قصف القنصلية الإيرانية.. لم يَعُدْ التصعيد في الشمال تحليلاً
يرجَّح أن تتعامل إيران مع هذا التطور الحربي الخطير بصورةٍ تخدم سير المعارك. وقد أحسنت إيران بتحميل الولايات المتحدة مسؤولية هذا العمل الحربي بصفتها الداعم للكيان والقائد الفعلي للحرب الدائرة على مساحة الإقليم.
قبل محاولة استشراف مسار الحرب ومستقبلها والسعي لفهم حركة العدو، بما في ذلك التصعيد الخطير وغير المسبوق على القنصلية الإيرانية في دمشق، ينبغي العودة خطوةً إلى الوراء في محاولةٍ لتقديم إجابة عن سؤال: في أي سياقٍ جاء طوفان الأقصى؟ بمعزلٍ عن الأسباب المباشرة التي أعلنتنها كتائب القسام، إذ إن أحداث ذلك اليوم المجيد جاءت في سياقٍ جيوسياسيٍ معيّنٍ، كما أن تداعيات تلك الأحداث لا تزال المحدِّد الرئيس لسير المعارك جنباً إلى جنب مع وقائع القتال ومعطيات الميدان.
لقد طرأ في الأعوام القليلة الماضية تبدلٌ من الناحية النظرية في موازين القوى التي حكمت منطقتنا لعقودٍ سابقةٍ بين العدو الصهيوني وقوى التحرر العربي والإسلامي.
قد تزامنت تلك التبدّلات مع اختلالٍ في التوازنات الدولية، وذلك نتيجةً لظهور معالم صعود الصين وروسيا كقطبين دوليين، وبروز ملامح تراجعٍ في الهيمنة الأميركية في العالم، رافقها حدوث فراغٍ استراتيجيٍ في المنطقة على وقع الانسحاب الأميركي من العراق، كما سبق أن فصَّل مقالٌ في هذه الصفحات في شباط/فبراير 2023 – "الطريق إلى الحرب"، إذ رأى أنه رغم عدم وجود رغبةٍ لدى أيٍ من اللاعبين الإقليميين الفاعلين في التصعيد العسكري، فإن اختلال التوازنات الإقليمية لا بد من أن يؤدي إلى تصعيدٍ عسكريٍ ما في إحدى الساحات غير المستقرة بسبب طبيعة الأمور والسياقات التاريخية؛ تصعيدٍ يفضي إلى ترصيد موازين القوى المتغيرة ميدانياً بشكلٍ عمليٍ عوضاً عن بقائها مطروحةً بصورةٍ نظريةٍ. وقد جاء طوفان الأقصى في هذا السياق، موجِّهاً ضربةً إستراتيجيةً مؤلمةً إلى العدو، فغدا الحدث الذي وضع الأطراف الإقليمية أمام استحقاق ترصيد موازين القوى المختلّة، بل ربما أمام عملية إعادة تشكيل المنطقة برمَّتها.
لكن الحرب المحتدمة منذ زهاء ستة أشهرٍ لم تفضِ بعد إلى رسم حدود التوازنات الإقليمية المستجدة، إذ لم يستطع أيٌ من الأطراف حسم المعركة لمصلحته، فلا قوى المقاومة الإقليمية أجبرت العدو على القبول بوقفٍ لإطلاق النار يلبي شروط جبهة غزة، ولا استطاع في المقابل تحالف الإبادة الصهيوأميركي إلغاء مفاعيل عملية طوفان الأقصى الهجومية أو تحقيق أي من أهدافه العسكرية.
على العكس من ذلك، فقد ظهرت معضلتان إستراتيجيتان أخريان أمام حلف الإبادة منذ بدء عدوانه على غزة: أولاً تَكرَّس بصورةٍ عمليةٍ مفهوم وحدة الجبهات، وثانياً نشأ وضعٌ غير مسبوقٍ على جبهة جنوبيّ لبنان، حينما غدا حزب الله القوة العربية الأولى التي استطاعت إفراغ أكثرية مستوطنات شمال فلسطين المحتلة من المستوطنين بصورةٍ شبه كلِّيةٍ.
لذلك، ما دام رصد موازين القوى في الإقليم الأرضية الأساسية التي تسير الأحداث بناءً عليها، وما دام النزاع لم يصل بعد إلى مرحلة حسم مدى تلك الموازين وحدودها، فمِن المستبعد توقُّف المعارك. وبما أن العدو وصل تقريباً إلى طريقٍ مسدودٍ في غزة، بعدما ألقى بكل ثقله العسكري في تلك الجبهة، فإنَّ تصعيد اعتداءاته على الجبهة مع شمال فلسطين المحتلة كان أمراً متوقعاً.
