الطاهر وطار: الماركسي المشاكس الذي حمل لواء اللغة العربية
من الأدباء الجزائريين الأوائل الذين كتبوا باللغة العربية، مدافعاً عن أبناء شعبه ضد الاستعمار الفرنسي وضد الإقطاع والاستغلال. في ذكرى وفاته الـ12، ماذا تعرفون عن الطاهر وطّار؟
مثَّل الأدب واحداً من الحقول التي قاوم بها الجزائريون سياسة طمس شخصيتهم الوطنية طوال سني الاستعمار الفرنسي الطويلة، وبعد استئصال النظام الاستيطاني وميلاد الدولة الوطنية المستقلة عقب انتصار الثورة سنة 1962، أصبح التحرر من الهيمنة الثقافية الفرنسية هدفاً رئيساً يترافق ومشروع التنمية والتحرر الاقتصادي للدولة.
هكذا كانت الرواية من أهم صنوف الأدب التي جسَّدت هذا الطموح، وإن أبدع بعض الأدباء الجزائريين في التعبير عن واقعهم البائس وسُبُل مقاومته باللغة الفرنسية، بحكم طبيعة التعليم الكولونيالي، فقد ساعدت الظروف آخرين في التمكُّن من اللغة العربية والإبداع بها، وأبرزهم الطاهر وطَّار (15 آب/أغسطس 1936 - 12 آب/أغسطس 2010).
ابن الريف البربري الذي عشق العربية
أبصر الطاهر وطَّار النور في بلدةٍ كانت جزءاً من مجالات قبيلة الحراكتة البربرية الزناتية، إحدى أكبر قبائل جبال الأوراس في شرقي الجزائر، انتقل مع أبيه بين بلداتٍ مختلفة في شرقي البلاد. وكان على الطفل البربري الذكي أن يتأمَّل واقع بلاده السياسي والاقتصادي الصعب الذي فرضته السيطرة الاستعمارية على مُقدَّرات البلاد، ولكنَّه استزاد أيضاً من الثراء الثقافي واللغوي الذي لمسه وهو ينتقل مع أبيه إلى مناطق لم يألف عاداتها ولسانها.
نبغ الطاهر بين أقرانه عندما حالفه الحظ مستفيداً من المشروع التعليمي الذي أطلقته "جمعية العلماء المسلمين الجزائريين" كواحد من أساليب المقاومة الثقافية التي انتهجتها الجمعية، فالتحق بإحدى مدارسها، ثم بـ"معهد ابن باديس" في مدينة قسنطينة، وهي واحدة من الحواضر الجزائرية ذات الحضور الثقافي الأندلسي، والتقاليد المَدِينِية الرَّاسخة.
وكان للتكوين العلمي الذي تلقَّاه الطاهر وطّار، كما للبيئة القسنطينية، بالغ الأثر في مساره الأدبي، فهناك بدأ يلتهم كل ما يصل إليه من روائع الأدب العربي لــ طه حسين وزكي مبارك وجبران خليل جبران وميخائيل نعيمة وغيرهم، فبدأت تتشكَّل ملامح توجُّهه الأدبي، ووعيه السياسي أيضاً، مع انطلاق الثورة الجزائرية وبداية حرب التحرير الوطنية.
في شهر تشرين الثاني/نوفمبر من عام 1954 انتقل إلى تونس، وهناك عمل في الصحافة، وكان له مرور قصير بــ"جامع الزيتونة"، وفي السنة الثانية للثورة الجزائرية التحق بصفوفها، وكان هذا الالتحاق حدثاً مفصلياً في تاريخه مكَّنه بعد ذلك من الكتابة الأدبية عن الثورة والمقاومة من موقع الشاهد والمشارك، ليصبح بعد ميلاد الدولة الوطنية المستقلة رائداً من رواد الأدب المقاوم.
الماركسي المشاكس
لم يكن اعتناق الطاهر وطَّار الفكر الماركسي حتمياً، نظراً إلى تكوينه في الجزائر في مدارس ذات طابعٍ ديني أساساً، أو دراسته القصيرة في "جامع الزيتونة" في تونس، لكنَّه تأثَّر بالماركسية وتبنّاها، وأضحت جزءاً رئيساً من قراءته لواقع بلاده الاجتماعي والاقتصادي، وأحد أهم مرتكزات كتاباته الروائية، فأدخل "الواقعية الاشتراكية" في بنية الرواية الجزائرية المكتوبة باللغة العربية، التي تجسَّدت في غالب رواياته، كما في روايته "الزلزال"، التي عالجت قضية محاربة الإقطاع والتقسيم العادل للأراضي الزراعية، وما عُرف في التجربة التنموية الاشتراكية في الجزائر بـ"الثورة الزراعية"، ورواية "اللَّاز" التي نقلت بعض مظاهر الاختلافات الأيديولوجية داخل صفوف الثورة الجزائرية، التي اشترطت على كل التيارات السياسية، بما فيها الشيوعية، الالتحاق بها بصفةٍ فردية والرضوخ لقيادتها المُوحَّدة.
اعتبر وطار التحرر من سطوة اللغة الفرنسية في البلاد مرتكزاً ضرورياً للخروج من كل أشكال الهيمنة الأخرى، الاقتصادية والسياسية، كما رفض أن يجد مُبرِّراً لمن يكتب بالفرنسية ويتنصَّل من قيم مجتمعه وهويته أو لا يعرف الوجدان الجزائري.
