نشوء السلالات السياسية الأميركية

في ضوء سمات التشكيل "الاستيطاني" الأميركي المبكر، مثّلت القضايا الأساسية والاهتمامات الرئيسة جوهر التجربة التاريخية الاستيطانية الممتدة، وتشكلت حولها أيديولوجيات وسلالات سياسية عبر التاريخ الأميركي .

  • كانت الفيدرالية أكثر كفاءة من الكونفيدرالية في تعهد المشروع الاستيطاني الإمبراطوري.
    كانت الفيدرالية أكثر كفاءة من الكونفيدرالية في تعهد المشروع الاستيطاني الإمبراطوري.

منذ أيام، قال دونالد ترامب الرئيس الأميركي السابق والمرشح الجمهوري للانتخابات الرئاسية القادمة في تشرين الثاني القادم: "إذا لم ننتصر، فستبدأ حرب عالمية ثالثة"! عبارة قصيرة، لكنها كاشفة، ليس عن استقطاب سياسي وأيديولوجي حاد داخل الديمقراطية الأميركية فحسب، بل أيضاً عن سلالتين سياسيتين متضادتين في النزال الانتخابي الدائر: العولمة والهيمنة مقابل الانعزالية التقليدية!

تُجمِل هذه العبارة الانقسامات الأميركية بين النخبوية والشعبوية، والفيدرالية والكونفيدرالية، والإمبريالية التدخلية مقابل الانعزالية والانكفاء، والتمركز العرقي الأوروبي وسياسات الهجرة، وقيم المحافظة التقليدية مقابل ليبرالية اجتماعية، وحرية التجارة والإنتاج في الخارج مقابل الحمائية والإنتاج محلياً.

خلاصة عبارة ترامب أن سياسات العولمة والتدخل الخارجي لإدارة بايدن والنخب الديمقراطية، وخصوصاً سياسات الاحتواء والتطويق والحرب الباردة لاستنزاف روسيا (في أوكرانيا) والصين (في تايوان) ستنتهي إلى حرب عالمية ثالثة!

عانى المجتمع الاستيطاني في أميركا الشمالية، ثم الولايات المتحدة، منذ ولادتهما انقساماً وصراعاً بالغاً ما بين الطوائف الدينية والأيديولوجيات السياسية وصلت إلى الحرب الأهلية بين الشمال والجنوب (1861-1865)، قُتِل فيها 750 ألف جندي، وسقط عدد هائل من الضحايا من المدنيين، ووقع دمار هائل.

الاستيطان بوتقة الانصهار

بدأ تاريخ الولايات المتحدة في أوروبا قبل أن تُعرف قارة أميركا، وفي أميركا قبل وصول المستوطنين الأوروبيين، فقد دخلت أوروبا في زمن كولومبوس عهداً جديداً من "التمدد واستكشاف" العالم، لكن بطريقة أوروبية خالصة، وصولاً إلى آفاق بعيدة لم تصلها من قبل. كانت الآمال التي جاءت بها جماعات المستوطنين الأوروبيين من "العالم القديم" إلى "العالم الجديد" مختلفة قدر اختلاف أممها وشعوبها.

لكن ما كان يعني بالنسبة إلى المستوطنين الأوروبيين نجاحاً وتكوين إمبراطوريات، كان يعني بالضرورة بالنسبة إلى أهل البلاد الأصليين (الهنود الحمر) إبادة وصراعاً دموياً ممتداً وخاسراً من أجل البقاء والحفاظ على الأرض والوجود.

سيطرت على المستعمرات نخب تعكس مصالح اقتصادية واهتمامات دينية كامنة وراء مشروعات الاستيطان تراوحت بين رجال دين بيوريتان وكبار الأثرياء وملاك الأراضي وشركات الاستثمار والتجارة من الطبقة الإنكليزية "الميركانتيلية" والمغامرين وقليل من المثقفين تلقوا تعليماً عالياً آنذاك، لكن بانخراطها في المجتمع "الاستيطاني" الجديد، فقدت معظم جماعات المهاجرين -على اختلاف أرومتها- كثيراً من سماتها وتقاليدها، مع بعض الاستثناء.

