آمن بالوظيفة الإنسانية للفن.. حسن سامي يوسف يتجاوز "عتبة الألم"

فلسطيني متجذّر في سوريته، ورفض الخروج منها في سنوات الحرب كلها. ماذا قال الليث حجو وإياد أبو الشامات ومازن طه عن السيناريست حسن سامي يوسف؟

لطالما آمن السيناريست حسن سامي يوسف، الذي وافته المنية أمس الجمعة عن 79 عاماً، بأنه ليس للفن وظيفة أسمى من إيقاظ الإنسان على إنسانيته، وانطلاقاً من ذلك بقي محافظاً في كل ما كتب، سواء للسينما أو التلفزيون أو الرواية، على هذا السَّمت الأخلاقي، جاعلاً من نصوصه بمثابة دعوة لصحوة البشر وتعزيز قيم الحب والجَمال والخير فيهم، من دون مثالية زائدة، بل من خلال الغوص في هموم الإنسان السوري وتشريح أسباب قهره والإضاءة على مكامن الخلل في مجتمعه، بمعنى أنه ظلَّ أميناً لكونه "كاتباً مغروساً في وحل الواقع"، كما وصف نفسه ذات مرة.

ولذلك رفض يوسف أن يكتب أي شيء عالقاً في الفراغ وغير محدد المعالم، أكان من حيث الزمان أو المكان أو الشخوص، أو من حيث الهمّ قبل هذا كله، حتى لو بقي عاطلاً عن العمل قولاً وفعلاً.

الكاتب الفلسطيني - السوري آثر دائماً أن تكون أعماله وثيقة الشبه بنا، ينقل أوجاعنا وآمالنا بمصداقية عالية، معتمداً على قراءة ذكية للواقع، وتحليل عميق لمشاكله وعبثيته وأسباب مآسيه، ليخرج بعد ذلك بأحداث وشخصيات ساحرة بوجوديتها، وتمتلك كل عناصر التعاطف معها، لأنها مشغولة بوعي هائل لمنطق عيشها ودوَّامات الخراب التي تحيط بها، وأكثر من ذلك لعلاقتها مع الحياة أولاً، ومع شجون الآخرين ومسارات عيشهم ويومياتهم الآسرة.

لم يكن حسن سامي يوسف (1945 - 2024) في يوم من الأيام تقليدياً في ما يكتب. إذ استطاع منذ بداياته أن يُعبِّد طريقه الخاص إلى قلوب متابعي أعماله، لأنه من خلال ولهه بالإنسان، كان يشبع شخصياته بمصداقية واقعية، وقدرة عالية على تحقيق التعاطف، بلا محاكمات قاسية، وإنما بسعي حثيث للنبش في عوالمها الداخلية، وصقل سلوكياتها الناجمة عنها، ضمن متواليات من الأحداث ينسجها صاحب "النَّدَم" ضمن آلية في الكتابة، بقدر ما تكشف من حيثيات للمتلقي فإنها تحقق له المزيد من التشويق، وتعزز رغبته في أن يعرف أكثر عن مآلات الشخصيات ومسببات نكوصها العاطفي والاجتماعي والنفسي.

وفق هذا التصور واظب الكاتب المولود في قرية لوبية في فلسطين عام 1945 منذ تخرجه من المعهد العالي للسينما في الاتحاد السوفياتي (الفغيغ) عام 1968، أن يجعل من أفكاره التي يؤمن بها سيناريوهات، بدأها في السينما منذ عام 1973 بفيلم "بقايا صور" ثم "الاتجاه المعاكس" و"غابة الذئاب" عامي 1975 و1977 على التوالي.

وفي الثمانينيات أنجز سيناريو فيلمي "حب للحياة" عام 1981، و"قتل عن طريق التسلسل" بعده بعام. كما أنه أسهم بوضع المعالجة الدرامية لأفلام "حبيبي يا حب التوت" عام 1979، و"الطحالب" عام 1991، و"صعود المطر" عام 1995، إلى جانب عمله كمستشار درامي للعديد من الأفلام ومنها "نجوم النهار"، "وقائع العام المقبل"، "حادثة نصف متر"، و"الليل".

