جوعى تحت المطر
احتُلت قريتنا وعدّة قرى يوم 20 تشرين أول/أكتوبر عام 1948، وجاء تشرين عام 2023 وفلسطين تملأ العالم، وحلمي بالعودة إلى ذكرين يملأ قلبي، وفي العالم يدوّي هتاف: فلسطين من النهر إلى البحر.
حكاية من تلك الأيّام
تكومنا متلاصقين فوق الفراش الذي لملمته العمة مليحة وأجسادنا ترتجف وأسناننا تصطك ببعضها، فلا تتوقف عن إخراج أصوات حادة ولا نتمكن من تثبيت فكوكنا، وتوشك أسناننا أن تتكسّر من شدّة الارتطام ببعضها بلا توقف بالترافق مع ارتجاف أبداننا.
نتساءل: أين نحن الآن؟ لقد هرب بنا أهلنا! لماذا؟
لقد هرب بنا أهلنا من بلدتنا ذكرين، ولم نعرف لماذا هربوا بنا، فماذا فعلوا حتى يهربوا ويلحقوا بنا في ما بعد، ثمّ بدأنا نعرف شوية شوية.
الجدتان فاطمة وذوابة، أم أبي وأم العم عبد الرحمن، تقضيان الوقت مغمضتين عيونهما وهما تتمتمان بأدعية ليحمينا الله من اليهود.
من هم اليهود الذين هجموا علينا فجأة، وأخذوا يطاردوننا ورصاصهم يدوّي فوق رؤوسنا، ونحن لا نراهم، ولا نعرف ما هو الرصاص، ثم عرفنا ما هو يوم قُتل محمود، وتأكدنا من موته والدم على صدره وهو ممدد في الدسكرة التي ينقل بها الموتى ووجهه يتجه إلى السماء.
في الليل رأينا ضوء طائرة يخفق في السماء، وسمعنا دويها، ومتنا من الخوف ونحن نراها كنجمة تلف وتدور كأنها تبحث عنّا، وما ضاعف خوفنا أنها كانت تهبط وترتفع، وكنّا نحن والنساء وحدنا لأن الرجال بقوا في ذكرين ليردوا اليهود عنها.
نحن قريبون من قرية بيت جبرين، تقول النساء:
- سنرجع إلى بيوتنا في (ذكرين).
بينما سيارات شحن تمتلئ بالناس الذين يرحلون، ونحن ننتظر، ولا نعرف ماذا يحدث في ذكرين التي فيها أبي ورجل آخر يقودان المسلحين، بعد أن انسحب الجيش المصري وعسكر في الخليل التي لا نعرف أين تقع.
استدار عمي حسن صوب ذكرين، وأخذ يمسح دموعه بأطراف حطّته التي يغطي بها رأسه ويثبتها بعقاله الأسود:
- مع السلامة يا ذكرين. اللقاء يوم اللقاء.
رأينا ناساً يمشون بمحاذاة الطريق وعلى ظهورهم بعض الفراش، ونساء يحملن أطفالاً أصغر منّا، وأبقاراً وحميراً على ظهورها بعض الفراش، وغيوماً تكاد تغلق الفضاء، وكنّا صامتين لأننا لا نعرف ماذا نقول، والكبار لا يقولون شيئاً. إنهم صامتون حزينون متوترون.
عند أشجار حقل زيتون في الخليل توقفت الشاحنة، وانشغل العم عبد الرحمن في مساعدة والدته ذوابة وخالته أم أبي فاطمة، ثم ساعدنا: محمد ابنه، وأنا، وأحمد نزل وحده لأنه أكبر منّا. أشار العم إلى زيتونة كبيرة وقال لنا:
- يلاّ أقعدوا فوق الفراش..حتى انشوف شو راح انساوي!
وقعدنا فوق الفراش، ونزل المطر غزيراً فوقنا فبللنا، وكدنا نغرق وصرنا نرتجف. ارتفع صوت محمد:
- أنا بردااان وميّت من الجوع.. وأنت يا رشاد؟
- أنا بردان وجعان أكثر منّك.
أخرجت العمة مليحة رغيفاً وقسّمته بيننا، فأنهمكنا في المضغ.
ارتفع صوت العم عبد الرحمن:
- اليهود احتلوا قريتنا والقرى المجاورة..وربنا يسلّم ناسنا.
فجأة برز أبي من بين أشجار الزيتون وبارودته في يده وحطته مرخية عن رأسه، وارتفع صوته:
- هوووو...
