بحثاً عن بصيص إنسان!
التاريخ يعلّمنا أن الوحوش لا تنتصر إلى الأبد. فكل حقبة بشعة وَلَّدت فلسفات جديدة تُحرِّر العقل والروح. اليوم، نحتاج إلى ثورة فكرية تعيد تعريف "الإنسان" بمعزل عن كل ما يجزئه: لا دين يختزله، ولا عرق يكبّله، ولا رأي يقصيه.
-
(كلاوديو مونوز)
ما أكثر الناس
وما أندر الإنسان
(ميخائيل نعيمة)
**
العالم اليوم يشبه غابة معلّقة في الفراغ، تحكمها قوانين الوحوش الخفية: أوليغارشيون يلعبون بمصائر الشعوب على شاشات البورصات، وتجار أسلحة يزرعون الحروب كي يحصدوا ذهباً من عظام الأبرياء، وصنّاع تكنولوجيا يبيعون الوهم في عبوات ملوّنة بينما يسرقون آخر ما تبقى من خصوصية الروح.
كل شيء هنا يقاس بالربح والخسارة، حتى الإنسان صار رقماً في معادلة لا تعرف الرحمة. لكن السؤال الذي يطاردنا بإلحاح: هل يمكن للبشرية أن تستمر في هذا السقوط المريع نحو الهاوية، أم آن الأوان لولادة فلسفات تعيد للوجود معناه الضائع؟
السلطة لم تعد في يد السياسيين، بل انتقلت إلى حفنة من الأثرياء الذين يمتلكون مفاتيح الاقتصاد العالمي، ويصنعون الحكومات من خلف الستائر. إنهم يتحكمون بالصحافة ليزيّفوا الوعي، وبالتعليم لينتجوا أجيالاً مستلبة لا تجرؤ على السؤال، وبالثقافة لتحويل الفن إلى سلعة فارغة.
هذه الأوليغارشية الجديدة لا تعترف بالحدود ولا بالأخلاق؛ فالشعوب بالنسبة لها "سوق استهلاكية"، والحروب "استثمار مربح"، والأزمات البيئية مجرد "تكلفة جانبية". لكن الأخطر أنهم نجحوا في تحويل الإنسان إلى كائن مُستهلِك، يلهث وراء الوهم ويخاف من التفكير كي لا يكتشف أنه مقيّد بسلاسل من ذهب!
الحروب لم تعد فقط صراعاً على الأرض أو الهوية، بل صارت أيضاً لعبة مالية تدار من مكاتب مكيّفة. كل طلقة تُطلَق، وكل طفل يُقتَل، وكل مدينة تُدمّر، هي حلقة في سلسلة إثراء أولئك الذين يبيعون السلاح. لقد حوّلوا الموت إلى "بورصة"، وصنعوا من الدم "علامة تجارية". لكن هذه الآلة الشيطانية لا تكتفي بتحقيق الأرباح، بل تعمل على تخدير الضمير العالمي عبر إعلام يبرر الوحشية باسم "الديمقراطية" أو "مكافحة الإرهاب". النتيجة؟ شعوب تعيش في قلق مستمر، وأجيال تفقد الإيمان بجدوى العدالة والسلام.
الوهم الكبير الذي يُروَّج له هو أن التكنولوجيا ستحلّ كل مشكلات البشرية، لكن الحقيقة المرة هي أن الشركات العملاقة تسرق بياناتنا لتبيعها، وتطوّر أسلحة ذاتية التحكم تبادر بالقتل من دون رحمة، وتصنع عالماً افتراضياً يهرب إليه الإنسان من فراغ واقعه. حتى المشاعر الإنسانية صارت تُختزَل إلى "إعجابات" و"مشاركات"، والعلاقات تحوّلت إلى رسائل نصية باردة. لقد بات الخطر ليس في أن التكنولوجيا ستحلّ محل الإنسان، بل في أن الإنسان سيفقد إنسانيته ويصير امتداداً للآلة.
عندما ينهار الضمير الجمعي، يصير الظلم عادياً، والكذب فنّاً، والقسوة تسلية. لقد حوّل النظام العالمي الجديد الأخلاق إلى "خيار شخصي"، والإنسانية إلى "مشروع خيري". نعيش في زمن يمجّد القوة على حساب الحكمة، والسرعة على حساب العمق، والكمّ على حساب الجودة. حتى الفنّ صار يُقاس بعدد المشاهدات، والحُبّ صار "سوايب" على الشاشات، والموت صار مادة للإثارة في نشرات الأخبار. هذا الانحدار ليس طبيعياً، بل هو نتيجة مخططٌ لها لصناعة مجتمعات لا تقاوم، ولا تحلم، ولا تثور.
