التطهير العرقي في فلسطين وتهويد القدس (1-2)

النكبة، هي الاحتلال والتطهير العرقي وارتكاب المجازر بحق الفلسطينيين واغتصاب نسائهم، وتشريدهم وسرقة الأرض والأملاك العامة والخاصة، وسرقة الأموال المودعة في البنوك أو البيوت، ومنع الفلسطينيين من العودة الى ديارهم وإنكار كل ذلك.

  • لا تزال سياسة الاحتلال الإسرائيلي في التطهير العرقي مستمرة.
    لا تزال سياسة الاحتلال الإسرائيلي في التطهير العرقي مستمرة.

تعريف

يُعرّف التطهير العرقي في أدبيات الأمم المتحدة على أنه "تهجير مجموعة سكانية من منطقة جغرافية ما، وتحويلها الى منطقة متجانسة عرقياً أو دينياً. يحصل ذلك باستخدام القوة أو الترويع وقد تستهدف بذلك مجموعة عرقية أو دينية"([1]).

لكن مراجعة ما يكتبه فلاسفة القانون يشير الى أن مفهوم "العنف" أو "القوة" لا يقتصر على العنف الجسدي أو الترويج له، وأن "القوة" لا تقتصر على القوة المسلحة. ومن هنا لا بد من فهم التطهير العرقي بشكل أوسع مما ذكر في التعريف، لأن هناك أساليب وأدوات مختلفة، منها أساليب ناعمة، تختلف باختلاف الزمان والمكان، يمكن أن تمارس للوصول الى الهدف نفسه. وهذا ما يتوجب علينا أخذه بالاعتبار حين نتحدث عن التطهير العرقي في فلسطين أو خارج فلسطين.

الجزء الأول: التطهير العرقي في فلسطين عامة قبل احتلالها وبعده 

مع صدور توصيات لجنة بيل لتقسيم فلسطين بين العرب الفلسطينيين واليهود، وقبل أن يشرع هتلر في خططه للتخلص من اليهود، كانت الحركة الصهيونية تخطط للتخلص من الفلسطينيين وترحليهم من وطنهم فلسطين. 

في منتصف عام 1937، وبالرغم من المعارضة اليهودية الشكلية لتوصيات اللجنة، شرع زعماء الحركة الصهيونية، سراًّ، وبالتعاون مع حكومة الانتداب البريطاني، بوضع الخطط للتعامل مع الفلسطينيين الذين سيبقون وفق توصيات لجنة بيل في الدولة اليهودية. وشكّلت الحركة الصهيونية لجاناً مختلفة لهذا الهدف منها "لجنة الحدود" وأخرى، وهي الأهم، "لجنة ترحيل السكان"، وفيها كل من د. طهون (رئيسا)، د. ب. يوسف، د. مندلسون، د. بونيه، يوسف فايس، اشبل، ف. سايمون، أ. افشطاين (سكرتيراً). وكان القصد من ذلك وضع الخطط لترحيل الفلسطينيين من الدولة اليهودية. ووقعت اللجنة في نقاشات تناولت فيها أمرين أساسيين، الأول هو الى أين؟ هل يتم ترحيلهم الى المناطق المعدة للدولة الفلسطينية، أم الى دول الجوار؟ وفي المناقشات مع الزعماء البريطانيين، وعد البريطانيون بالمساعدة في إقناع الزعماء العرب باستقبال الفلسطينيين في بلادهم. أما المسألة الثانية فهي، هل يجري الترحيل بالقوة أم بالإقناع والإغراء، وفيما كان البريطانيون وبعض الزعماء الصهاينة، يرون أن الترحيل بالقوة غير ممكن "لأن القوة المطلوبة غير متوافرة"، رأى بعض الزعماء الصهاينة أن يبحثوا عن بلاد بعيدة يتم ترحيل الفلسطينيين إليها ومنها الجزيرة الفراتية أو شرقي الأردن أو غيرهما من الأماكن. هذه الاجتماعات استمرت من بداية نوفمبر 1937 وحتى نهاية العام 1938، خلالها زار مندوبو الوكالة اليهودية مناطق الأكراد في شرقي سوريا كما زاروا العراق وكتبوا تقارير مفصلة عن الأرض التي يمكن ترحيل الفلسطينيين إليها في الجزيرة الفراتية. ومن الخطط التي وضعتها اللجنة ترحيل الدروز الى جبل العرب والمسلمين الى العراق وشرق سوريا والمسيحيين الى لبنان. كل ذلك يمكن أن يحدث وفق خططهم، بالتعاون مع الزعماء المحليين في كل بلد وآخر.[2] 