اقترب من جدتي - أمه وارتفع صوته:
- أنا بخير يمّا..اطمئني.
التفتت صوبه ثم انخفض رأسها وواصلت التمتمة بالأدعية.
سأله العم حسن:
- شو بدنا نعمل يا ابن العم؟ اليهود احتلّوا البلاد؟
رّد أبي:
- لازم ندبّر سقف نحتمي به، وبعدين بنفكّر بحّل.
- أين راح الناس؟ أهل القرى وأهل قريتنا؟
وهو يتأمل عند قدميه ويمسح نقاط المطر عن وجهه ورأسه بعد أن خف المطر، قال أبي:
- ما ظل معنا رصاص، والناس شردوا لما شافوا اليهود باقتحموا القرية والقرى المجاورة...لو معنا ذخيرة كنّا رجعنا وقاتلنا اليهود وطردناهم.
أخذ يتأمل بارودته ثم قال:
- يا حسن، يا ابن العم، هذي البارودة صارت مثل العصا..مثل العصا ما دامت بلا رصاص!
صمتا فظهر رجل ضخم بشارب كبير، وارتفع صوته.
- محموووود..أبو رشاد!
التفت أبي فرآه:
- عم أبو زياد ..راحت البلاد يا عم أبو زياد!
احتضنه الرجل:
- ما بتروح يا محمود. البلاد رايحة ترجع ونطرد اليهود. الجيوش هاملة. قالت بدنا ننقذ فلسطين، وبعدين شردوا وسلموها! يلاّ يلاّ..هاي معنا سيارة كبيرة جاهزة ننقلكم للكرومات حتى تقيموا في البيوت الصيفية مؤقتاً، وبعد ما نوصلكم بانجيب لكم أغطية وطعام وكل شئ.
حملونا في السيارة التي انطلقت بنا تحت المطر الغزير، ووصلنا إلى بيت محاط بأشجار التين وبدوالي العنب التي تبدو عارية من الأوراق إلاّ من أوراق صفراء. والعم عبد الرحمن والعم حسن ينزلون العجائز ويساعدون الأولاد على القفز بين أيديهم سمعت أبي:
- راحت البلاد يا عم أبو زياد.
- لا يا محمود، لا تقل راحت البلاد. البلاد ستعود وسنحررها، وإن عجزنا فالبركة بهؤلاء الأولاد، سيطردون اليهود ويستعيدونها إن شاء الله.
البيت واسع لا باب له وشبابيكه من دون ما يسدها، وهو بارد ولكنه أرحم من التكوّم تحت أشجار الزيتون. فالمطر لا يبللنا ولا ينزل على أبداننا.
استدار أبو زياد ثم وقف متريثاً وقال لأبي:
- لن أغيب عنكم وسنحضر لكم كل ما يلزم، وإن شاء الله لن تطول غيبتكم عن قريتكم ذكرين.
تنويهات:
* ولدت في قرية ذكرين يوم 15 حزيران/يونيو عام 1942. في هذا العام جاءت ذكرى ولادتي و"طوفان الأقصى" يكتسح جيش العدو الصهيوني ويذله، وأبرز ما حدث إحراق آلية "النمر" وفيها 8جنود قتلة من بينهم ضابط برتبة عالية. فكان احتفالي هذا العام من بشائر النصر القادم حتماً بفضل "طوفان الأقصى".
* احتُلت قريتنا وعدّة قرى يوم 20 تشرين أول/أكتوبر عام 1948، وجاء تشرين عام 2023 وفلسطين تملأ العالم، وحلمي بالعودة إلى ذكرين يملأ قلبي، وفي العالم يدوّي هتاف: فلسطين من النهر إلى البحر.
* في الحكايات، كما في هذه، مفردات عاميّة مفهومة بسهولة.
* بعد أن فرغت من إنجاز روايتي (وداعاً يا ذكرين) وجدت أن من الضروري أن أكتب حكايات عن بداية اللجوء القسري القهري. عن الجوع والبرد والتشرّد. وقد أنجزت الكثير، وهذه واحدة من الحكايات. ها أنا أنشرها ليتذكر القرّاء بعض آلام جيلنا وشعبنا الذي ينزف الدم هذه الأيّام ويحقق مزيداً من الانتصارات على جيش العدو ويُذلّه، وجيلي يتذكّر وهو جيل لم يفقد الثقة بأن فلسطين ستتحرر، وها هو فجرها يقترب ويقترب جدّاً بفضل المقاومة الإسلامية في لبنان، ومقاومة اليمن، والمقاومة الإسلامية العراقية.