الصدمة الثورية في رواية "ساعة نوح"

يصطدم بطل الرواية دائماً بما يعاكس ما يحب أن يعرفه عن جده بلقاسم الأول. فأهل القرية جميعاً يعرفون هذا الأمر، ولكنهم يسايرونه، حتى جاءت الطامة الكبرى عندما قام صديقه الكاتب "أمجد الأناركي" بتأليف رواية"عيواظ الأحمر" ضمّنها تاريخ القرية وتاريخ جده.

  • الحكاية بين الرمل والماء في رواية
    الحكاية بين الرمل والماء في رواية "ساعة نوح" لسفيان رجب

يشيّد التونسي سفيان رجب عمارته الروائية " ساعة نوح" وهي الرواية التي دخلت بالقائمة القصيرة لجائزة كتارا لعام 2024 عبر صوتين سرديين لشخصيتين محوريتين في النص، تتوزعان بين التونسي "بلقاسم غيفارا" الذي يعتنق الأفكار الثورية والأوكرانية "أولغا" التي هربت من جحيم الحرب في بلادها إلى تونس _ بنزرت _ عبر استرجاع كل منهما لتاريخه الشخصي، الذي يتوارى خلفه تاريخ منطقة كل منهما، والذي يحكيه أمام مجنون القرية "نوح" الذي يحمل بيد حفنة رمل وباليد الأخرى حفنة ثلج حيث يختلط الماء بالرمل وتضيع التخوم بينهما.

  يحكي بلقاسم حكايته للرمل عبر ما اعتبره ساعة رملية بيد "نوح"، التي نوه إليها بالعنوان، حيث يستلهم علاقة الإنسان بالزمن، مفصّلاً بين زمن السرد الحالي وزمن الذاكرة التي تكشف عن تاريخ الأفراد، والمؤثرات التي جبلت شخصياتهم وكوّنتها، أما "أولغا" فتحكي حكايتها بحضور الثلج، وكأني بكل منهما يستلهم مناخ وخصوصية موطنه، وكل قصة وكل حكاية ترجع لصاحبها بما يريد قوله، فقصة الحريق بلسان النار غير تلك التي يحكيها الرماد، وهي التي تحمل الخلاصة كونه الشاهد على كل شيء.

 يبدو نوح وكأنه مؤرخ وشاهد على تاريخ وذاكرة كل من "بلقاسم" و"أولغا" اللذين يتقاسمان السرد كل من منظوره أمام الحكيم المجنون، ولطالما كان الجنون صوت الحكمة والعقل المتواري يقول ما لا تستطيع العامة قوله، وبين الرمل والماء وعبر محورين وشخصيتين تتبادلان دفة السرد، نتعرف إلى بلقاسم الذي يعمل في صيد السمك، ذي الخلفية الشيوعية والأفكار الثورية، والذي يهجس بذكرى جده الشيوعي الأول في القرية، ويرسم له في خياله أبعاداً أسطورية لكاريزما البطل القدوة، من طول القامة وجاذبية الحضور، إلى قصة عشقه، محاولاً ترسيخ هذه الصورة  في ذاته ولدى المحيط الذي يعيش فيه، رغم أنه لم يره أبداً، وإنما رسم له تلك الصورة العملاقة كرمز نضالي عالي القيمة، ونتعرف كذلك إلى شخصية أولغا التي أتت من أوكرانيا إلى تونس عندما كانت في العشرين من عمرها في عام 2009، شقراء فاتنة، لترجع إليها بعد اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية هاربة من جحيمها، وعلى الرغم من أنها تحمل أفكاراً معاكسة لبلقاسم ولا تقيم أهمية لمنطلقاته النظرية وأفكاره الثورية عن البروليتاريا والكادحين، ولكنها تحمل له مودة أصدقاء تشوبها أحاسيس مراوغة تنوس بين الحب والامتنان، وترجع معرفتها به إلى مرحلة بعيدة نسبياً عندما عملت كمرافقة لسيدة عجوز " أنستازيا" كان جد "بلقاسم" قد هام عشقًا بها في ذلك الزمن، كما نمي إليهما، وذهبت "أولغا" بعدها إلى بلادها لترجع ثانية إلى تونس بعد ارتفاع وتيرة الحرب مع طفلة مقعدة، وتقيم مع صديقها القديم بلقاسم ووالده وتنشأ بينهما حوارات متعددة حول أفكار متباينة اختلفا في بعضها واتفقا في بعضها الأخر، إذ يحاول فيها هذا المتحمس للقضايا الثورية أن يتنسم منها خبراً يدل على مشاعر متولدة ومتبادلة بين جده والسيدة العجوز، لأن المناضل الكبير يجب أن ترافقه قصة حب عظيمة، ولكنه يصطدم دائماً بما يعاكس ما يحب أن يعرفه ويرسخه في أعماقه،  فالأب "هادي" يخبر "أولغا" بأن أباه، أي الجد، لا يشابه أي وصف أو صورة  لما يحاول الحفيد إثباته، وأهل القرية جميعاً يعرفون هذا الأمر عبر تقصي من عرفه منهم أو التقاه في يوم ما،  وخاصة حميد الذي التقاه على الجزيرة التي فرّ إليها، ولكنهم يسايرون "بلقاسم" ولا يفصحون أمامه بما يعرفون، ولكن الطامة الكبرى عندما قام صديقه الكاتب "أمجد الأناركي" بتأليف رواية" عيواظ الأحمر" ضمّنها تاريخ القرية وتاريخ جده بلقاسم الأول، حيث الكل يعرفه بأنه قزم أسود اللون، ولكنه حكاء ممتاز له تاريخ بسرد النوادر، ولكنه مهرج بالنسبة إلى باقي الناس، ما يسيء لصورته المحفوظة في ذاكرة الحفيد بلقاسم، وقد اشتهر بإلقاء النكات أمام أحمد باي الثاني وحاشيته، وتزوج أخته وكان حاميه، ولكنه بعد وفاته هرب إلى جزيرة بعيدة خوفاً من أقرباء زوجته الغاضبين عليه. 