كما درست اللجنة حالة الفلسطينيين في كل فلسطين، وبالذات في المناطق التي خصصت للدولة اليهودية والتي تطمح لضمها أيضاً، وكتبت التقارير المفصلة، عن كل قرية ومدينة، عن عدد سكانها ومساحة أراضيها وخصوبتها وتركيبتها السكانية الدينية، وقيمة الأراضي بالليرة الفلسطينية في حال شرائها. كم عدد الدونمات المزروعة وعدد الدونمات القابلة للزراعة أو الاستصلاح.... الخ من التفاصيل الدقيقة.[3]

بالرغم مما حلّ باليهود من عذاب على يد النازية، لم تتوقف جهودهم في تلك الفترة نفسها لترحيل الفلسطينيين من وطنهم، ففي شباط / فبراير من العام 1941 طلب حاييم وايزمان من سفير الاتحاد السوفييتي في بريطانيا، مساعدة من السوفييت في تهجير مليون فلسطيني الى العراق في مقابل جلب 5-4 مليون يهودي الى فلسطين من أوروبا[4]، كما  استمر العمل مع النازيين وفق "اتفاقية الترحيل"، لعام 1933، بين الوكالة اليهودية والحزب النازي، لنقل اليهود من ألمانيا الى فلسطين مع أموالهم في مقابل تسويق اليهود للبضاعة الألمانية في المنطقة خارقة بذلك العقوبات الغربية التي فرضت على ألمانيا النازية. وتجددت الاتفاقية عام 1937 بتوقيع زيكس مساعد القائد أدولف ايخمان، وقد وقع هذا الاتفاق قيادة "الهاغاناه" والغستابو سراًّ.[5]

  • فارون فلسطينيون من قراهم في شمال فلسطين في طريقهم إلى لبنان عام 1948.
    فارون فلسطينيون من قراهم في شمال فلسطين في طريقهم إلى لبنان عام 1948.

التطهير خلال حرب فلسطين 1947-1948

النكبة، هي الاحتلال والتطهير العرقي وارتكاب المجازر بحق المدنيين الفلسطينيين واغتصاب الفتيات الفلسطينيات، والتشريد في كل الاتجاهات، وسرقة الأرض والأملاك العامة والخاصة، وسرقة الأموال المودعة في البنوك أو مخبأة في البيت، ومنع الفلسطينيين من العودة الى ديارهم، وإنكار كل ذلك. ليس هذا فقط، بل استبكاء العالم وادعاء القاتل بأنه هو الضحية، واستخدام المحرقة لتفهُّم ما اٌرتكبته الحركة الصهيونية ضد الشعب الفلسطيني من مجازر وتشريد وتطهير عرقي... كل هذا وغيره لا يزال مستمراً، لذلك نقول: إن النكبة مستمرة والتطهير العرقي لا يزال سياسة سارية المفعول يومياً وتتغير أشكالها بتغيّر الظروف فقط. 

مع إعلان ديفيد بن غوريون عن إقامة "دولة إسرائيل" في 14 أيار/مايو 1948 كانت العصابات الصهيونية المسلحة قد ارتكبت عشرات المجازر بحق المدنيين الفلسطينيين، وهجرت مئات الآلاف منهم الى خارج فلسطين بالقوة المسلحة، وخوفاً من المجازر التي قد تحل بهم لو بقوا في قراهم ومدنهم. وشهدت الجلسات الحكومية الأولى نقاشاً حول ذلك، وكيف يمكن تعزيز هذا التهجير لمنع عودة الفلسطينيين الى ديارهم، وكان للجنة الترانسفير التي أقامتها الحركة الصهيونية سابقاً، وضمنها يوسف فايس، دوراً كبيراً في هذا النقاش ونتائجه.

