هل ينقضّ الأوروبيون على محكمة الجنايات لإخفاء دورهم في الجريمة؟

الموقف الأوروبي صعب للغاية، فمحاولة اعتراض المسار القانوني الدولي ستكون مكلفة جداً، ولا مبالغة بالقول إنّ الكلفة أنّ محكمة الجنايات تواجه خطراً وجودياً.

0:00
  • ما هي تهمة الأوروبيين؟
    ما هي تهمة الأوروبيين؟

دخلت محكمة الجنايات الدولية في نفق مظلم ومصيرها، ومصير النظام القانوني الدولي برمّته بات على المحكّ، بسبب إصدار مذكرات التوقيف بحق رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ووزير دفاعه السابق يواف غالنت، فالمساس بمن أصدرت بحقهم مذكّرات التوقيف أو من يقف خلفهم ويدعمهم، كان دائماً من المحرّمات.

منذ إنشائها عام 2002، بالنسبة لمحكمة الجنايات، وعام 1945 بالنسبة لمحكمة العدل، ركّزت المحكمتان على المهزومين في الحروب، كالرئيس الصربي السابق صلوبودان ميلوزوفيتش، أو زعماء دول العالم الثالث الأفارقة بالتحديد، كالرئيس السوداني السابق عمر البشير، أو أعداء الغرب كالرئيس الروسي فلاديمير بوتين، وهناك من يطالب منذ سنوات بمحاكمة قادة آخرين مناوئين للغرب كالرئيس السوري بشار الأسد أو حتى الرئيس الإيراني الراحل إبراهيم رئيسي. لكن لم يكن ببال أحد أن تصل الأمور إلى مرحلة إصدار مذكّرات توقيف بحقّ اثنين من قادة "إسرائيل".

إصدار هذه المذكّرات يعني فتح الباب أمام تحقيقات متشعّبة وواسعة بالجرائم التي ارتكبت ضد الفلسطينيين، ومن الطبيعي أن تمتد الى ما هو أبعد من بنيامين نتنياهو ويوآف غالانت، أو أبعد من "إسرائيل" وصولاً إلى أطراف دوليّين ساهموا أو شجّعوا الاحتلال على ارتكاب جرائمه، ومن بين هؤلاء نجد في طبيعة الحال الولايات المتحدة ودول أوروبية بالإضافة إلى مؤسسات أوروبية كالاتحاد الأوروبي، وإذا كانت الولايات المتحدة خارج إطار المحاسبة أو المساءلة كونها ليست عضواً في محكمة الجنايات الدولية فإن وضع الدول الأوروبية مختلف تماماً.

انطلاقاً من هذا الواقع غير المعهود، اختار الأوروبيون الوقوف في نصف الطريق، وبخلاف هولندا والسويد وسويسرا وإيطاليا، التي أعلنت أنها ستنفّذ قرار المحكمة وتعتقل المجرمين الإسرائيليين في حال وجدوا على أراضيها، قدّمت الدول الأوروبية الكبرى، فرنسا وألمانيا وبريطانيا، نموذجاً مختلفاً من المواقف، صحيح أنها رحّبت ودعمت ما صدر عن لاهاي، لكنّ اقتصار الموقف على الترحيب والدعم الكلامي لا يتطابق مع روحية اتفاقية روما التي وقّعت عليها هذه الدول، والتي تنصّ على إلزامية الدول الأعضاء في محكمة الجنايات توقيف المتهمين على أراضيها.

ما هي تهمة الأوروبيين؟

هي حالة من الانفصام غير المعهود تمرّ بها هذه الدول، هي تدعم قرارات المؤسسة القانونية الدولية، وفي الوقت عينه يمكن أن تتقاسم الاتهام مع قادة "إسرائيل"، وفي هذا الإطار، نحن أمام مجموعة من الحقائق تثبت دور الأوروبيين في تشجيع "إسرائيل" على ارتكاب جرائم الحرب بحقّ الفلسطينيين:

1 ـــــ تحت شعار"حقّ إسرائيل في الدفاع عن النفس" الذي التزمت به الدول الأوروبية منذ 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023، والذي كرّره منذ ذلك التاريخ، قادة أوروبيون ورؤساء ونواب ووزراء وأحزاب سياسية مختلفة الاتجاهات، منح هؤلاء "إسرائيل" حقاً لا تنصّ عليه أيّ اتفاقية دولية، ومخالف بشكل صارخ للقانون الدولي الذي يقول "إن حقّ الدفاع عن النفس لا يشمل دول الاحتلال"، تحت هذا الشعار ارتكبت "إسرائيل" جرائم الحرب المنصوص عليها في قرار محكمة الجنايات الأخير، ولا سيما المتعلقة بمحاصرة الفلسطينيين وتجويعهم ومنع الغذاء والدواء والمساعدات المنقذة للحياة عنهم. 

