هل من مكاسب استراتيجية في السياسة الخارجية التركية
أثبتت تركيا أنها تستطيع اقتحام الساحات التي تمّ استبعادها فيها. لكنّ المقياس الحقيقي للقيادة ليس في إسقاط الآخرين، ولكن في بناء قواعد يرغب الآخرون في الجلوس فيها.
-
براغماتية السياسية الخارجية التركية في اصطياد الفرص.
لم تعد السياسة الخارجية لتركيا اليوم محدّدة بالاصطفاف السياسي بل من خلال الاعتماد على مصالحها وموقعها وعلاقاتها فهي تعمل من خلال الاستخبارات والثقافة وتوظيف طاقات حكمها ومصالحها وعلاقاتها– وجميعها تتمّ في شبكة معقّدة ومتعدّدة الأقطاب.
لعبت تركيا على التوازنات الإقليمية، واستخدمت حقّ النقض ضدّ التحالفات مع الناتو في مسألة قبول فنلندا والسويد، وفرضت شروطاً في مساحة العمل من شرق البحر الأبيض المتوسط إلى وسط أفريقيا.
وهي تفعل ذلك ليس فقط من خلال الدبلوماسية الرسمية، ولكن من خلال الاستخبارات الوطنية، والتي تعمل الآن كأصل استراتيجي استباقي كما فعلت قبل وبعد انتخاب دونالد ترامب كرئيس للولايات المتحدة.
براغماتية السياسية الخارجية التركية في اصطياد الفرص
عندما تمّ تشكيل منتدى شرق المتوسط للغاز في عام 2019، تمّ استبعاد تركيا حيث سعت اليونان وجنوب قبرص و"إسرائيل" ومصر وحلفاؤها الأوروبيون إلى إنشاء بنية جديدة للطاقة من دون أنقرة. كانت تركيا معزولة دبلوماسياً.
ولكن في غضون بضع سنوات لم يتوفّر لمشاريع خطوط الأنابيب التمويل وفشلت دبلوماسية الطاقة الإقليمية في التطور إلى هيكل أمني قابل للحياة وأصبحت التحالفات غير فعّالة، وأدّت أزمة غزة في عام 2023، وتقارب أنقرة المتجدّد مع القاهرة، والقلق الأوروبي بشأن أمن الطاقة، إلى إعادة تركيز تركيا الآن على المعادلة. وتبذل القنوات الخلفيّة جهوداً لإعادة دمج تركيا في إطار إقليمي متجدّد.
تهدف استراتيجية الطاقة التركية إلى تحقيق الاستقلال في مجال الطاقة، وتعزيز القدرة التنافسية العالمية، والحد من فقر الطاقة، كلّ ذلك مع تعزيز الاستدامة.
ومع ذلك، لا يمكن السعي إلى تحقيق هذه الأهداف بمعزل عن غيرها؛ يجب دمجها مع السياسات الخارجية والأمنية الأوسع نطاقاً التي تعزّز مكانة تركيا الإقليمية والعالمية. وسيكون تحقيق هذه الأهداف بشكل كامل وفي الإطار الزمني المطلوب عملية معقّدة محفوفة بالتحدّيات التكنولوجية والمالية والبنية الأساسية، وغالباً ما تتفاقم بسبب القيود العالمية.
وفي ليبيا ساعدت الطائرات من دون طيار التركية والمخابرات التركية في قلب الوضع لصالح حكومة طرابلس، ووقف تقدّم الجنرال حفتر. اليوم تتعامل أنقرة مع كلا الجانبين، ووجودها أكثر من مقبول.
وفي ناغورنو كاراباخ تمّت مساعدة أذربيجان عسكرياً في عام 2020 ضدّ أرمينيا ودعمتها تركيا ليس فقط عسكرياً ولكن أيضا من خلال التخطيط الاستخباراتي والاستراتيجي، وتركت فرنسا ومنظمة الأمن والتعاون في أوروبا على الهامش مما أرضى روسيا.