يوم 28 أيار / مايو 1948، التقى يوسف فايس مع موشيه شاريت واقترح عليه أن تقوم الحكومة بتعيينه (فايس) مع الياهو ساسون ودنين، ليكوّنوا "لجنة ترانسفير"، وليقوموا بإعداد خطة عمل تحقق أهداف التراسفير". بارك شاريت الفكرة وقال لهم، بموجب فايس، إنه "يجب استغلال ظاهرة هروب الفلسطينيين وتحويلها الى واقع"، ثم حولهم الى وزير المالية، اليعيزر كابلن، وبارك هو الآخر الفكرة وتحويلها الى سياسة. وهكذا اجتمعت لجنة الترانسفير في اليوم ذاته وبدأت في إعداد خطة عمليات المستقبل"[6].

في الخامس من حزيران / يونيو 1948 اجتمع فايس مع بن غوريون، وقدم له مسودة المخطط لتفعيل عملية الترانسفير، موقعة من فايس وساسون ودنين، كتب فيها: "يجب أن نرى بأن اقتلاع الفلسطينيين هو الحل للمسألة العربية في دولة إسرائيل، ولذلك يجب، منذ الآن، توجيه ذلك وفق خطة محسوبة جيداً لتحقيق الهدف"، واقترحت اللجنة في مذكرتها التي قدمتها الى بن غوريون في تلك الجلسة، "تحويل الترانسفير الذي حصل الى حقيقة واقعة وحتى تصعيده" وفق الخطوات التالية:

1)    منع الفلسطينيين من العودة الى ديارهم. وهذا يتطلب هدم قراهم قدر الإمكان خلال العملية العسكرية. ومن ثم منع الفلاحين من حراثة الأرض أو حصادها أو جني ثمارها أو قطف الزيتون، حتى في أيام وقف إطلاق النار.

2)    مساعدة الفلسطينيين لاستقبالهم في أماكن أخرى.

3)    سن قوانين تمنع عودة اللاجئين.

4)    حملة إعلامية مكثفة بهدف ردعهم من العودة.[7] 

النكبة مستمرة والتطهير العرقي مستمر على مرأى ومسمع العالم، الغربي والعربي. وهو سياسة ممنهجة ومخطط لها سلفاً، كما هو واضح بالوثائق، خاصة وثائق الحركة الصهيونية في الأرشيف الصهيوني، وأرشيفات الحكومات الإسرائيلية منذ عام 1948 وحتى اليوم، وهو ممارسة وواقع نعيشه ونعرفه، نحن والعالم شهود أحياء عليه. 

خلال حرب فلسطين 1947-1948 قامت العصابات المسلحة للحركة الصهيونية، وبمساعدة مباشرة من جيش الانتداب البريطاني وقوى خارجية عربية وغير عربية، باحتلال 78% من أراضي فلسطين، وتهجير حوالى مليون فلسطيني من ديارهم بالقوة المسلحة، تحت النار أو بالطرد المباشر تحت التهديد بالقتل أو الاغتصاب، وهدم غالبية قراهم، وفق خطة الترانسفير التي أقرها بن غوريون وشاريت وكابلان، أو استقدام المستوطنين اليهود ليسكنوها قبل هدمها، وخاصة في المدن الفلسطينية، مثل عكا وحيفا ويافا واللد والرملة والقدس الغربية. وتمتلئ المكتبات والأرشيفات، بما في ذلك الإسرائيلية منها، بالوثائق والتقارير التي تشهد على عمليات الطرد الممنهجة، وما زال عدد كبير من الشهود على المجازر وعمليات التهجير أحياءً يروون ما حصل بالتفاصيل.

يقول بيني موريس: "قبـل انسـحاب بريطانيـا العظمـى مـن فلسـطين، كانـت العصابات الصهيونيـة قـد أعـدت طائفـة مـن الخطـط العسـكرية التـي وظفـت تكتيــكات قامــت علــى العنــف، واســتراتيجيات تمثلــت فــي اقتــراف المجــازر، التــي كانــت الغايــة منهــا تطهيــر فلســطين عرقياً من ســكانها الأصليين. وقــد أفضــى هــذا الجــو الــذي انطــوى علــى بــث الرعــب والذعــر فــي نفــوس الفلســطينيين إلــى أكبــر موجــة مــن موجــات اللاجئيــن الفلســطينيين فــي شــهر نيســان (أبريل) ومطلع شــهر أيــار (مايو) 1948"[8].  