مسائل الاجتماع الاستيطاني 

في ضوء سمات التشكيل "الاستيطاني" الأميركي المبكر، مثّلت القضايا الأساسية والاهتمامات الرئيسة جوهر التجربة التاريخية الاستيطانية الممتدة، وتشكلت حولها أيديولوجيات وسلالات سياسية عبر التاريخ الأميركي ومسارات تشكل الولايات المتحدة ومآلاتها:

- الخروج من مجاعات أوروبا وفقرها وبؤسها إلى أرض الميعاد الجديدة.

- التحرر من عسف واستبداد ملوك أوروبا وممارسة الاستقلال الذاتي.

- التحرر من اضطهاد الكنائس الرسمية وتكوين طوائف دينية وكنائس مستقلة.

- تحقيق المجد والقوة والثروة ومشروعات إمبراطورية وتمدد على حساب إمبرياليات أوروبا.

- الاعتقاد بالاستثناء الأميركي والاصطفاء الإلهي وفرادة التجربة والثورة الأميركية في الأجندة الإلهية.

- كرست حروب المستوطنين ضد بريطانيا الحق في التسلح، وتكوين ميليشيات مسلحة، ومبدأ الأمن الذاتي، وسيادة الفرد على أرضه وممتلكاته.

ما زالت هذه المسائل تشغل التفكير السياسي الأميركي لدى نخب المستوطنين وعامتهم. وبناء عليها، تكونت الأيديولوجيات والسلالات السياسية، وتطورت النزعات الإمبريالية والانعزالية على حد سواء.

سلالات التفكير السياسي

بعد نجاح ثورة المستوطنين على بريطانيا، صادقت 13 ولاية على دستور 1781 الكونفيدرالي، وأقيمت حكومة مركزية لتخلف الكونغرس القاري (1775-1781). تعلمت الولايات الأميركية وعامة المستوطنين البيض من تجربتها مع الحكم البريطاني أن تشك دائماً في سلطات الحكومة المركزية، فكانت الولايات تفضل حكومة مركزية ضعيفة لا تنافس أو تتجاوز السلطات المستقرة لحكومات الولايات، ما أضعف سلطات الحكومة المركزية المنصوص عليها في الدستور الكونفيدرالي.

وقد أعطيت لحكومات الولايات سلطات واسعة ومستقلة عن الحكومة المركزية. وإذ ثبت عدم كفاءة صيغة الحكم الكونفيدرالي لإدارة مصالح البلاد المستجدة، أفلحت الجهود في إلغاء الدستور الكونفيدرالي ووضع دستور جديد يقيم اتحاداً فيدرالياً يتلافى أوجه ضعف النظام الكونفيدرالي السابق.

عام 1787، عُقد مؤتمر دستوري لصياغة دستور فيدرالي لإقامة حكومة مركزية فاعلة تختلف عن الحكومة المركزية الكونفيدرالية السابقة. كان أبرز الداعين إلى حكومة مركزية قوية في المؤتمر ألكسندر هاملتون، وقاد جيمس ماديسون (أبو الدستور) المناقشات وسجل محاضرها، وطرح مبادرة الولايات الأكبر سكانياً إقامة مجلس كونغرس واحد يعكس تمثيل أوزان الولايات السكانية.

كانت غالبية حضور المؤتمر مثقفين صغار السن من كبار الملاك والمحامين المشهورين المحافظين من دعاة الفيدرالية، يمثلون طبقة كبار الملاك ذات المصلحة في إيجاد حكومة مركزية قوية. عالج المؤتمر قصور الدستور الكونفيدرالي، بما يؤدي إلى إقامة دولة مركزية فعالة ووحدة قوية، وبدت الصيغة الجديدة حكومة عملية فعالة.

أسفر المؤتمر عن "تسوية كبرى" تجمع بين نظامي التمثيل السكاني النيابي المفضل للولايات الكبرى: مجلس النواب، ومجلس شيوخ لتمثيل الولايات على قدم المساواة من دون النظر إلى أوزانها السكانية. رغم إقرار الدستور الفيدرالي الجديد في أيلول 1787، أسفرت الساحة السياسية عن نخبتين متمايزتين:

 -  نخبة فيدرالية تدعم الدولة المركزية القوية، أبرز رموزها جون آدمز، الرئيس الثاني للولايات المتحدة، ووزير المالية ألكسندر هاملتون. وقد أسس الأخير "الحزب الفيدرالي" (1792-1816). 