جسَّد الطاهر وطَّار، من خلال تجربته الصحفية كما الأدبية، تلك العلاقة الجدلية والملتبسة بين اليسار الجزائري والثورة الجزائرية، ثم الدولة الوطنية التي تمخَّضت عنها. فالوطنية الجزائرية الحديثة وُلدت فعلياً من رحم الحركة النقابية التي تشكَّلت في أوساط العمال الجزائريين المهاجرين في فرنسا، ثم تحوَّلت إلى وعيٍ وطنيٍ ثوري جعل من الاستقلال التام عن فرنسا مطلباً أساسياً، من خلال مُنظَّمة "نجم شمال أفريقيا" بقيادة مصالي الحاج سنة 1926، الذي كان عضواً في الحزب الشيوعي، إلا أنه خرج تدريجاً من عباءة الحركة الاشتراكية العالمية بعد نقاشات حادة في الأولويات، وصولاً إلى لقائه في منتصف ثلاثينيات القرن الماضي الأمير شكيب أرسلان، الذي ساهم في إبراز الخلفية الإسلامية والعربية لــ مــصالي الحاج، الذي ترعرع في بيئةٍ صوفية وتلقَّى تعليمه الأولي في المدارس القرآنية للطريقة الصوفية الدرقاوية، فحدث تحوًّلٌ كبير في الخطاب الأيديولوجي للوطنية الجزائرية الثورية، بإضفاء البعد الإسلامي والعروبي على المرتكزات الاشتراكية، التي وُلدت من رحمها، بعد مسارٍ تراكمي طويل، مما أدّى إلى اندلاع الثورة سنة 1954.
جسَّد الطاهر وطَّار، من خلال تجربته الصحفية كما الأدبية، تلك العلاقة الجدلية والملتبسة بين اليسار الجزائري والثورة الجزائرية ثم الدولة الوطنية التي تمخَّضت عنها.
بغية توحيد الصفوف ومنع تعدد البندقيات المُقَاوِمة، فرضت قيادة الثورة على الشيوعيين الذين ظلّوا مُنْضَوين في "الحزب الشيوعي الجزائري"، وجناحهم المُسلَّح، الانضمام إلى صفوف "جيش التحرير الوطني".
ثم بعد الاستقلال أُعيد مجدّداً طرح الأسئلة عن العلاقة بالدولة الوطنية الوليدة ونظامها السياسي الذي تبنَّى بالإجماع الخيار الاشتراكي، فكان التيار الغالب في صفوف اليسار هو تبنَّي ما اصطُلح على تسميته "الدعم النقدي" للدولة وتجربتها التنموية الاشتراكية، وقد سار الطاهر وطَّار في هذا المسار، ومارس النقد كصحافي من خلال جريدة "الجماهير" الأسبوعية التي أسَّسها سنة 1963، وكذلك "الأسبوع الثقافي" سنة 1974، وكأديب من خلال جُلّ أعماله الروائية؛ "اللاَّز"، و"الزلزال"، و"الحوات والقصر"، و"عرس بغل"، وقصة "الشهداء يعودون هذا الأسبوع"، التي صوَّر فيها معاناة مجتمعه مع الاستعمار وتحوُّلاته الاجتماعية والثقافية والاقتصادية بعد الاستقلال، بأسلوبٍ نقدي أساسه قراءته الماركسية، ومن موقعه كعضو في الحزب الطليعي الحاكم آنذاك، "جبهة التحرير الوطني".
المثقف الجدلي حمل لواء اللغة العربية
شملت انتقادات الطاهر وطَّار الروائيين الجزائريين الذين كتبوا باللغة الفرنسية، وإن كان قد وجد أعذاراً لمن فعلوا ذلك في الفترة الاستعمارية، فإنه رفض أن يتقبَّله بعد الاستقلال.
رأى وطّار التحرر من سطوة اللغة الفرنسية في البلاد مرتكزاً ضرورياً للخروج من كل أشكال الهيمنة الأخرى، الاقتصادية والسياسية، كما رفض أن يجد مُبرِّراً لمن يكتب بالفرنسية ويتنصَّل من قيم مجتمعه وهويته، أو لا يعرف الوجدان الجزائري كما يصفه.
كان للتكوين العلمي الذي تلقَّاه الطاهر وطار، كما للبيئة القسنطينية، بالغ الأثر في مساره الأدبي، فهناك بدأ يلتهم كل ما يصل إليه من روائع الأدب العربي.
ومن موقعه كأديب ذي خلفية ماركسية، رسّخ يساريةً متصالحة مع هويتها الحضارية العربية/الإسلامية، كانت على طرفي نقيض مع ماركسية كثير من زملائه الكتاب والمثقفين باللغة الفرنسية، انعكست على مقاربتهم لمسائل مهمة في البلاد، منها: الموقف من الإصلاحات الاقتصادية النيوليبرالية، ومن التيارات ذات النزعة البربرية، والفرنكوفونية، وحركات الإسلام السياسي... واستمرَّت تلك المسائل، ولاتزال، في إثارة الجدل، ومع ذلك لم يُجامل الطاهر وطَّار أحداً، وظل يُعبِّر عمّا يعتقده بصراحة، ويثير مزيداً من الجدل في كل مرةٍ يرد فيها على منتقديه.
بقي الطاهر وطَّار وفياً للغة العربية وللاشتراكية التي آمن بها وناضل من أجلها، حتى رحل عن عالمنا في 12 آب/أغسطس من العام 2010، وسؤاله لا يزال يتردد على مسامعنا: ماذا لو عاد الشهداء هذا الأسبوع؟