2 ـــــ أمعنت الدول الأوروبية في تغطية جرائم الحرب الإسرائيلية مادياً، مخالفة بذلك القوانين الأوروربية ذاتها التي نصّت عليها اتفاقية الشراكة الثنائية بين الاتحاد الأوروربي و"إسرائيل" للعام 2000.

وتنصّ هذه الاتفاقية في أحد بنودها على الآتي: "يجب أن تبنى هذه الاتفاقية على مبادئ احترام حقوق الإنسان والمبادئ الديمقراطية التي تشكّل عنصراً أساسياً من هذه الاتفاقية"، واستناداً إلى هذا البند، جمّد الاتحاد الأوروبي عام 2012، العمل بهذه الاتفاقية والأسباب لم تكن القتل المباشر، وإنما كانت مرتبطة بحقوق الإنسان، كتوسيع الاستيطان وتجميد "عملية السلام في المنطقة" من قبل "إسرائيل".

واستمرّ تعليق العمل بهذه الاتفاقية عشر سنوات كاملة قبل ان يستأنف العمل بها عام 2022، وأثّرت بشكل كبير على الاقتصاد الإسرائيلي، كون الاتحاد الأوروبي يعدّ الشريك الأول لـ "إسرائيل" تجارياً بنسبة 28,8% من تجارتها الخارجية. 

ورغم الدعوات من دول أوروبية عديدة كأيرلندا وإسبانيا لتعليق العمل بهذه الاتفاقية منذ بدء العدوان الإسرائيلي على غزة، ورغم دعوات 160 منظّمة حقوقية أوروبية، وقرار محكمة العدل الدولية الصادر في 26  كانون الثاني/ يناير 2024 الذي أعلن عن وجوب اتخاذ تدابير مؤقتة بحقّ "إسرائيل" بسبب "تصرّفاتها التي تشكّل انتهاكاً للقانون الدولي"، فإن بروكسل أبقت على العمل بهذه الاتفاقية، علماً أن ما تجنيه "إسرائيل" من أموال من جرّاء التبادل التجاري مع الأوروبيين يساهم بتمويل العدوان المباشر على الفلسطينيين، فضلاً عن أن "إسرائيل" تستفيد بشكل واسع من اتفاقية التعاون التقني مع الاتحاد الأوروبي في تطوير ترسانتها العسكرية.

3 ـــــ وتأتي في المرتبة الثالثة، التصريحات العلنية لمسؤولين أوروبيين شجّعوا "إسرائيل" على قتل المدنيين الفلسطينيين، ونذكر منها تصريح وزيرة الخارجية الألمانية نالينا بريبورغ أمام البرمان الألماني في 16 تشرين الأول/أكتوبر الماضي، الذي قالت فيه إن لـ "إسرائيل" الحقّ بقتل المدنيين عندما يختبئ "الإرهابيون" بينهم، وبحسب القوانين الدولية، يعتبر استهداف المدني، مهما كانت الظروف جريمة حرب.

كيف سيتعامل الأوروبيون مع هذا المأزق الأخلاقي والقانوني؟ 

هم وضعوا أنفسهم منذ نحو 80 عاماً حرّاساً على تطبيق القوانين الدولية وحماية حقوق الإنسان و"معاقبة" كل من يخالف هذه القوانين، ويجدون أنفسهم اليوم في قفص اتهام خرق المعايير نفسها التي وضعوها بأنفسهم.

الموقف الأوروبي صعب للغاية، فمحاولة اعتراض المسار القانوني الدولي ستكون مكلفة جداً، ولا مبالغة بالقول إنّ الكلفة أنّ محكمة الجنايات تواجه خطراً وجودياً.