لكن التاريخ يعلّمنا أن الوحوش لا تنتصر إلى الأبد. فكل حقبة بشعة وَلَّدت فلسفات جديدة تُحرِّر العقل والروح. اليوم، نحتاج إلى ثورة فكرية تعيد تعريف "الإنسان" بمعزل عن كل ما يجزئه: لا دين يختزله، ولا عرق يكبّله، ولا رأي يقصيه. فلسفات تعلن أن قيمة الإنسان تكمن في وجوده ذاته، في قدرته على الحب، والإبداع، والمقاومة. لا بد من إعادة بناء ثقافة تعلي من شأن الجمال والأسئلة الوجودية، وتكسر طغيان النموذج المادي. الفنّ والأدب يجب أن ينتزعا من أيدي القوى المهيمنة ويعودا إلى جذورهما كأدوات للتحرير لا للتخدير.
نحتاج ولادة فلسفات ترفض منطق الربح كمعيار وحيد، وتطرح مفاهيم مثل "الاقتصاد الأخلاقي" و"التكنولوجيا الإنسانية" و"السياسة كخدمة عامة". وبناء تحالفات عالمية بين المفكرين والفنانين والناشطين الذين يؤمنون أن المعركة الحقيقية هي معركة وعي. إحياء فكرة "المواطن العالمي" الذي يحمل هم الكوكب قبل هم القبيلة.
الشباب اليوم يعيش في مفارقة تاريخية: إنه أول جيل يمتلك مفتاح كل المعارف الإنسانية في جيبه، لكنه في الوقت نفسه أكثر الأجيال شعوراً بالعطش والفراغ. تحيط بهم المعلومات من كل جانب كبحر هائج، لكنها نادراً ما تتحوَّل إلى حكمة. هذه القوة الافتراضية تخفي وراءها استعماراً جديداً: خطوط حمر للفكر ترسمها خوارزميات التواصل الاجتماعي، وحروب محتوى تجرف الأحلام وتستبدلها بـ"تحديات" تافهة. ومع ذلك، يبقى هذا الجيل قادراً على قلب المعادلة: فمن يمتلك إرادة التنقيب في هذا الركام الرقمي، سيعثر حتماً على بذور الحقيقة التي تزهر مقاومة. وهذا ما شهدناه في تظاهرات شباب العالم تضامناً مع غزة في مواجهة حرب الإبادة الصهيونية.
الشباب ليسوا ضحايا عصر المعلومات، بل هم رُسل ثورة لم تندلع بعد. إنهم الجيل الذي رأى وهم "العولمة السعيدة" ينهار أمام عينيه، فتعلَّم أن الحرية ليست في "اللايكات"، بل في كسر القيود الوهمية التي تصنعها الشاشات. بقدرتهم على تعلّم اللغات، واختراق الحدود الرقمية، وتشكيل تحالفات عالمية خلال ساعات، يمكنهم تحويل سيل المعلومات إلى سلاح لإسقاط الأوليغارشيات. المفتاح هو أن يرفضوا أن يكونوا "مجرد مستخدَمين"، وأن يتحوّلوا إلى "صُنّاع سردية بديلة" تُعيد كتابة التاريخ خارج روايات السلطة.
لكن، لن يحدث هذا من دون ثورة داخلية: فالشاب الذي يقضي يومه بين مقاطع متقطعة لا ينتج إلا وعياً متقطعاً. عليه أن يصنع مساحات صمت في ضجيج العالم، أن يقرأ الكتب الطويلة كي يتذوق بطء الحكمة، أن يخترع فناً لا يشبه ما تفرضه عليه المنصات. المعلومات وحدها لا تصنع التغيير، بل الإرادة التي تصهرها في بوتقة الأسئلة الكبيرة: بماذا أضحي في سبيل الحقيقة؟ كيف أحمي إنساني في زمن الآلة؟ ما دوري في إنقاذ كوكب يختنق بجشع من سبقونا؟
الشباب الجريح هو الأمل الوحيد لعالم جريح. عسى ثورتهم المقبلة لا تكون بـ"منشورات" و"هاشتاغات"، بل بلقاءات إنسانية تعيد اكتشاف الجمال المدفون تحت أنقاض التكنولوجيا، وبمشاريع ثقافية تصنع من التناقض سيمفونية جديدة. هم الجيل الذي يستطيع – إذا أراد – أن يملأ الفراغ بمعنى، وأن يصنع من ضياعه رواية تلهم البشرية للعودة إلى نبض القلب قبل نبض الآلة.
نعم، لكن الأمل لا يكمن في انتظار المنقذ، بل في إدراك أن الوحوش التي تحكم العالم اليوم ليست أقوى منا، بل نحن من منحناها هذه القوة بصمتنا. كل تحفة فنية وُلِدت في زمن الحرب، وكل فكرة حرَّرت البشر من الظلام، تُثبت أن الجمال والحقيقة أقوى من كل آلات الدمار. قد نكون جيل الوحوش، لكننا أيضاً جيل القادرين على ترويضها. المهم أن نرفض أن نكون رقماً، أن نعشق الحياة رغم كل شيء، وأن نجدد الإيمان بأن الإنسان – بكل ضعفه – يستحق أن يكون أغلى ما في هذا الكون.