من التوافق إلى الشراكة الاستراتيجية: التدرّجية المتصاعدة للعلاقات الجزائرية-الروسية
لم يحدث أن حادت الجزائر عن مجرى علاقاتها مع روسيا أو تنازلت عنه، بالرغم ممّا طالها من ضغوطات وانتقادات غربية من جرّائه، اشتدّت منذ بدء العملية العسكرية الروسية الخاصّة في أوكرانيا.
تندرج علاقات الجزائر بروسيا في خانة العلاقات التي يطبعها التوافق في التصوّرات الاستراتيجية بين الدولتين، والتي تتسم بقدر من الثبات والتدرجيّة في سيرورة تطوّرها يندر أن نقع على مثليهما في علاقات الجزائر مع الدول الكبرى في المنظومة الدولية.
ولم يحدث أن حادت الجزائر عن هذا المجرى لعلاقاتها مع روسيا أو تنازلت عنه، بالرغم ممّا طالها من ضغوطات وانتقادات غربية من جرّائه اشتدّت منذ بدء العملية العسكرية الروسية الخاصّة في أوكرانيا في شباط/فبراير 2022.
وبمناسبة زيارة الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون إلى موسكو، وقّع البلدان وثيقة جديدة "للشراكة الاستراتيجية المعمّقة" ستوسّع وتعمّق الوثيقة السابقة التي سبق أن وقّعا عليها في نيسان/أبريل 2001. ومما ينتظر أن تسفر عنه الوثيقة الجديدة، مدّ مجالات الشراكة الجزائرية-الروسية نحو مجالات اقتصادية أكثر على أمل مضاعفة التبادلات التجارية بين البلدين التي تبلغ الآن 3 مليارات دولار سنوياً.
فلننوّه بداية إلى أنّ التقارب بين الجزائر والدول الأوروبية منذ منتصف 2022، وكذا الزيارات المتتالية للمسؤولين الأميركيين إلى الجزائر، قد كوّنا انطباعاً لدى الكثير من المحللين مفاده أن الضغط الغربي نجح في كسر التقارب التقليدي بين الجزائر وروسيا، بالأخصّ بعد توقيع اتفاقيات ضخّ كمّيات إضافية من الغاز الجزائري نحو أوروبا عبر إيطاليا، بيد أنّ زيارة تبون إلى موسكو، وتأكيده تطابق الرؤى الجزائرية والروسية، وسعي الجزائر الحثيث لأن تكون عضواً في تكتل البريكس، هي مؤشّرات لا تخطئها أعين الملاحظين تبدّد الانطباع السابق وما انبثق عنه من تخمينات.
فلنقل بداية إنّ المنطق الذي تصدر عنه علاقة الجزائر بروسيا فيه عدم إذعان لتلك القاعدة التي تريد الدول الغربية فرضها على دول العالم الأخرى: ففي حين لا تتوانى هي عن تبنّي سياسات وفقاً لما يتماشى ومصالحها، فإنها تعتبر–على نحو مثير للاستغراب-أنّ باقي الدول مطالبة ببناء سياساتها وفقاً لإملاءات الغرب ورغباته!
الواقع أنّ الثبات في العلاقات الجزائرية-الروسية وما أثمر عنه من شراكة استراتيجية بين البلدين، هو محصّلة سيرورة تاريخية لم تتوقّف منذ اعتراف الاتحاد السوفياتي بالحكومة الجزائرية المؤقتة التي أسّست إبان الثورة التحريرية في العام 1958، والذي تلاه اعترافه بالجمهورية الجزائرية فور استقلالها في تموز/يوليو 1962.
في المقابل، ظلت الجزائر المستقلة وفيّة للدعم السياسي والعسكري والدبلوماسي السوفياتي الذي تلقّته خلال ثورتها التحريرية، وكانت من أوائل المعترفين بالفدرالية الروسية في 26 كانون الأول/ديسمبر 1991 بعد يوم واحد من إعلان تأسيسها على أنقاض الاتحاد السوفياتي.