لقد ظهرت بوادر ذلك التصعيد المتوقع منذ أيامٍ قليلةٍ في أكثر من واقعة، فكانت البداية مع الغارات الإسرائيلية العنيفة على ريف دير الزور، التي تبعتها في غضون 48 ساعةً غاراتٌ أخرى قويةٌ على ريف حلب، استشهد فيها عددٌ ليس بالبسيط من الجيش السوري ومجاهدي حزب الله، وكان آخر مظاهر هذا التصعيد الاعتداء السافر على قنصلية الجمهورية الإسلامية في دمشق، الذي ارتقى فيه ثلَّةٌ من أبرز قيادات حرس الثورة الإسلامية وقوة القدس.
تأتي هذه الأحداث العدائية لتصب في مصلحة الرأي القائل إن الصفقة الأخيرة للأسلحة التي زوَّدت بها الولايات المتحدة الكيان الغاصب، والتي شملت 1800 قنبلةٍ ثقيلةٍ، إضافة إلى 25 طائرةً مقاتلةً من الجيل الخامس من طراز "ف. 35"، يُعتقَد أن تكون بغرض تصعيد الأعمال العدائية على جبهة شمال فلسطين المحتلة، فلا توجد حاجةٌ ماسةٌ لدى "جيش" الاحتلال لاستخدام مقاتلات "ف. 35" في جبهة غزة، إذ إن مقاتلات الجيل الرابع تفي بالغرض وزيادة هناك، وذلك لعدم امتلاك كتائب القسام وسائل دفاع جوي يعتد بها، فيما لا يضمن العدو عدم امتلاك حزب الله دفاعات جوية قادرةً على التعامل مع مقاتلات الجيل الرابع، ولا سيما بعد حادثتي إسقاط حزب الله طائرتين مسيَّرتين من نوع "هرمز 450" المتطورة بصواريخ أرض جو، كان آخرها في شباط/فبراير الماضي فوق منطقة إقليم التفاح جنوبيّ لبنان.
تنظر جميع الأطراف إلى الحرب الراهنة على أنَّها حربٌ مصيريةُ؛ فعلى أرضية ترصيد موازين القوى المستجدة في الإقليم سيتم إلى حدٍ بعيدٍ تحديد مستقبل المنطقة لعقودٍ قادمةٍ. وتتجلى هذه النظرة في طريقة تصرُّف الكيان الغاصب في هذه الحرب، فقد خلع كل أقنعته، واستعاد سيرته الأولى في حرب النكبة 1948 والمرحلة التي سبقتها، حينما كان يرتكب جميع أشكال فظائع الحرب من دون الالتفات إلى أي معايير دولية، ولو حتى شكلياً، ناهيك بتموضع الأطراف الإقليمية التي تحالفت مع الكيان تقليدياً، وتلك التي تحالفت مع الاحتلال حديثاً، إذ تجد مثلاً أن خطاب اليمين اللبناني الانعزالي في هذه المرة بات أكثر فجوراً ووضوحاً اتجاه خياراته، على عكس خطابه الذي كان أكثر تحفظاً في حرب لبنان 2006.
كذلك، تجد خطاب أولئك الذين تحالفوا مع الاحتلال حديثاً، كسلطة رام الله، أكثر صراحةً تجاه تموضعهم في معسكر الاحتلال، فماذا يعني أن يرسل جهاز مخابرات السلطة عناصر أمنية بالتنسيق مع جهاز "الشاباك" إلى غزة للتجسُّس على المقاومة؟ وماذا يعني أن تُصدِر حركة فتح بياناً تدين فيه ما سمته "التدخل الإيراني في الشؤون الفلسطينية"؟ قاصدةً بذلك الدعم الإيراني لفصائل المقاومة الفلسطينية بالسلاح، في ظل خوض تلك الفصائل معركة دفاعية في وجه حرب الإبادة الجماعية التي يشنها التحالف الصهيوأميركي ضد الشعب الفلسطيني.
تعد كل هذه شواهد على تطابق نظرة الأطراف الإقليمية مع القراءة التحليلية لطبيعة المعركة من منظور "الواقعية السياسية". وبناء عليه، يمكن القول إن احتمالات التصعيد على جبهة شمال فلسطين المحتلة باتت مرتفعةً، هذا إن لم تكن بدأت بالفعل، فالاعتداء الصهيوأميركي الأخير على القنصلية الإيرانية يأتي بمنزلة إعلان حربٍ على الجمهورية الإسلامية، إضافة إلى كونه جاء ضمن سياق حربٍ مشتعلةٍ، ما يضعه في عداد الأعمال الحربية، لا مجرد عمليةٍ أمنيةٍ عارضةٍ.
لذلك، يرجَّح أن تتعامل إيران مع هذا التطور الحربي الخطير بصورةٍ تخدم سير المعارك. وقد أحسنت إيران بتحميل الولايات المتحدة مسؤولية هذا العمل الحربي بصفتها الداعم للكيان والقائد الفعلي للحرب الدائرة على مساحة الإقليم. ويبقى أن نترقَّب طبيعة وكيفية تعاطي إيران وباقي أركان المحور مع ما يمكن أن يكون بداية مرحلةٍ مختلفةٍ من الحرب.