حسونة المصباحي.. نبتة برية عاشت تبحث عن السعادة

حلم بالعدالة الاجتماعية، واختبر السجن السياسي وإحباط جيل عربي من أصحاب الأحلام الطوباوية. من هو التونسي حسونة المصباحي الذي غادرنا قبل أيام؟

رحل، أول أمس الأربعاء، الروائي والصحفي والمترجم التونسي، حسونة المصباحي (1950 – 2025)، تاركاً خلفه عشرات المؤلفات والكثير من المقالات الصحفية خلال 5 عقود من الزمان، أمضاها بين تونس وعواصم عربية وغربية.

الموت قريباً من الكتب وصيته الأخيرة 

  • أوصى المصباحي أن يدفن أمام بيته في الذهيبات بالريف التونسي
    أوصى المصباحي أن يدفن أمام بيته في الذهيبات بالريف التونسي

ترك حسونة المصباحي، المولود في العلا بولاية القيروان، وصيته الأخيرة وهي أن يدفن أمام بيته في الذهيبات بالريف التونسي، لأنه كان يؤمن أنه عاش للأدب وبالأدب، وأن الكتب شاهد صادق على مرور الكاتب في هذه الحياة، ولأن مكتبته هي كنزه الأحبّ إلى قلبه، خاصة إذا علمنا أنه جمعها على امتداد سنوات مديدة في تنقلاته عبر عواصم العالم شرقاً وغرباً.

الشاب الذي تمرّس بالسياسة مبكراً، وكانت تهدهده أحلام طوباوية لتحقيق العدالة الاجتماعية أمام ديكتاتورية تتنامى، وأمام التناقض الصارخ للتفاوت الجهوي والطبقي، وجد نفسه في السجن في سبعينيات القرن الماضي، وكان حينها قد تخرّج من الجامعة التونسية أستاذاً في الأدب واللغة الفرنسية. 

في روايته "على أرصفة الشتات" يتحدث المصباحي عن تجربة السجن فيقول: "تعتريني رغبة في أن أصرخ عالياً، في أن أخبط على الباب الحديدي، غير أن رغبتي سرعان ما تنطفئ تحت رياح الخوف من غضب الجلادين فأرتد إلى نفسي مقهوراً. ومن جديد تبرز الهواجس في ظلمة الزنزانة قاتمة نافشة ريشها مثل طيور شؤم تمد مناقيرها نحوي وتأخذ في نقر لحمي بقسوة لا مثيل لها. أحاول أن أدفعها عني فأشحذ الذاكرة بحثاً عن صور جميلة من الماضي".

الانطلاق نحو الحرية والإيمان بالتجربة والكتابة 

  • عرف حسونة المصباحي بجمعه بين أجناس أدبية عديدة
    عرف حسونة المصباحي بجمعه بين أجناس أدبية عديدة

يقول حسونة المصباحي بعد أن أفرج عنه: "أبداً لم ألمس المعنى الحقيقي للحرية مثلما لمسته تلك الليلة وأنا وحيد أمام البحر"، لينطلق نحو التدريس في قفصة، ثم يُفصل بعد ذلك وتبدأ رحلة العيش على الهامش فيكتشف وجه تونس الذي يعج بالفقر وبالانتهازيين أيضاً. مفارقات عجيبة عبّر عنها في مجموعته القصصية "حكاية جنون بنت عمتي هنية"، التي كتب عنها الأديب المصري، يوسف إدريس، قائلاً: "يكفي أن تقرأ قصة واحدة لحسونة المصباحي كي تعرف كيف يعيش الإنسان التونسي، وكيف يفكّر وما هي حكاياته وأساطيره الخاصة كما لو أنك عشت في تونس عشرات السنين".

هذا الأديب الذي عُرف بإنتاجه الغزير عمل مراسلاً ومتعاوناً حراً منذ مطلع الثمانينيات مع الصحف والمجلات العربية مثل "الوطن العربي" و"كل العرب" و"الدستور" وغيرها. كما كان سكرتير تحرير في مجلة "فكر وفن" الألمانية عندما استقر في مدينة ميونخ منذ العام 1985 حتى عام 2004. كما كتب في مجلات ألمانية وعربية مقالات ودراسات حول العالم العربي. 

وعرف المصباحي بجمعه بين أجناس أدبية عديدة منها إلى جانب الرواية والقصة القصيرة، أدب الرحلات وسير البلدان والبشر. نذكر من مؤلفاته "وداعاً روزالي" و"هلوسات ترشيش" و"الآخرون"، و"نوارة الدفلى" و"رماد الحياة" و"يتيم الدهر" وغيرها، في حين أن آخر رواية كتبها وهو على فراش المرض كانت بعنوان "موت سالمة"، والتي تحقق حلمه وصدرت عن "دار الكتاب" في تونس قبل وفاته. 