هذه الحقيقة التي عرفها من خلال مخطوط الأناركي أحدثت خللاً في منظومته الاعتقادية بثبات الرموز لديه، مثل الأيدلوجيا الماركسية، ولم يستطع تقبل خلاف لما يعتنقه، ولكنه خشي انتشار هذا الكتاب، وأن يعرف بقية الناس حقيقة جده، فأعد خطة لإعدام الكتاب عبر إتلاف حاسوب الصديق، ما بدا ما يشي ببنية عصبية ونفسية غير متزنة، انتهت به إلى مشفى الأمراض العقلية، وقيامه بإغراق الكاتب نفسه في مياه البحر.

ما نعرفه بعدها عبر "أولغا" التي بدت أكثر انسجامًا ببنيتها العقلية وقدرتها على ربط الأمور بعضها ببعض، وكأني بالكاتب يريد الانتصار للأنثى في الحفاظ على الخصب والتوازن في الكون، من خلال انحيازه لعقلانيتها وأسلوب تفكيرها. 

تظهر الأحداث السياسية كخلفية للنص تترك ظلالها ونتائجها على شخوص الرواية، فالحرب الروسية الأوكرانية لم تضع أوزارها بعد، وخلاف التوجهات الفكرية بينه وبين أولغا، حرّك لديه بذور الشك في شخصيتها، إلى درجة اتهامها بالجاسوسية والإساءة لتاريخ جده الذي سماه "لينين الأسود"، هي التي حملت فهمًا مختلفًا ورافضًا لقناعاته، كونها رصدت عن قرب الجوانب السلبية للتجربة الاشتراكية، ولكن من كان بعيدًا عن التجربة بقي ينظر إليها بمنظار الحلم الذي يتشوق للوصول إليه باعتباره الجنة الخضراء التي ستنقذ البلاد. 

نوح، مجنون القرية، الذي ينطق بالحقيقة أحياناً ويصمت أحياناً كثيرة عندما يريد، ويعتزل البشر في خيمته المهلهلة، والذي قام كل من "بلقاسم" و"أولغا" بسرد حكاياتهما أمامه في طقوس الساعة، حيث يتبادل فيها الثلج والرمل دورهما في مرور الوقت وكأنهما شاهدا الحقيقة المقدسة. 

يقوم سفيان رجب باتباع تقنية الحكاية ضمن حكاية، حيث يقوم بإكمال سيرة الجد" لينين الأسود" عبر رواية الصديق الكاتب، ويكشف عن التفاصيل الحقيقية لتاريخه وعذاباته، بشكل مخالف تمامًا لما هو مترسخ في عقل وذاكرة الحفيد،  ولذلك لم يستوعب أن يقوم أحد بتشويه تلك الصورة، لذا عمل على إعدام الكتاب والكاتب لكتم صوت الحقيقة المخالفة، كصورة لم يستطع تقبلها لأنها تخالف الأسطورة الرمز التي عاش على أصدائها في نفسه وروحه،  ما نستطيع أن نقوله هو أن الحقائق نسبية، والنقص في كينونة ووجود الفرد محرك أساسي لمراجعة تاريخه وتفكيك السرديات السائدة، وامتلاك الجرأة للاعتراف بالفشل للنهوض من جديد. 

اخترنا لك