وفي الدراما التلفزيونية ترك بصمات لا تُنسى على صعيد الموضوعات، وعلى مستوى البناء الدرامي كشخصيات وأحداث، إلى جانب تصميم ذكي للحبكات، والأهم في علاقتها بالجمهور، بحيث باتت أعماله ذات نكهة خاصة في ذاكرة المشاهدين، سواء التي كتبها بمفرده أو بالشراكة مع السيناريست نجيب نصير، ونذكر من أعماله تلك: "الندم"،"زمن العار"، "الغفران"، "نساء صغيرات"، "أسرار المدينة"، "أيامنا الحلوة"، "رجال ونساء"، "حكاية خريف".  

أما في الرواية فلحسن سامي يوسف 7 روايات 2 منهما حولهما إلى مسلسلات تلفزيونية، وهي "فتاة القمر" التي أصبحت عام 1999 مسلسل "نساء صغيرات"، ورواية "عتبة الألم" التي باتت مسلسل "الندم" عام 2016.

كما كتب يوسف روايات "الفلسطيني"، "بوابة الجنة"، "الزورق"، "إلى فاطمة"، وله دراسة صادرة عن وزارة الثقافة السورية بعنوان "هموم الدراما" ناقش فيه مشكلات الدراما السورية بأسلوبية بسيطة تبتعد عن التنظير وتقترب من الواقع الدرامي المعاش، إلى جانب رواية "على رصيف العمر"، كما ترجم كتاب "المسألة اليهودية" لفيودور دوستويفسكي.

في حديث خاص مع "الميادين الثقافية" قال المخرج الليث حجو إن: "أكثر ما لفتني في الأستاذ حسن رحمه الله هو ارتباطه بسوريا، وقدرته الفائقة على الكتابة عن الهم السوري أكثر من كثير من السوريين، وأيضاً رفضه لكل الذين اتهموه بأنه فلسطيني ولا يجوز له أن يحكي عن سوريا وهمومها، فهو متجذر بسوريته ورفض الخروج منها في سنوات الحرب كلها، والمقربون منه يعلمون حق المعرفة أنه لا يعرف الحديث إلا عن سوريا التي عاش فيها معظم سني حياته".

وأضاف: "تنحو جميع الأعمال التي كتبها للتلفزيون إلى الشكل الأدبي الروائي، وأهم ما يميزها برأيي أنها وثيقة الصلة بالمرحلة والتاريخ السوري المعاصر، ولذا أعتبر أن العملين اللذين أخرجتهما عن نصوصه "الانتظار" و"الندم" بمثابة وثيقتين دراميتين لتاريخ هذا البلد".

وفي سياق آخر أوضح حجو أن الراحل من الأشخاص القلائل، إن لم يكن الوحيد، الذي درس السيناريو بطريقة أكاديمية في معهد "فغيغ" زمن الاتحاد السوفياتي، وكان لذلك أثر في آليات بناء نصوصه وصقل أسلوبية سرده وكتابته. لكن الأهم هو معرفته ومخزونه الإنساني الكبير. إذ إنه لم يكتب أياً من أعماله لمجرد تحقيق مشاهدات والوصول إلى "الترند"، وإنما بدافع إنساني، لذلك لم يهتم إن كانت أعماله ستحقق مشاهدات عالية أم لا، وإنما همه الأساسي التعبير عن مخزونه الأخلاقي التزاماً بمسؤوليته تجاه المجتمع.

من جهته، قال السيناريست والممثل إياد أبو الشامات لــ "الميادين الثقافية" بأن الحديث صعب جداً عن حسن سامي يوسف، على المستوى المهني والحياتي، لأن تجربته الفنية والحياتية غنية جداً، مبيناً أن أكثر شيء أحزنه هو تلك المفارقة بأن حسن انتهى من المكان الذي بدأ فيه، بحيث أن حياته كانت أشبه ببناء الحلقة التلفزيونية، وهذا من سخرية الأقدار أن يكون الإنسان في هذه المنطقة محكوم بحلقة تبدأ من نزوحه بعمر 3 سنوات من فلسطين، ثم انتقاله مع عائلته إلى سوريا قادماً من بيروت، ثم اضطراره إلى النزوح من مخيم اليرموك، وتالياً العيش في فندق، وكأن حياة مبدع "الانتظار" انتهت من حيث بدأت، "فعندما تكون فلسطيني وسوري وابن هذه المنطقة تحس دائماً أن كل جهودك تذهب هباءً بهذا المكان للأسف الشديد".

