أصوات عميقة؛ هل يسمعها العالم؟
تنسج تهاني سليم نصّها بين حكاية فرح الشخصية وكلمات محمود درويش الخالدة في "عابرون في كلام عابر". كلمات درويش هنا ليست زينة أدبية، بل هي الجذور التي تثبّت الروح في الأرض.
في مساحةٍ ضيّقة بين الخشبة والجمهور، تتسع لتصير وطناً يضيقُ على محتلّيه. هنا حيث يذوب الواقع في الخيال، تقف فرح وحدها حاملةً وجع شعب وإرادة صموده معاً.
"أصوات عميقة/أصوات من غزة" للممثّلة الفلسطينية، تهاني سليم، من كتابتها وإخراج، سوسن دروزة، تقدّم تجربة إنسانية لا يزال جرحها غائراً وحارّاً، مجسّدة معاناة سيدات غزة وشاباتها اللواتي عشن اختبارات لا مثيل لها تحت وقع جريمة الإبادة الإسرائيلية.
من عمّان إلى "مسرح المدينة" في شارع الحمرا ببيروت، وإلى الكويت قريباً، تسافر هذه المونودراما كرسالةِ ألمٍ لا تُطوى. تروي حكاية فرح الشابة الغزاوية في رحلة النزوح من غزة إلى خان يونس ثمّ إلى رفح، مستحضرةً مأساة التجويع والترهيب تحت الحصار.
استطاعت تهاني سليم شدّ انتباه المتفرّج طوال ساعة كاملة، لا تترك له مجالاً للانزياح أو النسيان. لم تكن ممثّلة تؤدّي دوراً، بل كانت امرأة تروي قضية شعب. جسّدت ببراعة معاناة النساء خلال حرب الإبادة ـــــ ذلك الثقل المزدوج بين الحفاظ على الحياة في ظلّ الموت، وتربية الأجيال تحت القصف، وحمل الذاكرة في منفى لا ينتهي. كانت الأم التي تفقد طفلها، والابنة التي تدفن أبيها، والعروس التي تعلّق زفافها إلى أجل غير مسمّى.
وظّفت الممثّلة كلّ ما لديها: نبرات صوتها التي تتراوح بين الهمس الحميم والعويل الصامت، وإيماءات جسدها الذي يتقوّس ألماً أحياناً ويتماسك صموداً أحياناً أخرى، ونظرات عينيها التي تقصّ من دون حاجة إلى كلام. ولكنّ اللافت تلك اللازمة المؤرقة التي كرّرتها طوال العرض ومفادها أنّ ثمّة أشياء مريرة ومأساوية حدثت لن يفهمها إلا الذي عاشها. جملة أصبحت بمثابة البوصلة الأخلاقية للعرض، تذكّرنا بأنّ بعض الجروح لا يمكن وصفها، وبأنّ الفن قد يقترب من المعاناة لكنه يظل عاجزاً عن إدراك كامل حقيقتها.
وما يجعلك كمتفرّج لا تشاهد المسرحية بل تعيشها، هو ذلك التركيب البصري والسمعي المتميّز. الإضاءة هنا ليست مجرّد أداة إيضاح، بل هي لغة أخرى تحاور الممثّلة والنصّ. تتحوّل من الأضواء الخافتة الحميمة عندما تروي فرح ذكرياتها الجميلة عن غزة، إلى الومضات المفاجئة الحادّة محاكيةً انفجار الصواريخ، تاركة الجمهور في حالة ترقّب وقلق. أما المؤثّرات الصوتية، فتشكّل نسيجاً آخر من المعاناة. دوي القذائف المنهمر، صفّارات الإنذار، أصوات انهيار المباني، وأزيز المسيّرات، كلّها عوامل تخلق معزوفة مرعبة تضع المتفرّج في قلب مناخ الحرب، وكأنه ينزح مع فرح خطوة بخطوة.
تبقى قطعة القماش الأبيض ذلك الرمز متعدّد الأبعاد الذي برعت المخرجة في توظيفه. فهو ليس مجرّد شاشة لعرض المشاهد، بل هو ضمير العرض. تعرض عليه مشاهد مصوّرة مؤلمة لأطفال غزة الجائعين، عيونهم الواسعة تتساءل عن ذنبهم، ولعائلات نازلة تحمل أطفالها وأمتعتهم فوق عرباتها، ولعلّ المشهد الأقسى حين تتحوّل تلك الأقمشة إلى خيمة هشّة تنهمر عليها حمم الصواريخ. هذه الصور الملتقطة من الواقع لا الخيال، تذكّرنا بأنّ ما نراه على الخشبة هو مجرّد صدى لواقع يعيشه الملايين. وفي لحظة مفصلية، تتحوّل هذه الشاشة إلى سفينة أمل، ترفعها فرح كأنها ترفع راية الصمود، في إشارة إلى سفن كسر الحصار، بعد أن تتحوّل إلى بحر غزة المفتوح على الحرية.
تنسج تهاني سليم نصّها بين حكاية فرح الشخصية وكلمات محمود درويش الخالدة في "عابرون في كلام عابر". كلمات درويش هنا ليست زينة أدبية، بل هي الجذور التي تثبّت الروح في الأرض. "عابرون في كلام عابر" يشي بحتمية زوال المحتل، بينما يشدّد واقع فرح على أنّ الفلسطيني، رغم كلّ محاولات القتل والتشريد، "يحبّ الحياة إن استطاع إليها سبيلاً".
وإذا عدنا إلى الواقع، فإنّ تقارير الأمم المتحدة تشير إلى نزوح أكثر من 1.7 مليون فلسطيني من غزة في موجات متتالية، معظمهم نزح عدة مرات، تماماً مثل فرح. كما أنّ صور الأطفال النازحين في رفح وخان يونس، والتي قد تكون المصدر نفسه للمشاهد المعروضة على القماش، تنتشر يومياً على وسائل التواصل، مؤكّدة أنّ المأساة مستمرة. هذا التزاوج بين الفنّ والواقع هو ما يجعل من "أصوات عميقة" عملاً جديراً بالمشاهدة.
"أصوات عميقة/أصوات من غزة" ليست عرضاً مسرحياً فقط، بل هي شهادة للتاريخ، وقصيدة حبّ لوطن ينزف. تذكّرنا بأنّ خيمة اللاجئ ليست نهاية المطاف، بل محطة انتظار للعودة، وأنّ الصوت الواحد، إذا انبعث من الأعماق، يمكن أن يهزّ ضمير العالم.
**
"أصوات عميقة/أصوات من غزة" على خشبة مسرح المدينة في الحمرا الثامنة مساء اليوم الخميس وغداً الجمعة.