-  نخبة تعارض الفيدرالية وتدعم سلطات الولايات، أسس حزبها "الجمهوري الديمقراطي" الرئيسان الثالث توماس جفرسون والرابع جيمس ماديسون في 1793، وسيطر الحزب على مقاليد الأمور بين 1800 و1824، حتى انقسم إلى مجموعات متنافسة، إحداها الحزب الديمقراطي (المبكر)، الذي تمخض عنه الحزب الديمقراطي الراهن، والذي يُعتبر جفرسون أباه الروحي. حافظ الرئيس الأول جورج واشنطن على استقلاله طيلة سنوات رئاسته، رغم كونه أقرب إلى الفيدراليين.

رغم انفراط الحزب الفيدرالي بعد حرب 1812 الأميركية البريطانية، وانهيار مصداقية الفيدراليين المحسوبين على بريطانيا، لم تتوارَ الفكرة الفيدرالية دستورياً وسياسياً، واستمرَّت سيرتها فاعلة على يد القاضي جون مارشال الفيدرالي القناعات والانتماء. وقد عينه الرئيس الفيدرالي الوحيد في التاريخ الأميركي، جون آدمز، رئيساً للمحكمة العليا في 1801 واستمر حتى 1835.

أدّت المحكمة العليا دوراً بارزاً في التأسيس القانوني للحكم المركزي، ودعم مارشال نظريات الفيدراليين، وأصدر أحكاماً في قضايا دستورية عديدة، ولم يَحِد أبداً في قراراته عن مبدأ "سيادة الحكومة الفيدرالية"، بل كان يرى أن الدستور يعطي الحكومة سلطات ضمنية، إلى جانب السلطات الصريحة. وهكذا، ترك مارشال أثراً بالغاً في دور المحكمة العليا وسيرتها في سياق سعيه لجعل الحكومة الفيدرالية قوية وفعالة.

كانت الفيدرالية أكثر كفاءة وفاعلية من الكونفيدرالية في تعهد المشروع الاستيطاني الإمبراطوري، وانتصرت في النهاية رغم صغر معسكرها واختفاء حزبها مبكراً.

مبدأ مونرو

من ناحيته، انحاز الحزب الجمهوري الديمقراطي إلى الفلاحين، ومنحهم الأولوية قبل مصالح الصيارفة والصناعيين والتجار، بيد أنه شمل نطاقاً واسعاً من وجهات النظر حول قضايا التجارة والأشغال العامة والتصنيع. وتمايز داخله جناحان على الأقل: جناح الشمال بزعامة ماديسون، المنفتح أكثر على هذه القضايا، مقارنة بجناح الجنوب بزعامة جفرسون.

في عهد الرئيس الجمهوري الديمقراطي جيمس مونرو (1817-1825)، أيدت الولايات المتحدة استقلال أقطار أميركا اللاتينية عن إسبانيا والبرتغال بدءاً من 1822، وأعلنت معارضتها التامة لأي تدخل أوروبي في شؤون الأميركتين، وهو "مبدأ مونرو"، الذي جسد أحد أهم التطلعات الأميركية للانفراد بالقوة والنفوذ والتجارة في أميركا الوسطى والجنوبية، وإخراج دول أوروبا من النصف الغربي للعالم.

اتخذت الولايات المتحدة من مبدأ مونرو أساساً لمنع تدخّل الدول الأوروبية في شؤون أميركا الجنوبية وتبرير سياستها الانعزالية، فيما جعله الرئيس ثيودور روزفلت ذريعة للتدخل في شؤون أميركا الجنوبية مطلع القرن العشرين، عندما دعم انفصال إقليم بنما عن جمهورية كولومبيا للسيطرة على مشروع قناة بنما بعد فشل الفرنسي فرديناند ديليسبس في إنجازها.

للحديث بقية حول بزوغ الشعبوية والديمقراطية الجديدة والخريطة الأيديولوجية للسياق الانتخابي الراهن.