حتى خلال الحرب الباردة، وبالرغم من تمسّكها بخيار عدم الانحياز، عُدّت الجزائر أقرب إلى الكتلة الشرقية بالنظر إلى خياراتها الاستراتيجية والاقتصادية الكبرى التي مالت كلّها إلى الاشتراكية ومنحت أفضلية في التعامل للسوفيات الذين كان إسهامهم بارزاً وقوياً في بناء اقتصاد الجزائر المستقلة.
لتوضيح هذا، من المجدي أن نذكّر أنّ التعاون الاقتصادي والتجاري بين روسيا والجزائر دُشّن في ستينيات القرن الماضي، وحدث ذلك بمناسبة منح الاتحاد السوفياتي الجزائر قروضاً بقيمة ملياري دولار لاستنهاض التنمية الوطنية واستقباله آلاف الطلاب الجزائريين لتلقّي العلوم في الجامعات السوفياتية.
كما لا ينبغي إغفال المساهمة الفعّالة للحكومة السوفياتية في بناء القاعدة الصناعية الجزائرية خلال ستينيات وسبعينيات القرن المنصرم، ومساهمتها أيضاً في تطوير فروع الاقتصاد الجزائريّ في قطاعات الطاقة والتعدين والمياه، كما أنجزت مشاريع كبرى في شتى فروع الاقتصاد الجزائري بمساعدة الاتحاد السوفياتي، على رأسها المصنع الضخم للحديد والصلب في الحجار (600 كلم شرق العاصمة الجزائر).
في بداية الألفية، ارتقت العلاقات الجزائرية-الروسية إلى مصاف "الشراكة الاستراتيجية" التي أبرمت وثيقتها التأسيسية في نيسان/أبريل 2001، شراكة تعزّزت أكثر في 2006 بعد زيارة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلى الجزائر التي أثمرت اتفاقاً بين الجزائر وموسكو يقضي بإلغاء الديون الروسية المستحقّة على الجزائر (تعود إلى حقبة الاتحاد السوفياتي) مقابل التزام الجزائر بشراء أسلحة روسية. وقد كانت الشراكة الاستراتيجية مع الجزائر أول شراكة من هذا النوع تبرمها روسيا مع دولة أفريقية.
بعدها بسنة، وفي ختام زيارة الرئيس الجزائري السابق عبد العزيز بوتفليقة إلى موسكو، أبرمت الجزائر صفقة بقيمة 7.5 مليارات دولار لشراء طائرات حربية مقاتلة ومقنبلة، طائرات تدريب، دبابات، رادارات، أنظمة دفاع جوّي، صواريخ مضادة للطائرات وكميات أخرى من العتاد، إضافة إلى صيانة جزء من ترسانة الجزائر وسفنها الحربية روسية الصنع.
وقد كانت تلك الصفقة في وقتها أكبر صفقة تصدير للأسلحة أبرمتها روسيا منذ تفكّك الاتحاد السوفياتي، فأصبحت روسيا بموجبها أول وأكبر مصدّر للسلاح نحو الجزائر، كما صارت الأخيرة بموجبها ثالث أكبر زبون في العالم يستورد الأسلحة الروسية بعد كل من الصين والهند.
وكنتيجة لوتيرة الشراكة هذه، أضحت روسيا اليوم أهم شريك عسكري بالنسبة للجزائر ومورّدها الأول بالأسلحة والأنظمة العسكرية. ونشير في هذا السياق إلى أنّ الجزائر استوردت أكثر من 80% من معدّاتها وحاجاتها العسكرية من روسيا خلال السنوات الثلاث الماضية، كما شاركت بانتظام في المناورات العسكرية التي نظّمها الكرملين والتي كان آخرها العام الماضي في شرق روسيا تحت اسم "فوستوك 2022".
