الحِبرُ والحُبُّ والحرب

نقرأ شعراء غزة وكتّابها فنشعر بالخجل والحرج. يكتبون وسط جحيم النار والبارود كي تظل كلمتهم هي العليا.

يعاندنا القلم أحياناً؛ يأبى الكتابة والتنقل بخفَّة بين الأسطر. تبدو الكلمات عصيةً على الولادة، والحبر راغباً في الصمت والانزواء بعيداً من قرقعة الحروب وهدير الطائرات. كأن القلم الممتنع عن الاستجابة يخجل من عيون الأطفال الجاحظة، ومن دموع الأمهات الثكالى، ومن نُبل الشهداء وهم يبذلون أرواحهم قرابين حرية آتية لا محال، ومن نهر الدماء الجاري، ومن خذلان العالم لشعب يستحق الحب والحرية والحياة، بل كأنّ القلم يقول لنا: عبثاً تكتبون! هل من جدوى للكتابة عن الحُبّ والجمال والشعر  والموسيقى في زمن المقتلة الدامية التي يرتكبها الاحتلال في فلسطين وسط تصفيق "العالم الحر" الذي كشف عن قبحه وبشاعته وزيف مبادئه وشعاراته، ومدى عبوديته لمصالح نخبه الحاكمة والمهيمنة التي لم تشبع من مصّ دماء الشعوب وخيراتها وثرواتها.

عشرات آلاف الشهداء الأبرياء في غزة، ومئات آلاف العائلات خارج بيوتها. أسرٌ مشردة أو نازحة، أفرادها يحصون أنفسهم كل يوم ليعرفوا مَن قضى منهم وَمَن ينتظر، ينامون كل ليلة في انتظار صباح قد يَدفِنون فيه أحبتهم أو يَدفنهم أحبتهم.

ماذا في وسع القلم (أو ما يعادله من أدوات الكتابة الحديثة) أمام هذه الحقيقة المفجعة وأمام مشاهد المجزرة المتمادية! يقول أحد أبناء غزة: كنا نحصي أعداد الشهداء كل يوم، صرنا نحصي أعداد المجازر اليومية(!). تولد الكلمات تائهة حائرة خجولة مرتبكة في حضرة الدم الذي يكتبُ به الغزيّون ملحمة عذاباتهم في جلجلة عمرها من عمر الاحتلال البغيض.

من يراجع التاريخ يكتشف أنهاراً من الدم لم تجفّ يوماً في تربة هذه الجغرافيا المنذورة للصراعات ولمطامع "القوى العظمى" التي لا تقيم وزناً للكائن البشري ولا للمبادئ والأخلاق، ففي قاموس المصالح والمطامع لا وجود لمفردات تُعلي قيمة الفرد أو تحترم حقّ الشعوب في الحياة الحرّة الكريمة.

ما نشهده في غزة ليس جديداً على "سيرة" الاحتلال الإسرائيلي، ولا على داعميه؛ تاريخهم كله قائم على المجازر والمذابح. الفارق الوحيد اليوم هو أننا نشاهد المذبحة مباشرةً على الهواء، ومع ذلك نرى كيف يتم تزوير الحقائق أمام أعيننا.

أمام هذا الواقع، ورغم عجز اللغة أحياناً أو قصورها، لا يملك القلم غير الاستجابة لنداء الحق والحقيقة. ولئن كانت الكلمة والرصاصة تؤاخي الرصاصة في حروب التحرر والاستقلال، فإنّها تبدو الآن أكثر من ضرورية، ليس فقط من أجل الحاضر، بل أيضاً من أجل المستقبل، كي لا يُزوَّر التاريخ مرة أخرى، وكي تعرف الأجيال المقبلة حقيقة ما جرى ويجري.

سبق لي أن استعدت هنا بعضاً من ذاكرة الحرب اللبنانية التي قصفت ردحاً من أعمارنا وأحلامنا، وكيف كنّا نكتب قصائدنا ونحملها إلى الصحيفة تحت القصف والرصاص (لم يكن بعدُ ثمة إنترنت ووسائل تواصل حديثة)، ثم ننهض في صبيحة اليوم التالي لنتأكد أن أسماءنا منشورة في صفحة الشعر والأدب لا في صفحة الوفيات.

