لماذا تسابق "إسرائيل" الزمن لفرض النكبة الثانية؟
أوروبا والعرب كافة اليوم أمام اختبار تاريخي، والاكتفاء بالخطابات الرنانة معناه سقوط غير مقبول، ومعناه بشكل أدق أن الذي يقف متفرجاً إزاء هذا المخطط الإجرامي الخطير هو شريك مباشر في نكبة جديدة.
-
تدرك "إسرائيل" أن الزمن يضيق عليها.
لم يسبق أن مرت على القضية الفلسطينية لحظات أشد خطراً منذ قرار التقسيم عام 1947 ، والتي رافقها آنذاك حدث ليس عادياً تمثل في اغتيال الوسيط الأممي الكونت برنادوت في مدينة القدس المحتلة عام 1948على أيدي عصابات منظمة تابعة للاحتلال الإسرائيلي لتفرض مشروعاً استعمارياً بقوة الحديد والنار، هجرت خلاله أكثر من 450 قرية وبلدة فلسطينية وأنشأت واقعاً ديمغرافياً جديداً تمثل باسم النكبة، كما هي اللحظة التي نعيشها اليوم وتمر بها القضية الفلسطينية ككل وقطاع غزة والضفة الغربية المحتلة على وجه الخصوص.
"إسرائيل" تعيد ذات السيناريو والشعب الفلسطيني على أعتاب أيام حاسمة، ولكن هذه المرة تعيدها "إسرائيل" بغطاء سياسي واسع وضوء أخضر أميركي ومحاولة لتطبيق خطة حسم الصراع بالقوة مع الشعب الفلسطيني ، أو وفق ما تسميه خطة الحسم النهائي في قطاع غزة ، بالتوازي مع خطوات متسارعة في الضفة الغربية المحتلة لتطبيق مخطط الضم تنهي الحديث عن أي أفق سياسي.
تدرك "إسرائيل" أن الزمن يضيق عليها، وأن الجمعية العامة للأمم المتحدة تعمل بشكل عملي وخطوات متسارعة نحو الاعتراف بالدولة الفلسطينية في اجتماعاتها المقرر عقدها يوم الثالث والعشرين من الشهر الجاري، وترى أن هذه الخطوات تشكل تهديداً وجودياً لمشروعها الاستيطاني، وتتحرك بسرعة خاطفة لاستباق هذا العمل الأممي عبر تغيير الواقع في قطاع غزة وإعادة صياغة المشهد الديمغرافي بالقوة، في الوقت ذاته تعمل على شرعنة سيطرتها على الأراضي الفلسطينية المصنفة أمنياً (c) وفق رؤيتها في الضفة الغربية، وعينها الأخرى في ذات الوقت على مدينة الخليل بما تحمله من رمز ديني وسياسي، وهذا بحد ذاته يعد سعياً إسرائيلياً واضحاً إلى تصفية القضية الفلسطينية ودفن مشروع الدولة الفلسطينية وإلى الأبد.
صحيح أن غزة في قلب العاصفة المشتعلة والخطورة لا تقتصر عليها، لكن بات واضحاً أن المخطط يتكشف شيئاً فشيئاً، يبدأ من حصار وقتل وتهجير الشعب الفلسطيني ومحاولة إعادة إنتاج نموذج النكبة عام 1948 في القرن الحادي والعشرين مرة أخرى، بحيث يصبح النزوح الجماعي مشهداً مألوفاً يمر على مرأى ومسمع العالم بلا محاسبة، أما في الضفة فيجري ترسيخ واقع استيطاني كبير فيها ، إذ إن السيطرة وضم الأراضي يعنيان أن الاحتلال الإسرائيلي سيطر على نسبة 60٪ من مساحة الضفة الغربية المحتلة، وهذا يعنى القضاء الفعلي على أي جهود أو احتمال للحديث عن دولة فلسطينية، وهذا باختصار معناه أن الاحتلال الإسرائيلي فرض واقعاً ديمغرافياً جديداً غير قابل للتفاوض أو الحديث فيه من أساسه.
تاريخياً، لطالما اختارت "إسرائيل" لحظات دقيقة وحساسة وبعناية كبيرة، وعام 1948 استثمرت "إسرائيل" الانسحاب البريطاني والفوضى الدولية وفرضت وقائع جديدة وكررت مشروع النكبة، وها هي اليوم تستثمر حال الانقسام في الموقف الدولي لتدفع نحو تمرير أخطر مشروع منذ عقود، والأيام المقبلة بالنسبة إليها ليست مرحلة زمنية، بل تعد النافذة الذهبية التي ترى من خلالها فرصة استباقية لنسف أي مسار سياسي قبل أن تتبلور مبادرات أممية أو مواقف إقليمية تقيد تحركاتها.