تتوسّط تركيا في عمليات تبادل السجناء بين روسيا وأوكرانيا، فهي حافظت على ممرات الحبوب، واستضافت محادثات عبر القنوات الخلفيّة في إسطنبول بين أجهزة الاستخبارات الروسية والأميركية، ووضعت نفسها كوسيط لا بدّ من وجوده.
أما في الصومال والنيجر وتشاد، فيتوسّع النفوذ التركي عبر المجالات الدفاعية والإنسانية والاقتصادية. تملأ وكالة الاستخبارات الباكستانية ووكالات التنمية التركية الفراغات التي خلّفتها فرنسا.
سوريا وجدلية الأمن والموقع الاستراتيجي
تسعى تركيا إلى إقامة قواعد عسكرية في سوريا براً وجواً وبحراً لتدريب الجيش السوري وتعزيز أمنها القومي الاستراتيجي لاستكمال محاربة الإرهاب كما تقول، وهي تراعي حركة "إسرائيل" التي لا تريد وجوداً لقوات مسلحة سورية تعمل على حدودها الجنوبية، حصل ذلك بعد حوار جرى في أذربيجان على ضمان منطقة عازلة.
ورغم الخطاب العلني للرئيس التركي رجب طيب إردوغان الذي يحذر فيه "إسرائيل" من مواصلة نشاطها العسكري في سوريا، فإنّ الأتراك غير مهتمين بالمواجهة مع "إسرائيل".
وهم حصلوا على منطقة عازلة بطول 30 كلم في الأراضي السورية، بعد أن اتفق الطرفان خلال المحادثات التي جرت في باكو على آلية دائمة لمنع الاحتكاك العسكري في سوريا.
التوافق مع "تل أبيب" ضرورة من أجل التفرّغ للمشاريع التنموية التي تستفيد منها الشركات التركية، لكنها في آن معاً قامت بعمليات ضدّ وحدات حماية الشعب، مما أدّى إلى تعقيد الجهود المدعومة من الولايات المتحدة لإضفاء الطابع المؤسسي على مناطق السيطرة الكردية. وتجري مفاوضات دبلوماسية لتحقيق الاستقرار في المنطقة، مع وضع الشروط التركية على الطاولة.
أما على صعيد العلاقة مع حماس وموقفها من حرب غزة فهي على الرغم من استبعادها من محادثات وقف إطلاق النار الرسمية، إلّا أنّ علاقاتها مع حماس تجعلها مؤثّراً رئيسياً وراء الكواليس في أيّ هدنة مستدامة.
هذا النموذج من السياسة يقف أمام مسارات مختلفة طموحة لكنها لا تتمتع بصفة الثبات، ولا سيما أنّ تقلّبات الأحداث يمكنها أن تقلب الموازين إذا لم تكن هذه السياسات مصمّمة استراتيجياً لبناء أطر عمل شاملة.
ولكن يجب أن تحقّق توازناً دقيقاً ولا سيما في سوريا. إذا بالغت أنقرة في اللعب، فإنها تخاطر بالخسارة لأنّ الآخرين قد تتغيّر مشاريعهم وظروفهم ولا يرغبون في اللعب معها. ولكي يكون البلد لا غنى عنه، يجب ألّا يكون قوياً فحسب، بل يجب أن يكون أيضاً بنّاءً ويمكن التنبؤ به.
أثبتت تركيا أنّها تستطيع اقتحام الساحات التي تمّ استبعادها فيها. لكنّ المقياس الحقيقي للقيادة ليس في إسقاط الآخرين، ولكن في بناء قواعد يرغب الآخرون في الجلوس فيها.
يبحث العالم عن البلدان التي يمكنها التوسّط والتصميم لكنّ الاستقرار في السياسة ضرورة. فهل يمكن لتركيا العمل على مزج استراتيجيتها وقدرتها على الردع مع شرعيّتها الإقليمية، بحيث إنها لا تبقى تفتعل المشكلات لكي يسمح لها في أن تكون موجودة عسكرياً وسياسياً في سوريا مثلاً، أم عليها مراعاة محيطها الإقليمي والاستعانة بقدرات تجعل الآخرين يبحثون عنها بحيث يصبح وجودها الإقليمي مفيداً للمحيط.