وتابع: "إن حياة النزوح والمخيمات التي عاشها حسن أنتجت كل هذه التجربة الحياتية القاسية، كما أنتجت نوعاً جديداً من الدراما السورية الواقعية التي ذهبت نحو العشوائيات والإنسان المهمش الذي يعاني ضنك العيش ويبحث عن حلول حياتية".

وقال أبو الشامات إن: "حسن سامي يوسف قدّم الكثير للدراما السورية وله فضل كبير بأعماله الخالدة مثل "الانتظار، "الغفران"، "الندم"، كما أن بدايته وحيداً بالدراما السينمائية والتلفزيونية، ثم شراكته مع نجيب، والانتهاء وحيداً بـ "الندم" و"فوضى"، جعل حياته تشبه الحلقة "البداية، الطريق، النهاية"، هذا ملفت للنظر بتجربة هذا الإنسان الذي تتلمذ في يوم من الأيام على يد الأديب غسان كنفاني".

وأوضح أبو الشامات أن الراحل كان من القلائل الذين درسوا السيناريو أكاديمياً، و"هذا واضح بجميع أعماله التي قدمها، أما رواياته فلم يكن لها النصيب الأكبر بالوصول إلى ضمائر الناس كما أعماله التلفزيونية، وهذا له علاقة بالوسيط وحظ الأدب اليوم وقلة القراء، ولكن تلفزيونياً كان له تأثير كبير وعمل انعطافة كبيرة بمسار الدراما السورية. إذ صب كل جهوده في الدراما الواقعية مع نجيب نصير، وقدما معاً أعمالاً لا تنسى، وحزننا كبير على هذه الخسارة لشخصية مهمة وكبيرة ومؤثرة بواقع الدراما السورية".

وقال مبدع مسلسل "غداً نلتقي": "أنا حزين جداً أنه بعد كل هذا الألق والحياة والذي مرّ به حسن سامي يوسف أن ينتهي وحيداً بمدينة حزينة ويصرح في النهاية أنني لن أكتب عمل لا يشبه الناس حتى لو بقيت بلا عمل. كم هو مؤلم ذلك، وكم يعبر عن الواقع الدرامي الذي نعيشه ويشبهنا. إذ كم نقدم تنازلات من أجل أن نعمل، وكم أن شخصاً مهماً مثل حسن وهو أستاذ تعلمت منه أجيال، لا يستطيع أن يعبر عن نفسه أو يسوق نصاً لأن مقاييس السوق اليوم مختلفة تماماً عن كل ما حلمنا به وتعلمناه وأحببنا أن نشتغل عليه، في زمن يذهب فيه كل شيء نحو التفاهة والتسطيح والاستخفاف واستهبال الجمهور. هذا مؤسف جداً".

من جانبه، قال السيناريست مازن طه في تصريح لــ "الميادين الثقافية": "نعزي أنفسنا جميعاً بفقدان الكاتب الكبير حسن سامي يوسف والذي كان عراب الكتابة الدرامية في سوريا، وأعتقد أن جميع أبناء جيلي قد تعلموا منه بفضل سيناريوهات أفلامه السينمائية التي كانت تنشر في مجلة الحياة السينمائية، وكانت بالنسبة لنا مرجعاً أكاديمياً متاحاً في ظل صعوبة الحصول على مراجع متخصصة في ذلك الوقت".

وأوضح طه أن أهمية تجربة الراحل تأتي من واقعيتها. إذ إن أغلب نصوصه مستقاة من رحم الواقع وأغلب شخصياته مهزومة تبحث عن ذاتها وعن خلاصها، من دون شعارات رنانة جوفاء، أو أبطال ملحميين، بل مجرد أناس بسطاء  قد نراهم في الشارع، منوهاً إلى أن "تجربته الغنية أنصفت المرأة السورية فقد كان مدافعاً شرساً عن حقوق المرأة في الحياة والتعلم والحب والمشاركة، ومسلسل "زمن العار" يقدم نموذجاً صارخاً عن هذا التوجه في كتاباته".