ومما جاء فيها "لا بد له أن يعود والعودة ستوفر له فرصة التدرب على الموت الذي بات وشيكاً. وكما عبّر عن ذلك الإيطالي بلوتراج، وحده الإنسان الحر تكون له القدرة على مواجهة الموت الذي ينتظرنا في كل مكان. والتربي على الموت يحررنا من العبودية ومن كل تبعية.. إذن سيعود".

رأي حر وتشبث بالجذور 

  • منذ نصوصه الأولى أبدى حسونة المصباحي ولعاً بتونس وبالشخصية التونسية
    منذ نصوصه الأولى أبدى حسونة المصباحي ولعاً بتونس وبالشخصية التونسية

منذ صدور نصوصه الإبداعية الأولى أبدى حسونة المصباحي ولعاً بتونس وبالشخصية التونسية فوصفها في أدق تفاصيلها، وصنع شخصيات وأبطالاً واقعيين يمكن أن يراهم المشاهد في أي مكان وتحت أي ظرف مستنداً إلى تجربة حياتية عميقة.

خبر المصباحي من خلالها سرّ الحياة العميق فكتب "بحثاً عن السعادة" لأنه كان يؤمن أنها المفتاح الذي يوفر للكاتب حياة مستقرة وإبداعاً متجدداً. كما أنها الباب الأزلي الذي تبحث عنه البشرية وأحياناً تخطئ المفاتيح، لذلك دافع المصباحي عن التنوير والحداثة المتأصلة وهوية تونس وتاريخها الزاخر بالروافد الحضارية.

هكذا كتب عن" القديس أوغسطين في مملكة الله"، وكتب منتقداً "عن رحلة في زمن" و"زعماء الإصلاح في تونس". كما عرف هذا الأديب بولعه بالأدب العالمي قراءة وترجمة، فكانت كتبه الأخيرة مليئة بالإشارات إلى نصوص أثرت في مساره الأدبي من جيمس جويس إلى بودلير وفوكنر ولوركا وكافكا وهنري ميلر وغيرهم من صُنّاع الأدب الكلاسيكي والمعاصر. 

حنين وصحبة يشقّان روايات حسونة المصباحي 

رغم أنه استخدم أحياناً ضمير المخاطب بالتوازي مع الغائب في أغلب رواياته فإن المصباحي الذي فاز بجوائز عديدة منها "جائزة محمد الزفزاف للرواية العربية"، و"جائزة ابن بطوطة لأدب الرحلة"، بسط سيرته بأكملها على الورق وفكك أدق تفاصيلها وصنع بانوراما حية تتحرك بشخصيات حقيقية دخلت حياته الخاصة. هكذا تحدث عن الحب والصداقة والهجران الجميل للأمكنة وللأحبة والعائلة، كما تحدث عن باريس وبيروت وألمانيا ومراكش والقاهرة وبغداد وسلط الضوء على الأحداث الكبرى التي عاشتها العواصم العربية والتجارب في الحكم، منتقداً فشل تجارب كثيرة على أرض الواقع. 

وتفانى المصباحي أيضاً في إظهار الوجه القبيح لمن سمّاهم "غربان الفجر"، وهم أعداء "أبناء الفرح الكبير". كما استجار برمزية الشعر فكان أبو القاسم الشابي حاضراً بقوة "إرادة الحياة" و"نشيد الجبار" ليقاوم البذاءة وكوابيس الجهل وانعدام الذوق في التعاطي مع الحياة. يقول المصباحي "... وقد وجدت في قصائد ويليام بليك ما منحني قوة روحية هائلة حررتني من الخوف وجعلتني أقبل من جديد على حب الحياة الذي كادت تجرفه ثقافة الموت ...ويرى الفيلسوف كانط أن الحياة السعيدة شبيهة "بروح حرة متسامية من دون خوف دائم". ويضيف المصباحي في روايته الأخيرة ملخصاً عشقه اللامتناهي لكل النصوص الملحمية وتلك التي تحتفي بالحياة وبالإنسان وباللحظة على لسان امبرتو ايكو في "اسم الوردة"، أن "ثمة أحلاماً شبيهة بالكتابة وهناك كتابات شبيهة بالأحلام". 

هذه الكتابة التي جعلت حسونة المصباحي يوثق صداقته لآشوري عراقي هو صموئيل شمعون، وسوري هو بشير البكر، وتونسيين منهم صديقه القديم خالد النجار، والعفيف الأخضر، والفاضل الجزيري، في روايته "على أرصفة الشتات" الصادرة عن "شركة المطبوعات للنشر والتوزيع" في بيروت، لنكتشف سِيَر هؤلاء بما تحمله من ألم وانتكاسات وطموحات. 

اخترنا لك