أما اليوم، فإنّ كلّاً من الجزائر وروسيا لا تخفيان طموحهما إلى إعطاء ديناميكية جديدة للشراكة الاقتصادية بينهما. ويبدو أنّ الجانب الجزائري قد حدد بالفعل المجالات المستهدفة التي يرجح أن تشهد زيادة في وتيرة التبادل بين البلدين بموجب وثيقة "الشراكة الاستراتيجية المعمّقة" وهي -على وجه الخصوص-الزراعة، الصناعات الغذائية، المعادن والمنتجات الصيدلانية، ناهيك بقطاعات الصناعات العسكرية والطاقة النووية السلمية.
تلكم هي التدرّجية التي سارت وفقها العلاقات الجزائرية-الروسية، وذلكم هو المنشود من الشراكة المرتقبة، وإنّ الاعتماد على مسارها المتصاعد وعلى حرص البلدين على استمراره طيلة 60 سنة ونيف، سيقودنا لا محالة إلى عدم استغراب التعزيز المرتقب للعلاقات الروسية-الجزائرية في المدى القصير.
على نحو موازٍ، وإن لم تستعرض الفقرات السابقة التدرّجية التاريخية للعلاقات الجزائرية-الروسية إلا لماماً، فإنّ ما جاء فيها من إيضاحات تاريخية مختصرة كافٍ في اعتقادنا لاستخلاص استنتاجين رئيسيين بخصوص هذه العلاقات يمكن أن يتخذا كقواعد تفسيرية لفهم راهنها ومستقبلها.
أوّل هذه الاستنتاجات أنّ تدرّجية العلاقات الجزائرية-الروسية سارت بالدولتين إلى توافق في تصوّراتهما الاستراتيجية الكبرى، ومع مرور الوقت، صار هذا التوافق المحدّد الأساسي لتعميق الشراكة بينهما. ونقصد بالتوافق في التصوّرات الاستراتيجية بين الدولتين توافقهما –من جهة-في تشخيص حال المنظومة الدولية الراهنة كمنظومة هيمنة تنزع إلى الأحادية القطبية، وفي ضرورة تعديل هذه المنظومة نحو بنية متعدّدة الأقطاب تكون أكثر عدالة واحتراماً لمصالح وهويات الدول التي لا تنتمي إلى المنظومة الغربية.
إنهما من هذه الزاوية يتفقان في تقديم نفسيهما كدولتين مرجعيتين غير قانعتين، ترفضان الأمر الواقع الذي تفرضه قوى الهيمنة، وإن هذا ما يحفّز إصرار الجزائر على الانضمام إلى تكتل البريكس.
ثانياً، أنّ المنشأ الأول للعلاقات الجزائرية-الروسية هو منشأ صداقة لا عداوة. إنه لم يحدث أن كانت الجزائر وروسيا عدوّتين، كما لم يحدث أن تخلّتا عن صداقتهما التي تأسست زمن الثورة التحريرية الجزائرية. وقد أسّست هذه الصداقة احتراماً متبادلاً ما انفك يتعزّز ويتطوّر طيلة 6 عقود، فكانت بذلك القاعدة التي يسّرت التوافق بين الدولتين وخوّلت تطويرها إلى شراكة استراتيجية عميقة.
فلنستعِنْ بمثال العلاقة مع فرنسا لفهم هذا المحدّد: إن منشأ العلاقة بين الأخيرة والجزائر هو منشأ عداوة، ومهما بذل ويبذل من جهود في سبيل تجاوز الطبيعة الأولى لمنشأ العلاقة فإنها سرعان ما تؤول إلى الفشل.
أخيراً، وقياساً إلى هاتين القاعدتين، فإنّ المرتقب من الشراكة الاستراتيجية المعمّقة بين الجزائر وروسيا هو حتماً مزيد من التشابك في العلاقات والمصالح، ومزيد من التنسيق على المستوى الثنائي وضمن الفضاءات متعددة الأطراف إقليمياً وعالمياً، وإن حافز تحصيل مزيد من القوّة والمكانة إقليمياً وعالمياً سيشكّل دافعاً آخر لكليهما نحو تسريع تنفيذ مضامين وثيقة الشراكة الجديدة.