كيف تساهم "وحدة الساحات" في حماية لبنان؟
تظهر ساحة شمالي فلسطين المحتلة ضمن ساحات متعددة، كجبهة إسناد لغزة، وحماية للبنان في آن.
عندما أدخل مؤسس حزب الكتائب اللبنانية، بيار الجميل، مقولة "قوة لبنان في ضعفه"، في أدبيات السياسة اللبنانية، لم يكن يتحدث، في وقتها، عن الأمر ضمن ما يراه من موقع للبنان في الصراعات الإقليمية، أو التهديدات الخارجية المحدقة، بل إن هذه المقولة كانت تعبّر عن موقع حزب الكتائب وزعيمه في هذه الصراعات، وموقفهما تجاهها.
ولاحقاً، من روّج هذه العبارة، تحت عناوين، من ضمنها أنه لا يمكن لتيار لبناني أن يكون قوياً لأنه سيستخدم قوته في وجه التيارات السياسية الأخرى، كان من أكثر التيارات والأحزاب السياسية التي سعت للتسلح واستدراج الدعم الخارجي في وجه تيارات وجماعات سياسية لبنانية أخرى.
وبمعزل عن التفسيرات المتعددة، التي خرجت لتثبت صحّة هذه المقولة، انطلاقاً من تناقضات الحالة اللبنانية بين طوائف وتيارات سياسية، فإن سقوطها كان مدوياً عندما وصل الاحتلال الإسرائيلي إلى العاصمة بيروت في حزيران/يونيو من عام 1982، معلناً تنصيب بشير الجميل (نجل صاحب المقولة) رئيساً للجمهورية، وممهداً لـ"اتفاق 17 أيار" التطبيعي، في عام 1983، بطابع استسلامي، مع أمين الجميل (النجل الثاني لصاحب المقولة).
تلك المرحلة لم تثبت فقط أن "قوة لبنان في ضعفه"، بل كان الهدف منها أيضاً تبرير هذا الضعف لمصلحة أجندات خارجية تريد العبث في البلد وأمنه واحتلاله والهيمنة عليه، بل أطلقت مرحلة جديدة معاكسة تماماً، مفادها أن القوّة في موقعها الصحيح هي الأسلوب الوحيد والأمثل للدفاع عن لبنان وتحرير أرضه ومنع أي اعتداءٍ عليه.
على مدى أكثر من 40 عاماً، إن سؤالاً مفاده: ما الذي يمنع "إسرائيل" من الاعتداء على لبنان واجتياحه، ومعاودة الوصول إلى العاصمة بيروت؟ يجيب عنه سؤال آخر، هو: ما الذي أجبر "إسرائيل" على الانسحاب من بيروت، ثم من صيدا، ثم من مناطق جنوبية، إلى "الشريط"، ثم الانسحاب من جنوبي لبنان والبقاع الغربي في عام 2000؟
قوة المقاومة أعطت القوة للبنان في الدفاع عن نفسه وردع أعدائه، فباتت "قوة لبنان في قوته" مثبتة ومدرَجة في بيانات الحكومة، ضمن "الجيش والشعب والمقاومة". وإدراجها هذا طبيعته شعبية، فرضتها موازين قوى داخلية أيضاً. وبما أن القوّة مفروض عليها أن تتطور، استراتيجياً وتكتيكياً وسياسياً وعسكرياً، عملياً ومعنوياً، مع تطوّر قوة العدو، يبقى ارتباطها بالمشروع والهدف هو الأساس. الحماية، الردع، الدفاع (بمعناه الاستباقي أيضاً)؛ هذه المعطيات الثلاث لها علاقة مباشرة بالتحالفات، التي يمكن بناؤها، والعلاقات التي تتم صياغتها، وذلك ليس بسبب الطبيعة التي يجب أن تكون عليها المقاومة فحسب، بل أيضاً بسبب طبيعة الاحتلال الإسرائيلي في المنطقة، القادر، استناداً إلى كونه جزءاً من الحالة الأميركية الأوسع في المنطقة، على ضرب كل ما هو معزول ومنفصل عن عمقه الحيوي.