كان الحبر في بيروت زمن الحرب برهان بقائنا على قيد الحياة، وهذا ما يفعله اليوم شعراء وأدباء غزة الذين يكتبون تحت هدير الطائرات ودوي المدافع انتصاراً لحقهم وحق شعبهم في الحرية والحياة (راجع مقالة الكاتب "كتاب الوصايا).

نقرأ شعراء غزة وكتّابها، فنشعر بالخجل والحرج. يكتبون وسط جحيم النار والبارود كي تظل كلمتهم هي الأعلى، فكيف لنا ألا نلاقي كلماتهم بما تستحق من حب وترحاب، وألا نؤازرهم بكلمة تؤكد حقهم في الحياة الحرّة الكريمة! لذا، لا يستخفَّن أحد بكلمته وبقدرتها على التأثير، مهما كانت بسيطة ومتواضعة، فكيف إذا كانت كلمة مبدعة شعراً ونثراً!

يبذل الناس دماءهم ودموعهم وعرق جباههم لأجل حياة عزيزة، ويبذل المبدعون حبرهم كي لا تذهب الدماء والدموع سدى. ولئن كان المنتصر في الحرب هو مَن يكتب التاريخ (من وجهة نظره)، فإن الأدب هو التاريخ الحقيقي للشعوب. إذا أردنا أن نفهم فلسطين جيداً، فعلينا بقصائد شعرائها وحبر أدبائها لا بكتب التاريخ المزيفة.

لن يكتب التاريخ على حقيقته سوى الأدباء والشعراء الصادقين الملتزمين قضايا شعوبهم وأوطانهم، فالحقيقة نجدها في الأدب والفن، لا في سواهما، وهل (على سبيل المثال) أكثر من "غرينيكا" بيكاسو تعبيراً عن الحرب  في إسبانيا أو من "أجراس" همنغواي؟

ولا بأس في خضم هذه المذبحة المهولة أن نكتب الحُبّ والخير والجمال كي لا تسود لغة الشرّ وينتصر الشرير المتمثل اليوم بكيان الاحتلال الذي بات عنواناً لكل معاني الشرّ والإجرام.

ولئن كان كيان الاحتلال يمثل أبشع معاني الشرّ والحقد والقبح، فإن الكتابة عن الخير والحب والجمال تغدو نوعاً من المقاومة المضادة لكل تلك المعاني القميئة التي يمثلها المحتل أولاً من خلال وجوده نفسه، ومن ثم من خلال مجازره وجرائمه المتمادية.
***
…والسحابة التي مرّت فوق رأسي منذ قليل

هل وصلتكِ عند المساء

وأمطرت على عشبِ انتظاركِ

هل بلّل المطرُ ابتسامتكِ؟

كيف لابتسامةٍ بلّلها المطر أن تعيد صياغة المعنى؟!

كيف لشاعرٍ مُبهَمٍ أن يبتكر صيغةً واضحةً للسؤال؟

وكيف تمسي القصيدةُ وطناً أوسعَ من الخيال؟

هنا،

أُعمِّرُ لكِ بيتاً

لا تقوى الدبابةُ على هدمه

ولا يدخله الغزاة

هنا،

أكتبُ لكِ بيتاً

لا تقوى الدبابةُ على محوِه

ولا يفهمه الغزاة

هنا قلبي

يحتويكِ مثل رحمٍ مظلمة لكنها آمنة.

**

(*) من قصيدة الشاعر "أغنية لِرَنا"

في السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023 أعلنت كتائب القسام معركة "طوفان الأقصى"، فاقتحمت المستوطنات الإسرائيلية في غلاف غزة، وأسرت جنوداً ومستوطنين إسرائيليين. قامت "إسرائيل" بعدها بحملة انتقام وحشية ضد القطاع، في عدوانٍ قتل وأصاب عشرات الآلاف من الفلسطينيين.