِح عليها في العام 1972 حول آرائها السياسية، قالت إنَّ "الجماعة السياسية التي انتمت إليها في حياتها كانت الحركة الصهيونية، وكان ذلك بين 1933 و1943 بسبب هتلر، ثم قطعت معها بعد ذلك" (4). خلال سِنِي إقامتها في باريس، تكفَّلت بنقل الأطفال اليهود إلى فلسطين المحتلة، وكان هذا النشاط مناسبةً لأول إقامةٍ لها في فلسطين سنة 1935. اختلف النشاط الصهيوني لأرندت بعد انتقالها إلى نيويورك، حيث قامت بكتابة مقالات في جرائد صهيونية (5)، من بينها مقالات تدعو فيها إلى تأسيس جيشٍ يهودي للدفاع عن وجود اليهود ومصالحهم. لكنها انتقلت في مراحل لاحقة إلى توجيه انتقادات للصهيونية، وقد كانت أول بوادر ذلك سلسلة مقالات كتبتها في 1942 حول ما أسمته "أزمة الصهيونية".
تناولت أولى انتقادات أرندت سيطرة "جهاز بيروقراطي" على الحركة الصهيونية، ثم أتبعتها بانتقاداتٍ للقيادات البرجوازية في الحركة. أيَّدت أرندت فكرة تأسيس دولة موحدة لليهود والعرب في فلسطين المحتلة، ورفضت قرار التقسيم الصادر سنة 1947. حدثت القطيعة بين أرندت وقيادة الحركة الصهيونية سنة 1944، بعد اتفاقية "أتلانتيك سيتي"، والتي دعت لكومنولث يهودي ديمقراطي يضم كامل مساحة فلسطين المحتلة من دون تقسيم. وفي الستينيات انتقدت إجراءات محاكمة الضابط الألماني النازي أيخمان، وعلى الرغم من تأييدها لإدانته وإعدامه، إلّا أنّها لم تعتبره أكثر من مُوظفٍ نفَّذ الأوامر الصادرة إليه، ممَّا عرَّضها لانتقاداتٍ حادَّة في "إسرائيل".
لم تصل انتقادات أرندت للصهيونية، حتى في مرحلة قطيعتها معها، إلى الحد الذي يرفض تأسيس كيانٍ لليهود، قام فعلياً على الإرهاب والعنف وتهجير شعبٍ كاملٍ من أرضه، أو إلى حدِّ انتقاد القوى الديمقراطية الليبرالية "غير الشمولية"، التي دعمت هذا الكيان ومكَّنته من كل أسباب القوة.
رغم تأثَّر الفكر السياسي لحنة أرندت بالمقولات الفلسفية لعددٍ من الفلاسفة الذين عرفتهم عن قرب، كهايدغر وياسبرز، وبروز البعد الفلسفي في متن مُؤلَّفاتها، فإنها ظلَّت ترفض الانتساب إلى دائرة الفلسفة، ولعلَّ عمقها الفلسفي هو الذي جعل نظرياتها السياسية موضع دراسة ونقد مستمرين، يُوظِّفها الغرب "معرفياً" وسياسياً في الصراع ضد الأنظمة المعادية لهيمنته الأمبراطورية، والتي يصفها بـ"الشمولية"، وذلك في مراحل تاريخية مختلفة.
المراجع
(1) Jean-Claude-Poizat, Annah arendt contre la philosophie ? de Miguel Abensour, « Le Philosophoire », 2006/2 n° 27 | pages 265 à 268.
(2) لمعرفة العلاقة الجدلية لفكر أرندت بالفلسفة والسياسة راجع كتاب:
Miguel Abensour, Hannah Arendt contre la philosophie politique ? Sens & Tonka, 2006, France.
(3)Florent Bussy, Association des professeurs de philosophie de l’enseignement public « L’Enseignement philosophique », HANNAH ARENDT, LA POLITIQUE ET LA PENSÉE, 2017/2 67e Année | pages 19 à 24.
(4) Pierre Bouretz, « Raisons politiques », Hannah Arendt et le sionisme : cassandre aux pieds d’argiles, 2004/4 n° 16, pages 125 à 138.
(5) جريدة l’Aufbau، وجريدة «Zionistische Tribune».