"وحدة الساحات"، في مفهومها النظري، هي بناء تحالف معني بمواجهة الاعتداءات الإسرائيلية، التي يمكن أن تمس كل ساحة. المفهوم برؤيته تلك، كان نتاج تطور القدرات الأمنية والعسكرية لمختلف دول محور المقاومة وتنظيماته، في الوقت الذي كانت "إسرائيل" تواصل تهديداتها القائمة على التوسع والمباغتة وشن الحروب، ودائماً ضمن المشروع الأميركي في المنطقة. وإذا كانت القضية الفلسطينية هي العنوان الأبرز له، فإن مفاعيل "وحدة الساحات" في الدفاع والردع تطال الجميع. فكيف ذلك؟
في مقابلته الأخيرة مع "بوليتيكو"، قال رئيس حكومة الاحتلال الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، إن هدفه هو "إعادة المستوطنين الذين تركوا منازلهم في الشمال بعد السابع من أكتوبر، خوفاً من أن يقوم حزب الله باختراق الحدود والقيام بما قامت به حماس". لم يستبعد نتنياهو في مقابلته تلك "استخدام الوسائل العسكرية لتحقيق ذلك"، مع قوله إنه "إذا كان هناك وسائل دبلوماسية، فلا بأس".
ينطلق نتنياهو في خطة القيام بأي عملية عسكرية في لبنان، من مجرّد فكرة وجود حزب الله على مقربة من الحدود مع فلسطين المحتلة. فهو، أو المسؤولون الإسرائيليون في الحكومة أو "الجيش"، لا يبررون تهديداتهم تحت ذريعة أن حزب الله بدأ إطلاق النار مساندةً لغزة في الثامن من أكتوبر، انطلاقاً من أن حتى وقف إطلاق النار في غزة، والذي سينسحب على لبنان (حصل ذلك أيام الهدنة)، ليس كافياً بالنسبة إليهم، بل إن كل تصريحاتهم تؤكد ضرورة إبعاد حزب الله عن الحدود مسافة تتراوح بين 7 و10 كلم، حتى شمالي الليطاني.
اقرأ أيضاً: الأمين العام.. عن الحرب وإدارتها
في المقابل، فإن حزب الله أكد، في أكثر من مناسبة، وعلى لسان أمينه العام، السيد حسن نصر الله، أن وقف إطلاق النار في الجبهة الشمالية مرتبط بوقف إطلاق النار في غزة، ولم يتحدث مطلقاً عن أي سيناريو مغاير، إلا في حال الدفاع عن لبنان من عملية عسكرية إسرائيلية، تتحرك في مواجهتها المقاومة استناداً إلى حجم التهديدات والتحديات.
وإلى جانب ذلك، فإن قرار المقاومة الإسلامية في لبنان الانخراط في هذه المواجهة، كساحة إسناد للمقاومة في غزة، يؤدّي دوره في استنزاف الاحتلال الإسرائيلي، ويردعه عن القيام بأي عملية عسكرية واسعة ضد لبنان، من خلال إظهار القوّة ضمن مستويات محددة. لذلك، تظهر ساحة شمالي فلسطين المحتلة ضمن ساحات متعددة، كجبهة إسناد لغزة، وحماية للبنان في آن، والذي تهدده "إسرائيل" بحرب شاملة تتحمل مسؤوليتها الجهات الرسمية والشعبية، في حال لم يتم إبعاد حزب الله عن الحدود، وليس في حال عدم وقف إطلاق النار، إذ لا يوجد أي تصريح رسمي إسرائيلي يقول إن المطلوب هو فقط "وقف إطلاق النار من جانب حزب الله"، ولا يوجد حتى أي تصريح إسرائيلي رسمي يطالب بفصل جنوبي لبنان عن غزة في مسألة وقف إطلاق النار، بل على العكس من ذلك تماماً، فإن عضو "كابينت الحرب"، بني غانتس، قال، منذ أيام، إن أي هدنة في غزة لا تنعكس بالضرورة على لبنان، وإن الجيش الإسرائيلي سيواصل عملياته ضد حزب الله هناك بمعزل عن التطورات في غزة.
وعلى الرغم من أن حزب الله مدرك تماماً مخططات الإسرائيلي وطريقة تفكيره ومقاربته الأمور في مختلف الجبهات، فإنه لم يقدم انخراطه في المواجهة على أنها قرار خاص به، أو أنه قرار بناءً على معطيات لديه لا يريد الإفصاح عنها. لم يستخدم حزب الله الغموض إلا في المواجهة مع الاحتلال، بينما ترك مساحة واسعة للنقاش في الداخل اللبناني. لكن، بمعزل عن ذلك كله، واستناداً إلى تهديدات الاحتلال الإسرائيلي وطريقة إدارته المعركة بعد السابع من أكتوبر، فإن كل المعطيات تأخذنا إلى سؤال: ما الذي فرضه حزب الله عبر تدخله في الثامن من أكتوبر ضمن فرضيتين؟
- أولاً: في حال كان هناك خطة للاحتلال الإسرائيلي للقيام بعملية عسكرية ضد لبنان، بمعزل عن انخراط المقاومة كساحة إسناد من عدمها، فإن ما قام به حزب الله، من خلال انخراطه، كشف حجم المخاطر التي يمكن أن تتعرض لها "إسرائيل" من جرّاء ذلك، وفرض عليها قواعد اشتباك محددة.