ويشير د. صالح عبد الجواد إلى أن العصابات الصهيونية اقترفت، خلال الحرب، بحق الفلسطينيين اكثر من 70 مجزرة ضمن مخطط مدروس بهدف إرهاب الفلسطينيين وتهجيرهم من ديارهم[9]. وتتحدث غالبية الأدبيات الفلسطينية عن قيام العصابات الصهيونية بتدمير 540 قرية فلسطينية، في المناطق التي سيطرت عليها خلال الحرب، وذلك لا يشمل المدن، لكن بعض المصادر التي تواصل التوثيق، منها جمعية "زوخروت" أو "ذاكرات"، من موثقين وموثقات يهود وعرب، ومركز "بديل"، و"جمعية المهجرين في الداخل"، باتوا يتحدثون عن عدد أكبر بكثير يشمل التجمعات السكنية الصغيرة، أي حيث كان يسكن الفلسطينيون في خرب صغيرة أو حيث كانوا يسكنون في تجمعات صغيرة في النقب ولم تدخل في التعريفات والإحصائيات الرسمية للانتداب البريطاني على أنها قرى.

وصل عدد المهجرين الفلسطينيين قسراً عن ديارهم الأصلية في أواخر العام 2018 الى ما يقارب 8.7 مليون إنسان، اي ما نسبته 66.7% من مجموع الفلسطينيين الذين بلغ تعدادهم 13.05 مليون إنسان في جميع أنحاء العالم. من بين هؤلاء 7.94 مليون لاجئ خارج فلسطين إضافة الى 760 الف مهجر داخل فلسطين. 

* 6.7 مليون لاجئ من المناطق المحتلة عام 48 ونسلهم وهو عدد يشمل 5.55 مليون لاجئ مسجل في سجلات وكالة غوث اللاجئين (الأونروا) بالإضافة الى 1.16 مليون لاجئ تعرضوا للتهجير من مناطق الـ48 ولكنهم غير مسجلين لدى الأونروا.

* 1.24 مليون لاجئ من لاجئي المناطق المحتلة عام 1967 ونسلهم.

* 415.876 فلسطينياً تعرضوا للتهجير خلال الحرب وبعدها، وما زالوا يعيشون داخل المناطق المحتلة لعام 48 (أي ما يسمى وفق القانون الإسرائيلي، حاضر غائب)[10]. 

  • سياسة الاحتلال الإسرائيلي في التطهير العرقي وهدم المنازل الفلسطينية مستمرة.
    سياسة الاحتلال الإسرائيلي في التطهير العرقي وهدم المنازل الفلسطينية مستمرة.

كيف ولدت قضية "الحاضر غائب"؟

لقد أُقرت سياسة التهجير منهجاً وأساليب، خشنة أو ناعمة، من قِبَل بن غوريون وشاريت وكابلان، في بداية حزيران / يونيو 1948 وأصبحت سياسة معتمدة بكل أشكالها. لكن، مع انتهاء المعارك الحربية في كانون الأول / ديسمبر 1948 وتفاقم حالة اللاجئين المأساوية في دول الجوار، وبعد اتخاذ قرار مجلس الأمن رقم 194 بحق اللاجئين بالعودة الى ديارهم، وازدياد الضغط الدولي على "إسرائيل" لمنع التهجير وإلزامها بتسهيل عودة اللاجئين، تحولت سياسة "إسرائيل" من تهجير قسري الى خارج فلسطين الى تهجير قسري داخل فلسطين المحتلة عام 48 وهدم قراهم وبيوتهم. هذه السياسة مورست بكثافة في بداية الخمسينات واستمرت حتى عام 1965 في ظل الحكم العسكري، الذي انتهى في السنة اللاحقة 1966، من دون أن يحرك العالم ساكناً، وهكذا ولدت وتفاقمت قضية اللاجئين في الداخل.

