مرتكزات الخطاب الإعلامي للمقاومة ما بعد مسيرة الأعلام
لم ينتج الإحباط بناء على واقع المقاومة الحقيقي وإمكاناتها على الأرض وإنجازاتها ولكن بناءً على واقع مصطنع.
لا سياسة من دون تواصل إعلامي مع الجماهير، وما من تواصل سياسي من دون توافر خطاب سياسي يستفيد من تطور الوسائل الإعلامية للوصول إلى أوسع شريحة من الجمهور المتلقي. ومن خلال الخطاب السياسي الجامع بين مفردات السياسة وأدوات الإعلام، يقوم القادة السياسيون ببلورة ما يسمّى عملية "إنتاج الواقع" لدى الجماهير، وما يعني تالياً أن أيّ تهويل أو مبالغة في الخطاب السياسي لأي مجموعة سياسية، سينعكس حتماً على موضوعية رؤية الجماهير لحقيقة الواقع القائم فعلاً، وهو ما سيخلق واقعاً افتراضياً ترتفع به توقعات الجماهيرإ بما يوافق الواقع المصطنع إعلامياً ولكنه في الوقت نفسه يعاكس الواقع الفعلي الحقيقي، وهنا يسقط الخطاب الإعلامي في فخ عدم الصدقية، وما يتبعه من إحباطات وخيبة أمل لدى القواعد الجماهيرية، حتى ولو كان الواقع الفعلي مملوءاً بالإنجازات، فسيبقى معيار الجماهير للقياس هو الواقع المصطنع إعلامياً لا الواقع الحقيقي.
تعد مسيرة الأعلام الإسرائيلية في 29/5/2022 في مدينة القدس نموذجاً واضحاً لما يمكن أن ينتج من خيبة أمل هي في اعتقادنا ليست نتاج واقع المقاومة الحقيقي وفعلها في الميدان، وإمكاناتها على الأرض وإنجازاتها في ساحة المعركة، ولكنّ نتاج واقع مصطنع من خلال خطاب سياسي إعلامي اتّجه نحو المبالغة والتهويل، وتقديم المقاومة على أنها قوة عسكرية كبيرة قادرة في أي وقت، وفي كل ظرف وتحت أي لحظة سياسية على أن تهزم "إسرائيل".
وابتعد هذا هذا الخطاب عن فكرة أن المقاومة في حدّ ذاتها غير مطلوب منها كل ذلك، وأنها مبنية على فكرة امتلاك شعب لإرادة القتال ضد احتلال يفوقه بمراحل كثيرة في موازين القوة العسكرية.
وبالتالي فإن إنجازات المقاومة تراكمية وهزيمة الاحتلال تدريجية بالنقاط وليست بالضربة القاضية، لذلك مجرد بقاء إرادة المقاومة لدى الشعب الفلسطيني على مدار ما يقارب قرناً من الزمان هو أكبر دليل على قوة المقاومة الفلسطينية.
للخروج من حالة الإحباط التي أصابت كثيراً من الشعب الفلسطيني يتطلّب من المقاومة الفلسطينية إعادة تصويب خطابها السياسي والإعلامي، خصوصاً أن ما حقّقته المقاومة الفلسطينية بعد معركة "سيف القدس" يمنحها كثيراً وكثيراً من مفردات الخطاب السياسي الواعي ذي الصدقيّة، والزاخر بالإنجازات الفعلية، التي تعدّ محطات إيجابية مهمة لمصلحة الشعب الفلسطيني في طريقه صوب التحرير من نير الاحتلال الصهيوني.
