قراءة في السلام الترامبي ومقوّمات نجاحه

الواضح لدى الإدارة الأميركية أن أي اتفاق يمكن فرضه لن يكون نهاية لمسار الصراع مع الكيان الإسرائيلي، وإنما سيكون مجرد منطلق يمكن من خلاله العمل على تدجين الشعوب الرافضة للكيان.

0:00
  • الولايات المتحدة والشرق الأوسط.
    الولايات المتحدة والشرق الأوسط.

في إطار التوجّه الأميركي الحالي في المنطقة، تظهر البصمة الشخصية للرئيس دونالد ترامب وكأنها المحرك الرئيس لما تستهدفه الولايات المتحدة في المنطقة، إذ نجح في أن يقدم نفسه كرئيس استثنائي متفلّت من القيود الأيديولوجية التقليدية التي حكمت أسلافه.

فالمسار الذي يمكن اعتباره قاسماً مشتركاً بين من سبقه من الرؤساء، والذي كان يرتكز على عناوين أو مهمات قيمية تتقاطع حول نشر الديمقراطية والقيم الليبرالية كقيم عالمية ووسائل لبناء النظام العالمي، وترسيخ الأمن والسلم الدوليين لم تظهر بشكل واضح في النموذج الترامبي الذي بدا متحرراً من هذه القيم، خصوصاً لناحية المجاهرة بتقديس الواقعية السياسية بمفهومها التقليدي المستند إلى مفهوم المصلحة القومية الضيقة للدولة، واعتبار القوة وسيلة وحيدة لتحقيق هذه المصلحة بما يؤدي حكماً إلى تقدير أهمية التحالفات وفق معيار المنفعة فقط، أي بما يعني من ناحية أخرى إسقاط أي أثر للالتزامات الأخلاقية التي شكّلت العمود الفقري لسردية الولايات المتحدة منذ بداية الحرب الباردة.

فإذا وضعنا شعاره، " أميركا أولاً "، الذي يعكس، من حيث الشكل، نزعة انعزالية إلى جانب تكريسه مفاهيم الربح والخسارة بمفهومها التجاري على علاقاته الدولية، واعتماده انتقائية واضحة في مقاربته لملفات المنطقة والعالم، إذ ظهر واضحاً انخراطه في بعض الملفات، كالمواجهة مع الجمهورية الإسلامية وصفقة القرن ومسار التطبيع الذي يتبناه، والعمل على عقد صفقات تسليح خيالية متفلتة بشكل عام من أطر الرقابة التقليدية التي كانت قائمة سابقاً، وإهماله ملفات أخرى كان أسلافه يولونها أهمية فائقة، كنشر الحرية وحقوق الإنسان ودعم الحركات الديمقراطية في كل أمة، سيظهر واضحاً أن الهدف الذي يسعى ترامب لتحقيقه لا يخرج عن إطار تثبيت نظام أمني يخدم المصلحة الاقتصادية الأميركية أولاً، ويضمن بالقوة استقرار النظام العالمي الذي يخدم الأمن الأميركي ثانياً.

في الحقيقة، لا يقدم ترامب أي جديد في هذا الإطار، إذ يلتقي أبرز الرموز المنظرين للمدرسة الواقعية في الولايات المتحدة حول هذه الأهداف. فقد وصَف هنري كيسنجر، الذي يعدّ المنظّر الأبرز للمدرسة الواقعية في الولايات المتحدة، العلاقات الدولية على أنها صراع دائم على القوة والنفوذ، وحدّد إطار التفاهمات الكبرى وفق أسس المصلحة، ودعا إلى إعادة تعريف الدور الأميركي بما يخدم الهيمنة المستقرة. أما جون بولتون وستيف بانون وستيفن والت وغيرهم، فيمكن الحديث عن تبنّيهم مجموعة من الأفكار التي تسهم في رسم الإطار النظري لتوجهات دونالد ترامب من حيث اعتبار القوة العسكرية وسيلةً وحيدة لضمان الأمن الأميركي، واعتبار التاريخ سلسلة من الصراعات بين الحضارات. يبقى أخيراً أن نشير إلى الواقعية الهجومية، التي طوّرها العالم الأميركي ميرشايمر، إذ اعتبر أن الدولة هي الفاعل الأساسي التي يجب أن تسعى إلى الحد الأقصى من القوة لتحقيق الهيمنة في ظل النظام الدولي الفوضوي المتنصل من أي دور لمبادئ القانون الدولي، تشكل المحور الأساسي للسلوك الترامبي.  

