هل طبيعة الخليج السياسية تحمل خصوصية؟
تبديل صيغ الخطاب مع توجيه المضمون نفسه، يفضي إلى استنتاج واحد، أن الخطاب الرسمي يحمل الثقافة نفسها التي أتى بها.
ثمة تصارع قديم متجدّد بين مفهوم الديمقراطية ومفهوم الطبيعة الاجتماعية لدول الخليج، وهذا الصراع المفاهيمي نتاج تفاعل الأنظمة الخليجية مع حراك سياسي بدأته شعوب الخليج في عشرينيات القرن الماضي ولا يزال بشأن المشاركة في الحكم، على أثر ذلك الحراك تحرّكت الأجهزة الإعلامية الرسمية لإنتاج خطاب يقول: إن البيئة الاجتماعية للخليج مختلفة عن بقية البيئات، وبالتالي-بحسب هذه الدعوى- من غير الصحيح مطالبة هذه البيئة بتغيير مناخها التقليدي القائم على المشيخة وتراتبيتها إلى مناخ الديمقراطية ومفرزاتها.
سأسعى في هذا المقال إلى معالجة الموضوع من جانبين:
الأول: جوهر هذا الصراع وحقيقة دعوى الأجهزة الإعلامية الرسمية بخصوصية البيئة والطبيعة الاجتماعية التي تلقي بظلالها على السياسة ومصير الشعوب.
الثاني: حول أسباب تفتّت هذا الخطاب رغم عدم تغيّبه عن الطرح الإعلامي، ومصير هذه الجدلية مع المستجدات الإقليمية والعالمية المؤثرة في الداخل الخليجي.
أولاً: جوهر الصراع ودعوى الخصوصية:
يعتقد البعض أن الدعوى بوجود خصوصية لبيئة الخليج، هي بروبغندا سياسية بحتة يراد منها تغييب الصوت المعارض، وتحييد الحراكات الوطنية عن مضمونها، وتسهيل إلصاق العمالة الخارجية بها. ويذهب هذا الرأي للاستناد إلى عدة أمور، منها أن الديمقراطيات في العالم هي ديمقراطيات متعددة، تحمل لمسات وطنية تتناسب مع البيئة والظروف لكل بلد، فديمقراطية الهند تختلف عن ديمقراطية إيران، وهما تختلفان عن الديمقراطية الغربية التي تتباين مع ديمقراطيات أميركا اللاتينية.
فلا تعارض بين الاحتفاظ بالخصوصية بالقدر الذي لا يغلق على المواطنين كل الأبواب في المشاركة السياسية في الحكم وبين تحقّق مقدار الديمقراطية. الأمر الثاني الذي يستند عليه هذا الرأي أن دعوى الخصوصية منتفٍ، كون إحدى دول الخليج استطاعت أن تحافظ على خصوصيتها، وفي الوقت عينه فتحت باباً للمشاركة السياسية وهي دولة الكويت، الأمر الذي يهدم هذه الدعوى ويقوّض مبانيها.
ثم إن الخصوصية التي تروّج لها الأجهزة الإعلامية لبعض دول الخليج تذهب إلى سيادة "بشت" الشيخ على قيمة مصير المواطنين، الذين هم-حُكماً- أقل درجة من عائلات الحكم، وهذا يحيلنا إلى أن الدعوى هي في أساسها نتاج جوهر الصراع السياسي بين الشعوب الخليجية وبيوتات الحكم. فالسياسة القائمة على حكم القبيلة وتسيّدها على المشهد السياسي ومفرزاته لا تزال قائمة حتى وإن شارفنا على الدخول في الربع الثاني من القرن الواحد والعشرين.
صحيح أن حكم القبيلة لم يعد كما كانت بداياته في الخليج، حيث كانت "الفداوية" تجمع الضرائب الظالمة من أصحاب المهن من دون وجه حقّ، وتفرغها في خزينة "الشيخ" الذي لا يفعل شيئاً غير ما يمليه عليه المندوب البريطاني وقتذاك، التغيّر بين الماضي والحاضر تغيّر فني وشكلي، وإذا زاد عن هذين المجالين، فهو تغيّر طفيف على مستوى الواقع السياسي، وعليه، فإن دعوى الخصوصية هي فعلاً بروبغندا سياسية لا معنى عميقاً لها، ولا مدلول فكرياً يقوّمها، ولا واقع من تاريخ البشر يؤيّدها.
ثانياً: تفتت خطاب الخصوصية ومصيره:
طوال العقود السبعة الماضية، حيث نشط حراك سياسي في بعض جغرافيا الخليج، وأفرز عوامل تعرية لشتى أنواع الدعاية السياسية التي تقوم بها الأجهزة الإعلامية التابعة لأنظمة الحكم، ومن أحد أبرز عوامل التعرية هو تأثّر الخطاب الرسمي القائم على جدلية "خصوصية الطبيعة الخليجية"، صحيح أن هذا الخطاب لم يغب حتى الآن، لكن تغيّرت نبرته وأدواته، وبات يسوّق نفسه بطرق مختلفة.