قد يسأل البعض، ما المطلوب لمواجهة هذا المشهد، أعتقد أن المسؤولية تقع على عاتق أطراف كثر، أولهم دول الإقليم وأوروبا بشكل أساسي ثم الموقف العربي والإسلامي، وهذا يعني ويقول بشكل واضح إن خطابات الشجب والاستنكار لا ولن توقف مشروعاً استيطانياً بهذا الحجم، بل تمنحه غطاءً إضافياً ، وإن المطلوب هو تحرك عملي ملموس يبدأ بضغوط عملية سياسية واقتصادية، ويمتد إلى تحريك الملفات القانونية في المحافل الدولية الحقوقية كافة، وصولاً إلى تشكيل جبهة دبلوماسية تسحب من "إسرائيل" ورقة المناورة التي تراهن عليها.
أوروبا والعرب كافة اليوم أمام اختبار تاريخي، والاكتفاء بالخطابات الرنانة معناه سقوط سياسي وأخلاقي غير مقبول، ومعناه بشكل أدق أن الذي يقف متفرجاً إزاء هذا المخطط الإجرامي الخطير هو شريك مباشر في نكبة جديدة ستحل بالشعب الفلسطيني.
ثمة سؤال مهم يطرح نفسه في هذا السياق، هل يمكن إحباط مثل هذا المخطط؟ صحيح أن المشهد قد يراه البعض سوداوياً قاتماً، لكن هذا ليس قدراً محتوماً، "إسرائيل" التي تراهن على الوقت من جهة وعلى صمت العالم من جهة أخرى، إلا أن التجربة التي يعيشها الشعب الفلسطيني تقول بشكل صريح إن الفلسطينيين لم يغيبوا عن الجغرافيا ولم يتخلوا عن خيار المقاومة و هويتهم الوطنية رغم كل ما مروا به من قتل وإبادة جماعية وتطهير عرقي، ولكن هذا الصمود الفلسطيني إذا ما أحاطت به شبكة دعم وإسناد إقليمية ودولية سيكون قادراً على تعطيل وإفشال هذا المخطط أو على الأقل إبطاله حتى تتغير موازين القوى لمصلحته، وهذا يعيدنا للتأكد من أن الخطابات والبيانات لم تعد تكفي والأصل كان من المفترض الخروج بقرارات واضحة ومقاطعة وعزلة دبلوماسية سياسية وتفعيل عقوبات وتضييق الخناق القانوني على قادة الاحتلال الإسرائيلي.
الأيام المقبلة تشكل لحظة فاصلة ومفصلية في تاريخ الصراع الفلسطيني الإسرائيلي وستحدد شكل المنطقة لعقود مقبلة، والمنطقة ستكون أمام سيناريوهين، إما أن تترك "إسرائيل" لتستكمل مشروع التصفية كما فعلت عام 1948، أو أن ينهض الإقليم ودول أوروبا والدول العربية بمسؤولياتهم قبل فوات الأوان، فالصمت على نكبة فلسطين أنتج كارثة احتلال ممتدة أكثر من سبعة عقود، أما الصمت على ما يجري فهو بمنزلة نكبة جديدة بوسائل أكثر وحشية وإجراماً.
قضية الحرب على غزة وما يجري في الضفة الغربية يؤكدان أن القضية ليست قضية فلسطينية خالصة، بل هما جوهر أساس في الاستقرار الإقليمي، وإذا كان ماضي النكبة عام 1948 هو نتيجة الصمت والتواطؤ، فإن المستقبل يجب أن يُصنع بالتحرك العاجل والتضامن العملي، ولعل أخطر ما يمكن أن يحدث، ليس أن تنجح "إسرائيل" في مخططها ، بل أن يقف العالم متفرجاً مرة أخرى ثم يندم متأخراً، حينذاك يكون قد فات الأوان.
انتهت القمة العربية الطارئة في الدوحة من دون خطوات عملية ملموسة، واكتفت بمواقف سياسية إعلامية وهذا سيغري "إسرائيل" بمضيّها قدماً وإعادة رسم الشرق الأوسط وفق رؤيتها بالقوة.
إحباط المخطط الإسرائيلي لا يتحقق بالشعارات والخطابات الرنانة، بل بتفعيل خطوات المقاطعة وتشكيل جبهة دولية ضاغطة تفقد "إسرائيل" هامش المناورة التي تعوّل عليه في هذا الوقت.