- ثانياً: في حال عدم وجود مثل هذا القرار لدى الاحتلال، بعد أحداث السابع من أكتوبر في فلسطين المحتلة، فإن انخراط الحزب في ساحة إسناد، بالإضافة إلى مساندته غزة، أمرٌ يجعل الاحتلال أكثر حذراً من استغلال اللحظة، للهجوم والقيام بعملية عسكرية ضد لبنان. وهنا يتحقق مبدأ الردع الدفاعي أمام عدو لا يحترم لا مواثيق ولا عهوداً، ولا تُخضعه إلا القوة.
وفي سياق الفرضيتين المطروحتَين، كشفت صحيفة "وول ستريت جورنال" الأميركية، في 23 كانون الأول/ديسمبر، أن الرئيس الأميركي جو بايدن أقنع نتنياهو بـ"وقف ضربة استباقية ضد حزب الله في لبنان بعد هجوم حماس في السابع من أكتوبر الماضي، خشية من حرب إقليمية". ومع تجاوز أن هناك فعلاً خطة إسرائيلية ونيّة من أجل ذلك، فإن اللافت أن المخاوف الأميركية، التي جعلت واشنطن ترتدع عن السماح لـ"إسرائيل" بالقيام بذلك، كانت الخوف من اندلاع مواجهة إقليمية أوسع. وهذا يؤكد أنه حتى في حال قرر الاحتلال الإسرائيلي شن عملية ضد الساحة اللبنانية، التي تؤازر غزة، فإن سائر الساحات إقليمياً ستتدخل بوتيرة أكبر في مؤازرة لبنان.
في هذه النقطة، تدرك الولايات المتحدة أن الساحات المتعددة تدافع عن بعضها البعض، وتؤازر بعضها البعض، مع مركزية فلسطين فيما بينها، وهو ما يجب أن يردع "إسرائيل" عن القيام بذلك (إلى جانب قوة حزب الله الخاصة وقدراته). وعليه، فإن تدخل حزب الله كساحة مؤازرة ساهم في حماية لبنان، وانخراط حزب الله في ساحة ضمن ساحات متعددة أوقد نار المخاوف لدى الولايات المتحدة من أن المواجهة معه ستصبح مواجهة إقليمية. وبالتالي، ساهم بدوره في حماية لبنان من عملية أوسع وأكبر.
الفرضيتان السابقتان تحدثتا عن وجود خطة عسكرية للهجوم على لبنان، وعن عدم وجودها، لكن أيضاً مع تجاوز هذا الأمر، وافتراض أن العملية العسكرية الإسرائيلية حدثت، فإن الاحتلال سيواجه مقاومة مستعدة ولديها قدرة على التعامل مع "المفاجأة" (التي تُعَدّ مقتلاً في الحروب). وفي حال لم تحدث، فالسؤال المنطقي المطروح: ما الذي سيكون خسره لبنان المسانِد لغزة؟ مع الإشارة دائماً إلى أن الاحتلال الإسرائيلي يطرح خططه ويصرّح بتهديداته، ليس انطلاقاً من أن حزب الله يساند غزة، وعليه أن يتوقف، بل من أنه موجود عند الحدود ولديه ما لديه من قدرات عسكرية. ويتعامل حزب الله ضمن هذا الإطار مع المكونات اللبنانية، ليس بما يعرفه وأنه متأكد منه بالنسبة إلى نيات الاحتلال الإسرائيلي، بل على نجو يطمئن هذه المكونات، حتى لو لم يكشف بعض ما يقنعها بسبب حساسيته.
قوّة لبنان تتجلى في قوّة مقاومته، وتتجلّى قوة المقاومة في قوّة الساحات المنخرطة فيها، وقوتها في تلك الساحات. وهذا واقع وحقيقة ماثلان أمامنا، مع عدو وصل إلى بيروت عندما سلّمنا بضعف البلاد كـ"قوة"، وبالوساطة الأميركية التي قادها في حينها فيليب حبيب. فلماذا سيختلف هوكستين عن حبيب الآن؟ لأن، ببساطة، هناك مقاومة حاضرة تواجه في ساحة من ساحات متعددة، تشكّل خطراً على الأميركي!