أذكر هنا أحد أبرز المفارقات بين الماضي والحاضر في ترويج هذه الدعوى، ففي السابق، يروّج أن الوطن في خدمة الحكم وأجهزته، فتغيّر الخطاب إلى أن الحكم في خدمة الوطن، وكلاهما يُساق إلى النتيجة نفسها، أنه ينبغي الحفاظ على هذا "الحكم وطبيعته" وأن نحمي خصوصيته، ولا نقحم ثقافات مستوردة في تقويض هذه الطبيعة التي تكاد أن تكون مقدسة.
تبديل صيغ الخطاب مع توجيه المضمون نفسه، يفضي إلى استنتاج واحد، أن الخطاب الرسمي يحمل الثقافة نفسها التي أتى بها، ويريد ترسيخها بعدة طرق، ويحاول الالتفاف عبر أساليبه المستحدثة على زيادة نسبة وعي الشعوب وفهمهم للألاعيب السياسية وخدعها.
لكن حتى الأساليب الجديدة تُواجه بعوامل تعرية جديدة، وثقافة الشعوب هي الأصل، وليست ثقافة بيوتات الحكم التي بعضها لم يكن أصيلاً في البلد الذي يحكمه، إنما جاءوا بسبب الهجرات التي تقوم بها القبائل العربية للكلأ والمرعى.
لا ننس أن الإمبريالية العالمية وقتذاك وهي بريطانيا كانت عاملاً حاسماً في ترسيخ هذه البيوتات في الخليج، وعليه ثمة تباين بين ثقافتين لا مناص من الاعتراف به والتعامل وفق ما ينتجه من تداعيات.
ليس من الضروري أن يحتدم صراع وجودي طاحن بين بيوتات الحكم وشعوب الخليج لفهم ذلك التباين، فالأمران غير متلازمين، إلا أن فهم البرزخ الذي يفصل الثقافتين يؤدي بالضرورة إلى تمسّك الشعوب بقيمتها البشرية، والتي تترجمه في حراكات سياسية وحقوقية وإعلامية تفضي إلى نتائج سياسية ذات فوائد ملموسة ومقدّرة.
وقد تنبّهت بعض المشيخات إلى هذه المحطة التي وصلت إليها الشعوب، فقامت بتوليد قضايا عديدة للمشاغلة، كالوضع المعيشي، الذي تشهد بعض دول الخليج انتفاخاً فيه، فيكون مخدّراً عن القضايا الأخرى، وتشهد دول خليجية أخرى نقصاً حاداً فيه فيكون عصاً مؤلمة ينشغل بها الناس عن أمورهم المصيرية الأخرى.
التحديات في ظل المتغيّرات العالمية
صحيح أن ثمة وعياً عند الشعوب للخطاب الرسمي في دول الخليج، ومعرفة واضحة لفخاخه وخدعه، وهناك تطوّر لافت في الوعي الحقوقي لدى نخب خليجية، وهذا يلقي بظلاله على الجدلية التي نحن بصدد معالجتها، وهي "دعوى الخصوصية لطبيعة الخليج السياسية". وقد ذكرت أن عوامل التعرية سدّت الأبواب على هذه الجدلية، لكن مع كل ذلك، فإن التشتت الذي غرقت فيه المعارضة الخليجية لا يعطي مؤشرات حقيقية على أنّ ثمة نهوضاً على المدى القريب سيحصل.
فوعي الشيء وحده لا يكفي لتجنّب أضراره، وإذا ما وعت بعض النخب الخليجية طبيعة بيوتات الحكم في الخليج وخدع خطاباتها الإعلامية، فإن هذا لا ينفي أن تلك الأنظمة متقدمة على القوى المعارضة بأشواط في مسألة التشتيت السياسي الذي تمارسه.
ومن الأمثلة على ذلك أنّ فصائل المعارضة السعودية، انشغلت بالتقاذف في ما بينها، وخفتت عن أي حراك فاعل تجاه النظام السعودي، فيما استطاعت الكويت أن تدخل الشقاق في فئة البدون نفسها، مما أضعف هذه الفئة، وصيّرت المعارضة الكويتية معارضة ناعمة مخملية، فيما لا نصير لأي معارض قطري أو إماراتي يخرج رأسه للانتقاد، لأنه يغيب ولا يسأل عنه أحد، والمعارضة الفاعلة الوحيدة في الخليج هي المعارضة البحرينية التي تعاني من موارد نقص كثيرة نفصّلها في معالجات مقبلة.