 في العام 1952 اتفقت حكومة "إسرائيل" مع منظمة الأونروا على أن تمنح "إسرائيل" هؤلاء المهجرين داخل "الخط الأخضر" جنسية إسرائيلية على أن يتم إخراجهم من سجلات اللاجئين، لكنها سنّت قانوناً، قانون "حاضر غائب"، يحظر عليهم العودة الى ديارهم أو استعادة أملاكهم المنقولة وغير المنقولة، وتحولوا، وفق هذا القانون الى مهجرين ولاجئين في وطنهم.

التهجير القسري باسم "القانون" أو "الضرورات الأمنية"

بالرغم من قرار المحكمة العليا في "إسرائيل" بحق أهالي كفر برعم وإقرث والغابسية بالعودة الى قراهم، وفقا للاتفاق الذي وقعه معهم قائد المنطقة في جيش الاحتلال، قبل إخلائهم "المؤقت" من منازلهم، بحجة التدريبات العسكرية، إلا أن عودتهم لم تحصل لغاية الآن "لأسباب أمنية".

أما أهالي القرى التي هُجّر منها أهلها الى داخل "الخط الأخضر" بعد انتهاء الحرب وحتى بعد التوقيع على اتفاقيات الهدنة، مثل سحماتا وكفرعنان عين حوض شَعَب على سبيل المثال فقط، فلم يسمح لسكانها بالعودة اليها بقوة قانون "أملاك الغائبين" لعام 1950. كذلك قرى المثلث التي تم ضمها إلى "إسرائيل" وفق اتفاقيات الهدنة، في 20 أيار / مايو 1949، وكانت "إسرائيل" قد صادرت أراضيهم التي بقيت في المناطق التي احتلتها قبل الهدنة، ونقلتها الى حارس أملاك الغائبين، وفق قانون أملاك الغائبين لسنة 1950، ورفضت أن تعيدها الى أصحابها بعد ضمهم الى الكيان الإسرائيلي وجعلهم مواطنين يحملون الجنسية الإسرائيلية، وبقيت أراضيهم مصنفة على أنها أملاك غائبين.[11] 

بعد حرب حزيران / يونيو 67

في أيلول / سبتمبر 1967 أجرت دائرة الإحصاء المركزية الإسرائيلية، بناء على طلب حكومي، عملية إحصاء للسكان في المناطق المحتلة في حزيران / يونيو، وهدفها بلورة سياسة رسمية للتعامل مع السكان الفلسطينيين. فرضت إغلاقاً شاملاً على السكان، منعت التنقل، كي لا يتم إحصاء أي شخص مرتين كما ادعوا، وانتشر بين القرى والمدن 2500 شخص يعرفون اللغة العربية لتعبئة استمارات حضور شخصية، استخدموا لذلك حوالى 150 باصاً للوصول الى كل مكان خلال فترة قصيرة، تعاون السكان الفلسطينيون مع القائمين على الإحصاء وأبدوا رغبة كبيرة في الحصول على بطاقة تشهد على حضورهم. لكن الإحصاء لم يشمل الجزء الأكبر من التجمعات البدوية، كما ذكر في التقرير الناتج عن الإحصاء.

بموجب الإحصاء المذكور وجد في الجولان 6400 شخص، في سيناء 33 الف شخص (لا يشمل البدو) منهم 30 الف سكنوا في العريش، في غزة تم إحصاء 356 الف شخص، نصفهم يسكنون في مخيمات اللاجئين، في "الضفة الوسطى" تم إحصاء 600 الف شخص. في الملخص تم إحصاء حوالى مليون شخص في كل المناطق التي احتلت في حزيران / يونيو وهذا الرقم لا يشمل القدس.

اتضح من التقرير أن عدد السكان، وفق الإحصاء الإسرائيلي، كان أقل بكثير من عددهم وفق إحصائيات الأردن ومصر، قبل سنوات قليلة. بموجب الإدارة المصرية في قطاع غزة عاش في القطاع عام 1966، 454 الف فلسطيني، أي بفارق حوالى 100 الف شخص عما أحصتهم "إسرائيل" بعد سنة. تقول الإحصائيات الأردنية لعام 1961 إن سكان الضفة الغربية بلغوا 730 الف شخص، مقارنة بـ600 الف شخص في أيلول / سبتمبر 1967 وفق الإحصاء الإسرائيلي.[12]

