آثار اليمن.. نزيف كبير؟
تسلط إعادة افتتاح "المتحف الوطني" في صنعاء الضوء على واقع الآثار اليمنية، فما وضع هذه الآثار؟
بسبب من وجوده عند مفترق طرق تجارية عالمية مهمة، شكل اليمن مسرحاً للتبادل الثقافي مع شعوب آسيا وأفريقيا، وموقعاً استراتيجياً للتأثير العسكري والثقافي والتجاري العالمي. الأمر الذي جعله يزخر بعدد لا حصر له من معالم التراث المادي واللامادي وكمية كبيرة من العملات الذهبية منذ العصر الروماني والتماثيل الرخامية والبرونزية ومومياوات والقصور والقلاع وقطع الزينة والسيوف والرماح والدروع والنقوش والمخطوطات بأنواعها، وجميعها توثق لواحدة من أقدم الحضارات البشرية الضاربة في التاريخ.
غير أن هذا الإرث الثمين يعاني باستمرار، كما هو الحال مع كل بلدان المنطقة، وربما أزيد قليلاً؛ باعتباره جزءاً أصيلاً من بلاد عاشت الحروب والاضطرابات بأشكال كثيرة، وبالتالي فهو يؤثر فيها ويتأثر بها، رغم المحاولات الرسمية المحدودة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه في ظل وضع صعب يعيشه اليمن منذ سنوات بفعل الانقسام الداخلي والتحديات الخارجية.
في هذا السياق، أعادت "الهيئة العامّة للآثار والمتاحف" مؤخراً افتتاح "المتحف الوطني" في صنعاء، بعد 9 سنوات من الإغلاق الاحترازي، وهو قرار يأتي "انطلاقاً من اهتمام حكومة تصريف الأعمال بالموروث الحضاري والثقافي في إطار بناء الدولة اليمنية الحديثة"، كما يصفه القائم بأعمال مدير المتحف، ووكيل الهيئة العامة للآثار، إبراهيم الهادي.
وأضاف: "جرى معه افتتاح عدد من المتاحف اليمنية التي توثق لتاريخ الشعب اليمني وذاكرته الحضارية؛ بغية الحفاظ على المقتنيات الأثرية التي تزخر بها".
وبحسب الهادي، فقد بدأ افتتاح المتاحف على مراحل حيث تم افتتاح 3 صالات فقط في "المتحف الوطني" بصنعاء كمرحلة الأولى، تلا ذلك افتتاح "متحف الموروث الشعبي" (صنعاء)، و"متحف ظفار" (إب)، و"متحف كانط" (عمران)، و"متحف قلعة زبيد" (الحديدة).
ويوضح الهادي في حديث مع "الميادين الثقافية" أن الهدف من ذلك أن تسهم هذه المؤسسات العلمية والثقافية في نشر الوعي بأهمية الحفاظ على التاريخ وإرثه السامي بين أوساط المجتمع، وغرس القيم التي تعزّز الانتماء الوطني، بما "يوجد مجتمعاً واعياً ومدركاً لمصيره ودوره المستقبلي في مقاومة ثقافة التبعية والارتزاق والتصدي لقوى الاستكبار الرامية إلى حرفه عن هويته الوطنية والإيمانية".
آثار اليمن.. نزيف كبير
من جانبه، يرى الصحفي المهتم بالشؤون الثقافية، محفوظ الشامي، أن إعادة فتح تلك المتاحف "يمثل أهمية في توعية وتثقيف الشعب بالتاريخ اليمني بما يعزز لديه الشعور بالفخر والانتماء إلى الوطن خاصة في أوساط الجيل الناشئ".
ويضيف: "رسالة المتحف تتجاوز ذلك إلى مستوى أعلى من الضمان، فهي الملتقى الذي يضم كل ما له علاقة بالتاريخ المادي، وبالتالي فهي تخلق وعياً ومسؤولية تقتضي أن يلتزم الناس بتقدير كل ما هو مرتبط بهم لصونه ومساعدة القائمين عليه في وصوله لمكانه الطبيعي؛ ليبقى شاهداً على أحداث الماضي وشهادة على حقب زمنية معينة".
لكن الحاصل هنا مؤسف وباعث على الألم، وفق الشامي، الذي يقول لـ "الميادين الثقافية": إن "آثار اليمن تعاني الكثير من عبث المواطنين الذين يتدافعون في أرجاء البلاد إلى نبشها بطرق عشوائية مؤذية للقطع الأثرية، بسبب عدم وصول المعنيين أولاً لهذه المواقع وغياب الوعي بأهميتها"، لكن الأمر لا يقتصر على ذلك "فالمعاناة ذاتها تحصل في المتاحف. إذ لا تتوفر العناية اللازمة لصونها وترميمها والمحافظة عليها وذلك لاعتبارات عدة منها غياب المختصين في ذلك وغياب الأدوات المساعدة في صيانتها".
