بلاط الفقراء

لو أدرك الادباء والشعراء والمثقفون معانقة البلاط الرخامي لسالت أقلامهم مديحاً وتفخيماً لأمره وتعظيماً لشأنه، ولصيغت فيه السطور ولنُظمت في وصفه الأشعار.

  • الصيف الهندي، (جوزيف خيلموونسكي، 1875، المتحف الوطني، وارسو)
    الصيف الهندي، (جوزيف خيلموونسكي، 1875، المتحف الوطني، وارسو)

البلاط لغة هو ضرب من الحجارة تفرش به الأرض، ويطلق أيضاً على كل أرض مستوية ملساء. ويقال أيضاً بلاط الملك للدلالة على قصره وحاشيته ومجلسه ووزرائه. وشاع استخدام كلمة "بلاط" ومشتقاتها في الأدب الشعبي، فقيل "بلّط البحر"، أي صنع المستحيل وقد تستخدم للاستهزاء فيقال "خليه يبلّط البحر". 

وأجود أنواع البلاط ما كان مصنوعاً من الرخام بسبب ما يتمتع به من الخصائص الطبيعية المتعلقة بحرارته. فهو معتدل الحرارة في فصل الشتاء يحافظ على دفء المنزل وأنسه، وبارد في الصيف لا يمتص حرارة الشمس ولا لهيب النهار.

فإذا اشتد القيظ وخَفَت النسيم العليل وارتفعت نسبة الرطوبة في الجو، وجدتَ بلاط الرخام بارداً ناعم الملمس، صلب البنان، عذب الرائحة، لا يضاهيه أثير ولا يرقى لفائدته مفرش أو سرير. فهو المضطَجَع الأوفر والمكان الأكثر ملاءمةً للرقود والنوم والقعود والجلوس. فإذا حدث أن ارتفعت حرارة جسدك بعد نهار عمل شاق وتدفقت على جلدك قطرات الندى وتضخمت لشدة الحر شرايينك، فما عليك إلا أن تفترش الأرض وتلصق قدميك في البلاط لتشعر بالبرودة تسري فيهما والراحة تتسلل إليهما، فتنشط دورتك الدموية وتصير كالحصان الأصيل ذي القوة والهيبة والنشاط. 

أما إذا حلّ الليل واختنق الجو وسكنت الرياح وتوقفت الطبيعة عن التنفس ومعها شعابك الهوائية، فستجد البلاط حاضراً ناطراً ليحتضنك بين جنباته ويوفر لك الراحة والبرودة والنوم القرير الذي لا شك ولا لبس في لذته وحلاوته. 

ولعل آلام المفاصل والعظام الناتجة من الاستلقاء عليه، لا تعدو عن كونها آثاراً سليمة لتمدد الغضاريف وتمطيطها. 

وما أقرب المشهد إلى قول الشاعر إيليا أبو ماضي: 

ما أحيلى الصيف ما أكرمه          

ملأ الدنيا رخاء ورفاها 

عندما رد إلى الأرض الصبا          

رد أحلامي التي الدهر طواها 

كنت أشكو مثلما تشكو الضنى        

فشفى آلام نفسي وشفاها 

نعم! إنه البلاط! إذا اشتد الحر وانقطع التيار الكهربائي ونفد خزان المياه وطافت جحافل الحشرات في أرجاء المسكن والمعمورة، فلن تجد غيره منتظراً إياك ليهبك ما سلبتك إياه أيدي المسؤولين والناهبين والمتسلطين والمرائين والكاذبين والسارقين والخادعين المخادعين. 

أولئك لهم برودة الضمير وللبلاط برودة وعذوبة الماء، لهم تحجر القلوب ولهم صلابة الجبال التي اقتلع منها، لهم تراص في سبيل التسلط كسد متصدّع وله تراصّ كبنيان مرصوص لا يخدع ولا يخذل ولا يتفكك أو يتفرق، لهم قبح سريرة وله جمال مظهر وجوهر. رخامٌ نفيسٌ أنيق. فمن هو أفضل حالاً وجوهراً من الآخر؟ 

لَعَمري، لو أدرك الادباء والشعراء والمثقفين معانقته لسالت أقلامهم مديحاً وتفخيماً لأمره وتعظيماً لشأنه، ولصيغت فيه السطور ولنُظمت في وصفه الأشعار، ولقيل عن لسانه: 

وليس يعرف لي قدري ولا أدبي            

إلا امرؤ كان ذا قدرٍ وذا أدب 

ولأنني عانقته وعرفت قدره وأدبه ومقامه، فاضت في روحي أريحية الشعر ونظمت فيه: 

يا من إذا خاب الرجا

كنت الصديق المرتجى 

أرجوك لا تترك يدي 

فيك المودة والنجا 

دمث الخليقة واثق

تفديك عيني والحجا