خلافاً للتفسيرات التي قدمت في التقرير المذكور، عن أسباب الفارق في الأرقام، كشفت صحيفة "كول هعير" في القدس، يوم 8/11/1991 في مقابلة مع رئيس دولة الاحتلال، آنذاك، حاييم هرتسوغ، ( أب الرئيس الحالي)، أنه حين كان حاكماً عسكرياً للضفة الغربية مباشرة بعد الاحتلال، وكان تشيش ( شلومو لاهط- رئيس بلدية تل ابيب) قائداً عسكرياً لمدينة القدس، قاما بعملية ترانسفير هادئة وناجحة لحوالى 200 الف فلسطيني من الضفة الغربية والقدس، خلال أسابيع قليلة بعد 9/6/1967 وأن هجرتهم كانت برغبة منهم وبعد التوقيع على نموذج خاص يشهد بذلك.[13] وفي السياق نفسه، التقت الصحافية نعومي كوهين دافيد، يوم 15/11/1991 مع أحد الجنود، واسمه دانئيل، الذي كان مسؤولاً عن إلزام المهجرين على التوقيع على ذلك النموذج، (وقد احتفظت الصحيفة باسمه الكامل في إدراجها بطلب منه) فقال: "كان عمري 18 سنة وقد فهمنا آنذاك أن هؤلاء الفدائيين يشكلون خطراً علينا لذلك من الأفضل أن يتركوا، كانت أعمارهم بين العشرين والسبعين، جاءوا بالباصات، وفي بعض الأيام كنا نشعر أن آلافاً عبروا الجسر في يوم واحد. عبروا بالآلاف يومياً من دون انقطاع لمدة أسابيع. كانت وظيفتي أن آخذ كل شخص، فقط الرجال، عند النزول من الباص، أُمسك بإصبع إبهامه لطخها بالحبر وأُجبره على التوقيع بالبصمة على النموذج الذي كان يتضمن تصريحاً بأن الموقِّع غادر البلاد بطلب منه، ورغبة منه في التنازل عن الجنسية، وأنه لن يعود. وأضاف أن عشرات الآلاف رفضوا التوقيع، وكان الجنود يضربونهم حتى يغمى عليهم ويضطرون الى التوقيع رغماً عنهم"[14].

عندما سئل المؤرخون، د.مئير بعيل، ود.يوسف غباي، ود.إيلان بابه، عن الحادثة، لم يعرف بها أحد منهم. غباي قال: علمنا أن 140 ألف شخص تركوا الضفة بعد الاحتلال بطلب منهم، وأن المخيمات الثلاثة بالقرب من دوار أريحا قد فرغوا من سكانهم، لكننا لم نعرف كيف حدث هذا. قال د. بابه: كانت هذه المعلومات رائجة بين الناشطين، وأنه بين 200 الف و250 ألف فلسطيني غادروا نتيجة الحرب في الأسابيع الأولى للاحتلال لكننا لم نرَ أي وثيقة تتحدث عن ذلك[15]. 

ويشير تقرير المسح الشامل لعام 2016-2018 أنه خلال حرب حزيران 67 أيضاً تم تهجير أهالي عمواس ويالو وبيت نوبا وقد بلغ عددهم 10 آلاف شخص تقريباً، آنذاك. وقامت الحكومة مباشرة بتدمير قراهم ومسحها بالكامل. كما يشير إلى أن سلطات الاحتلال الإسرائيلي هدمت أكثر من 24130 منزلاً فلسطينياً منذ عام 1967 وحتى عام 2018[16]. 

  • عائلات فلسطينية خلال هروبها من قرى قرب حيفا شمال فلسطين عام 1948.
    عائلات فلسطينية خلال هروبها من قرى قرب حيفا شمال فلسطين عام 1948.

تهويد النقب 

اختلفت الأساليب لكن الهدف واحد وهو التهجير. من هذه الأساليب:

*عدم الاعتراف بالقرى البدوية في النقب منذ عام 48، ثم تهجير عدد منها، لاحقاً، عند بناء القواعد العسكرية الأميركية هناك، وفق اتفاقية كامب ديفيد، ونقلهم الى اللد وقلنسوة وأماكن أخرى.