إلى جانب ذلك، تعاني آثار اليمن من النزيف الكبير من جراء عمليات التهريب والبيع خارج البلاد منذ عقود من الزمن، وهي ظاهرة لا تزال مستمرة حتى اليوم وتعكس إهمال بعض الجهات المعنية وربما ضعف تعاونها مع "الهيئة العامة للآثار" في حماية الممتلكات الثقافية، وضعف التشريعات والقوانين الخاصة بحماية التراث.
ووفق رئيس الهيئة، عباد الهيّال، فإن "ثمة معاناة من ضعف تجاوب السلطات المحلية مع الهيئة في المناطق التي يديرها "المجلس السياسي الأعلى"، بخاصة محافظتي الحديدة والجوف اللتان لا تزالان نقاط تهريب نشطة"، أما في المناطق الخاضعة لسيطرة التحالف السعودي، فالأمر يتجاوز المعاناة إلى الكارثة.
آثار اليمن في المزادات
مطلع آب/أغسطس 2024، أصدرت الهيئة تقريرها الـ 17 ضمن سلسلة "آثارنا المنهوبة"، والذي يرصد 90 قطعة حجرية وبرونزية وذهبية معروضة في المزادات العالمية، وهي قطع تعود بعضها إلى القرن الخامس قبل الميلاد، ومخطوطات تعود إلى القرنين الــ 15 و19 للميلاد.
ويقول الهيال لـ "الميادين الثقافية": "نحن في الهيئة نصدر بين الفينة والأخرى قائمة بالآثار المعروضة في المزادات ونرصدها، وفي السنوات الأخيرة رصدنا نحو 2400 قطعة معروضة، بينما العدد غير المعروض يفوق ذلك بكثير".
وعلاوة على ذلك، تعرضت الآثار اليمنية خلال سنوات العدوان على اليمن للدمار، فبعضها كانت ضمن نطاق الجبهات في مناطق كمأرب والجوف. كما جرى نهب الكثير منها وإخفائه أو بيعه، وتعرضت المتاحف الواقعة ضمن سيطرة تحالف العدوان للنهب في تعز وعدن، وقبل ذلك اقتحم تنظيم القاعدة المتحف السلطاني في المكلا ونهب مقتنياته.
لكن معاناة الآثار اليمنية لا تقف عند هذا الحد. فقد لجأت الهيئة في صنعاء منذ بدء العدوان عام 2015 إلى خطة لتأمين هذه المقتنيات الأثرية من النهب أو السرقة ووضعها في أماكن آمنة وإغلاق المتاحف للحفاظ على ما بداخلها. كما رفعت بإحداثياتها لليونيسكو، ورغم ذلك تعرض متحف ذمار للقصف المباشر من طائرات التحالف السعودي عام 2015، وكان يضم 12500 قطعة أثرية، لم يُعثَر سوى على 7600 منها معظمها بحاجة للترميم.
وبحسب إبراهيم الهادي، فإن الآثار التي تم حفظها كانت أيضاً عرضة لأضرار عديدة نتيجة لتخزينها في أماكن غير مهيأة للحفاظ عليها عند درجة رطوبة وحرارة ملائمتين، وعرضة للعوامل البيئية والبيولوجية التي أثرت على كثير من المقتنيات المصنوعة من المواد العضوية والبرونزية والمعادن والمومياوات؛ نتيجة لعدم توفر المواد الحافظة من السوق المحلية.
ثراء حضاري
يملك اليمن موروث آثاري كبير تم جمع بعضه في حدود 27 متحفاً داخل البلد، إلى جانب المئات من المواقع الأثرية والتاريخية في 21 محافظة، ورغم ذلك لا يكاد يخلو واحد على الأقل من متاحف عالمية بباريس وإسطنبول ولندن وبرلين وروما والرياض وأبو ظبي ونيويورك وتل أبيب من قطع أثرية يمني ثمينة.
ويقول الباحث المهتم بتتبع ورصد آثار اليمن، عبد الله محسن، إنه: "لا يكاد يخلو مزاد عالمي من عرض لآثار يمنية، فالبلد الذي ضم حضارات سبأ وحمير ومعين وقتبان وحضرموت، وممالك أخرى، بحاجة إلى الشواهد الواقعية على عظمة تلك الممالك والحضارات التي امتدت لقرون من الزمن وكانت توازي الحضارات الرومانية واليونانية والفارسية".
ويضيف لـ "الميادين الثقافية": "يتوجب على الجهات المعنية أن تؤدي دورها بفاعلية، كما يتوجب تعديل قانون الآثار ليصبح أكثر حزماً لمنع التهريب والعبث، ومعه يرى بضرورة دعم هيئة الآثار وقطاع قضايا الدولة في الشؤون القانونية للترافع في قضايا الآثار في الخارج والبحث عن آليات لاستعادتها".
والمثير للتساؤل هنا أن مشروع قانون جديد للآثار يقبع في أدراج الحكومة ومجلس النوّاب منذ سنوات عدّة، ويشمل تعديلات على مواد القانون القديم لسنة 1997، وفيه نصوص صارمة بمعاقبة مرتكبي مظاهر الاتجار بالتاريخ، فإلى متى سيبقى وتبقى المعاناة؟