لذلك نعتقد أن اعتراف قادة المقاومة في خطابهم السياسي الإعلامي بأن هناك معارك من الممكن أن تحبط فيها المقاومة، أو تفضّل عدم خوض غمارها في لحظة ما، وأن يحقّق الاحتلال بعض الإنجازات، شيء طبيعي جداً، ولا ينتقص من قدرات المقاومة وإنجازاتها، خصوصاً إذا احتاج الاحتلال إلى تجنيد قوته الكاملة لتحقيق ذلك، كما حدث في مسيرة الأعلام، التي عكفت "إسرائيل" على الإعداد لها على مدار اثني عشر شهراً بعد انقضاء معركة "سيف القدس"، ولزمها تحشيد قوتها السياسية والعسكرية والأمنية الكاملة للوصول إلى اللحظة، التي توافقت فيها كلّ المكوّنات الإسرائيلية على ضرورة أن تسيير مسيرة الأعلام الصهيونية للخروج من السياق الخطر، الذي فرضته عليها نتائج معركة "سيف القدس"، التي أحدثت متغيّرات لمصلحة المقاومة الفلسطينية؛ متغيّرات إذا استمرّت في المراكمة عليها، فستتحوّل من تهديد إستراتيجي إلى تهديد وجودي للكيان الموقت "إسرائيل".
ويكفي أن ندرك أن إعادة الضفة الغربية، جبهة قتال في وجه الاحتلال، وما حقّقته المقاومة في الأشهر الأخيرة في الضفة من إنجازات غير مسبوقة في السنوات الخمس عشرة الماضية، مثّل صدمة إستراتيجية لـ"إسرائيل"، تسعى بكلّ قوتها العسكرية والسياسية والأمنية للتعامل مع هذا المتغيّر الإستراتيجيّ الجديد، الذي أفقد مستوطنيها الشعورَ بالأمن، فضلاً عن توحيد الجبهات الفلسطينية، بما فيها جبهة فلسطينيي عام (٤٨)، وربط مصير تلك الجبهات بعضها ببعض، ما دفع "إسرائيل" إلى إدراك أنها إذا أرادت تحقيق إنجاز معيّن على أيّ جبهة من الجبهات الفلسطينية فعليها الاستعداد لحرب على جميع الجبهات، لذلك لم يمنح المستوى العسكري والأمني في "إسرائيل" موافقته على تسيير مسيرة الأعلام في القدس إلى المستوى السياسي إلا بعد إتمام الجزء الأكبر من مناورة (عربات النار) التي رفعت جاهزية "الجيش" الإسرائيلي للقتال على الجبهات كافةً في حال وقوع الحرب.
وتالياً، إنّ الخطاب السياسي الإسرائيلي، الذي يصوّر أن مسيرة الأعلام نقطة انكسار للمقاومة الفلسطينية، وعلى أنها نهاية لإنجازات معركة "سيف القدس"، ومدخلاً إلى فرض الصهاينة سيادتهم الدينية على المسجد الأقصى ومدينة القدس، يجب أن يجابه بخطاب سياسي إعلامي من المقاومة يبتعد عن تصدير فكرة أن المقاومة قادرة على خوض معركة فاصلة مع الاحتلال، وهزيمته نهائياً، لكون ذلك يتنافى فعلياً وإستراتيجية الحروب اللا متماثلة (حرب العصابات) التي تعدّ العمود الفقريّ لإستراتيجية المقاومة الفلسطينية.
ويجب أن يرتكز الخطاب الإعلامي بالنسبة إلى المقاومة وقادتها ما بعد مسيرة الأعلام، على العودة إلى الخطاب السياسي الذي يطرح الواقع كما هو، ويبني على المقدور من الفعل مع التطلّع إلى مزيد من المأمول، لكن مع الأخذ بالاعتبار اختلال موازين القوة لمصلحة الاحتلال، وأن المقاومة ستستمرّ في مشاغلتها للعدو على الجبهات الفلسطينية كافة، بعيداً من التضخيم والتهويل لطبيعة هذه المشاغلة، وحشرها في جبهة واحدة وبطريقة واحدة، بل على المقاومة أن تعتمد سياسة النفَس الطويل ومراكمة النقاط في معركتها مع الاحتلال.