*أخبث الأساليب: تحت شعار "تطوير" النقب و"تمدين" السكان البدو الأصليين. تم تهجير وتركيز عدد كبير من التجمعات العربية البدوية في مدينة واحدة داخل النقب، أشبه بمجمع صناديق (راهط). في المقابل، تم نشر المستوطنين اليهود في مستوطنات زراعية فيها عدد قليل من السكان. تتكون المستوطنة، أحياناً، من أسرة واحدة تصلها المياه العذبة والكهرباء والشارع، ولا تصل الى قرية عربية مكونة من آلاف السكان.

التطهير العرقي غير المرئي 

من خلال القمع والتضييق في العمل والسكن والحركة.....الخ وإجبار الفلسطينيين على الهجرة (مسيحيين فلسطينيين) أو البحث عن عمل خارج فلسطين وسحب مواطنتهم أو إقامتهم بعد مرور سنوات من الغياب.

التطهير العرقي من خلال تهويد الحيز الاجتماعي والمكاني والثقافي

الاستيطان ومصادرة الأراضي في كل مكان داخل مناطق الـ48 أو الـ67. تغيير أسماء المدن على لافتات الشوارع، حتى عندما تكتب بالعربية، مثل عكو بدلاً من عكا، أو  يافو بدلاً من يافا... أورشليم بدلاً من القدس، لود بدلاً من اللد.. فمجرد أن ذكر أحد الصحافيين العرب في القناة الإسرائيلية 13، فرات نصار، أن نتانيا هي قرية "أم خالد" الفلسطينية، قامت الدنيا ولم تقعد ووصل التحريض ضده لطرده من العمل.

الهوامش 
[1] التقرير النهائي للجنة الخبراء المُنشأة وفقاً لقرار مجلس الأمن ذي الرقم 780- وثائق الامم المتحدة
[2] يمكن مراجعة كل البروتوكولات الخاصة بهذه اللجان في الرشيف الصهيوني s/25 
[3] انظر على سبيل المثال تقرير لجنة ترحيل السكان (بدون تاريخ) الأرشيف الصهيوني s/25/514
[4] يديعوت احرونوت 24 أيار 1993 بموجب وثائق وزارة الخارجية السوفيتية التي وصلت الى إسرائيل.
[5] www.nakim.org/israel-forums/viewtopic.php?p=275292 
[6]  بيني موريس في كتابه "ولادة قضية اللاجئين الفلسطينيين"، النسخة المعدلة 1987 ص. 188
[7] لمزيد من التفاصي يمكن مراجعة بيني موريس ص 189
[8] بيني موريس، ولادة قضية اللاجئين الفلسطينيين 1947-1948 (نسخة معدلة 1987) ص 136
[9] د. صالح عبد الجواد، المجازر الصهيونية في حرب 48 في فلسطين وخلق قضية اللاجئين (بالانجليزية) 
[10] المسح الشامل 2018 ص. 14 الصادر عن مركز "بديل" بيت لحم. وهناك تقديرات أخرى اكبر مما ذكر، صادرة من  "مركز العودة الفلسطيني" في لندن 1998 ذكرها المسح الشامل ص 71- 73
[11] يلاحظ في هذا السياق أن قانون مصادرة أملاك الغائبين يجري مفعوله باثر رجعي، بعكس كل منطق قانوني، ويعتبر أن كل من غادر بيته بعد قرار التقسيم 29 أكتوبر 1947 يعتبر غائبا ويسمح للدولة مصادرة كل املاكه. كما سرى هذا القانون على من اخرجتهم الدولة من ديارهم لاحقاً بحجة امنية، حتى لو كان الأمر العسكري يؤكد أن إخلاء المنازل محدود بفترة أسبوعين فقط.
[12] تم الكشف عن هذا التقرير / الإحصاء السري في 18/5/2017 في موقع n12 الالكتروني.

 [13] صحيفة كول هعير 8/11/91 تقرير  شمويل مئيري، تحت عنوان "ترانسفير هرتسوغ"
[14] كول هعير القدس 15/11/1991
[15] كول هعير  القدس 8/ 11/1991
[16]  المسح الشامل 2016-2018 ص 73.

إقرأ الجزء الثاني من الدراسة.