الشهادة العلمية وتاريخ صلاحيتها

تشكّل التحوّلات الجذرية التي يشهدها العالم دعوة لنعيد التفكير في مفهوم الشهادة العلمية ونتبنّى التعلّم المستمر كنهج أساسي.

  • الفجوة الرقمية تجعل من تحديث المعارف تحدياً إضافياً
    الفجوة الرقمية تجعل من تحديث المعارف تحدّياً إضافياً

في زمن تتسارع فيه عجلة التطوّر بشكل غير مسبوق، تتغيّر قواعد اللعبة في جميع المجالات، ولا سيما في التعليم وسوق العمل. أصبح واضحاً أنّ الشهادة العلمية لم تعد كما كانت سابقاً "وثيقة دائمة الصلاحية" تفتح أبواب المستقبل بلا منازع، بل تحوّلت إلى نقطة انطلاق يجب أن تتلوها مسيرة مستمرة من التعلّم والتطوير.

في الماضي، كانت المعلومات والمناهج العلمية تتطوّر بوتيرة أبطأ، وكان التخصص الجامعي كافياً لبناء مسيرة مهنية مستقرة. أما اليوم، فنحن نشهد تسارعاً مذهلاً في تطوّر التكنولوجيا، وخصوصاً في مجالات الذكاء الاصطناعي، البيانات الضخمة، والاتصالات، مما يجعل بعض المعارف والمهارات القديمة غير ملائمة لسوق العمل الحالي. 

في لبنان، الذي يعاني من أزمات متعدّدة على المستويات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، تؤدّي هذه التغيّرات دوراً مركزياً في تشكيل واقع التعليم وفرص التوظيف. فالجامعات اللبنانية، رغم تاريخها العريق، تواجه تحدّيات كبيرة في مواكبة التطورات العالمية، ويزداد الأمر تعقيداً بسبب الأزمة الاقتصادية التي أثّرت على قدرة الطلاب على الوصول إلى التعليم المستمر والفرص التدريبية الحديثة.

ترتبط هذه التحدّيات في لبنان بشكل وثيق بالأزمة الاقتصادية التي أدت إلى ارتفاع تكاليف التعليم وتراجع الدعم الحكومي وضعف البنية التحتية الرقمية، ما جعل من الصعب على كثير من الطلاب والمهنيين الاستفادة من فرص التعلّم المستمر. 

بالإضافة إلى ذلك، تساهم هجرة العقول في تفاقم المشكلة، إذ يبحث الكثير من الكفاءات اللبنانية عن فرص في الخارج، ما يؤدي إلى فقدان موارد بشرية مؤهّلة كانت يمكنها أن تسهم في تطوير الاقتصاد الوطني. 

كما أنّ الفجوة الرقمية، الناتجة عن عدم توفّر التكنولوجيا الحديثة والبنية التحتية الكافية، تجعل من تحديث المعارف تحدياً إضافياً، خاصة في المناطق الريفية والأقل حظاً. وعلى المستوى العالمي، رغم مواجهة التعليم تحدّيات مشابهة، إلا أنه يقابلها بفرص غير مسبوقة، إذ تحوّلت منصات التعليم الإلكتروني والتعليم المفتوح إلى أدوات قوية لتجاوز الحواجز الجغرافية والاقتصادية، ما سمح لعدد أكبر من الناس بالحصول على المعرفة والمهارات المطلوبة.

في ظلّ هذه التحوّلات المتسارعة، يتبلور مفهوم التعلّم مدى الحياة ليس كخيار بل كضرورة استراتيجية لمواكبة التغيّرات المستمرة في سوق العمل والمعرفة. هذا المفهوم لا يقتصر على التعليم الرسمي أو الشهادات الجامعية، بل يشمل تطوير المهارات والمعارف عبر مسارات متعدّدة ومستدامة طوال حياة الفرد. 

من هنا، يتوجب على الجامعات أن تعيد صياغة أدوارها التقليدية لتتحوّل من مؤسسات تمنح شهادات إلى مراكز تعليمية شاملة تدعم التعلّم الذاتي والتعلّم المستمر. 

ويتطلّب ذلك تطوير مناهج دراسية مرنة وقابلة للتحديث السريع، تسمح بتكييف المحتوى الأكاديمي مع المستجدّات العلمية والتكنولوجية، وتوفير مساقات قصيرة وبرامج تدريبية متخصصة في مهارات المستقبل. 

إلى جانب ذلك، يجب على الجامعات استثمار التكنولوجيا الحديثة من خلال بناء منصات تعليمية رقمية متكاملة تتيح للطلاب والخريجين وأفراد المجتمع الوصول المستمر إلى الموارد التعليمية، وتسهيل التعلّم التفاعلي والشخصي الذي يراعي احتياجات كلّ متعلّم. 

كما ينبغي تعزيز التعاون مع القطاعات الصناعية والاقتصادية لتصميم برامج تعليمية تعكس متطلّبات سوق العمل الوطني والدولي، ما يسهم في تخريج كفاءات قادرة على الإسهام الفعّال في التنمية الاقتصادية والاجتماعية.

أما على مستوى السياسات التربوية، فتقع على عاتق صنّاع القرار مسؤولية صياغة أطر قانونية وتنظيمية واضحة تعزّز من ثقافة التعلّم المستمر وتحفّز المؤسسات التعليمية والقطاع الخاص على التعاون في توفير فرص التدريب والتطوير المهني مدى الحياة. 

ويمكن أن تشمل هذه السياسات نظاماً متكاملاً للاعتماد الأكاديمي والتحديث الدوري للشهادات، يضمن تقييم المهارات والمعارف الجديدة والتأكّد من مواكبتها لمتطلّبات العصر. 

كما يمكن تبنّي حوافز مالية وتشريعية تشجّع المؤسسات والشركات على الاستثمار في برامج تطوير موظفيها، وربط هذه البرامج بمتطلّبات سوق العمل المحلية والعالمية. 

لا يغفل كذلك دور الإعلام والحملات التوعوية في بناء وعي عامّ بأهمية التعلّم المستمر، وتحفيز الطلبة والمواطنين على تبنّي عقلية التعلّم الذاتي وتنمية الفضول العلمي، الذي يشكّل ركيزة أساسية للابتكار والمرونة في مواجهة تحدّيات المستقبل.

إن بناء مجتمع تعليمي متكامل يقوم على التعلّم مدى الحياة يتطلّب جهوداً متضافرة من الجامعات وصنّاع السياسات والأفراد على حد سواء، حيث تتكامل الاستراتيجيات التربوية مع متطلّبات التنمية الاقتصادية والاجتماعية، ويصبح التعلّم جزءاً لا يتجزأ من حياة الفرد والمجتمع. ومن خلال هذه الرؤية، يمكننا ضمان أن تبقى الشهادة العلمية أكثر من مجرّد وثيقة، بل وسيلة لتمكين الأفراد والمجتمعات من مواكبة عالم متغيّر ومتطلّب.

في الختام، تشكّل التحوّلات الجذرية التي يشهدها العالم، من لبنان إلى أوسع القارات، دعوة صريحة لنا جميعاً - جامعات، أكاديميين، طلبة، وصنّاع قرار- لنعيد التفكير في مفهوم الشهادة العلمية ونتبنّى التعلّم المستمر كنهج أساسي. بذلك، نضمن أن تبقى الشهادة ليست مجرد ورقة تثبت معرفة الماضي، بل شهادة حيّة على الاستعداد للتعلّم والتطوّر في عالم لا يتوقّف عن التغيير.

اخترنا لك