من خلال هذا التقديم النظري، سيظهر واضحاً أن شعار " أميركا أولاً " لا يُترجم في علاقات الولايات المتحدة الأميركية مع الخارج انعزالاً أو انكفاءً نحو الداخل كما يفترض البعض، إذ لا يُفترض تحليل هذا الشعار بمعناه الضيق على أنه حاكم وحيد لسلوك إدارة دونالد ترامب.

فمفهوم السلام بالقوة، الذي تبنّاه رؤساء سابقون كان أهمّهم الرئيس الأول جورج واشنطن، قد أكّده الرئيس ترامب خلال خطاب تنصيبه لولايته الثانية، إذ بدا الأمر استرجاعاً لاستراتيجية الرئيس رونالد ريغن مع الإشارة إلى تعديل جوهري يتعلق بتركيزه، أي دونالد ترامب، على القوة الشاملة وليس فقط القوة العسكرية. فالسلام الترامبي لا يتحقق من خلال توازن القوى أو التعاون الدولي وإنما من خلال ضمان تفوق شامل يدمج بين الردع العسكري والهيمنة الاقتصادية. 

وعليه، يمكن القول إن المسار الذي اعتمده دونالد ترامب في فترته الرئاسية الأولى وكذلك الحالية لا يدلل على تغيير دراماتيكي في رؤية الولايات المتحدة في الشرق الأوسط.

فما قاله في خطاب إعلان صفقة القرن في 28 كانون الثاني 2020، من أن "إسرائيل" هي نور العالم، والولايات المتحدة ستقف دائماً إلى جانبها وتدعم حقها في الدفاع عن نفسها، بالإضافة إلى ما أعلنه في البيت الأبيض أثناء توقيع اتفاقات ابراهام: "هذه الاتفاقات ستكون الأساس للسلام في الشرق الأوسط "، يؤكد أن الكيان الإسرائيلي هو محور السلام الأميركي في الشرق الأوسط.

أما بالنسبة إلى مروحة التحالفات التي يسعى إلى ترسيخها مع بعض دول المنطقة، من خلال اتفاق أبراهام أو مسار التطبيع الذي يعمل على فرضه على بعض الدول بالقوة، فإنه لا يقدم لرؤية ترتكز على الحقوق ومفاهيم السيادة، وإنما يرتكز على مفهوم الأمر الواقع الذي فرضته موازين القوى بعد سنتين من الصراع في المنطقة.

في هذا الإطار، يمكن الإشارة إلى عدد من المعوقات التي قد تؤدي إلى فشل هذا المسار، أو على الأقل فرملته على المديين المتوسط والبعيد. فالافتراض الأميركي بأن قوى المقاومة تظهر إشارات الضعف الذي قد يؤدي إلى استسلامها، بالإضافة إلى افتراض تسليم شعوب المنطقة بالتفوّق الإسرائيلي وعدم جدوى المقاومة بما يُفهم على أنه استعداد للتخلي عن هذا الخيار لا يستند إلى معايير واقعية.

فإذا كانت السردية الأميركية تفترض هزيمة المحور في لبنان وغزة، فإن هاتين الجبهتين قد فرضتا في الميدان واقعاً ينسف الفرضية الأميركية بالمطلق، من دون أن ننسى أنهما تمتلكان داخل بلدانهما القوة اللازمة لمواجهة أي انقلاب عليها بالقوة إذا لزم. فرغم أن المقاومة في لبنان قد وافقت على تطبيق القرار 1701 جنوب الليطاني، ورغم أن المقاومة في غزة قد وافقت على خطة ترامب لوقف إطلاق النار في غزة، فإن هذه الموافقة لم تكن انعكاساً لهزيمة المقاومة، وإنما كانت نتيجة لتقدير بضرورة إعادة التموضع ومحاولة التأقلم مع موازين القوى التي بات مفهوماً أنها لا تتعلق فقط بأدوات القوة الإسرائيلية، وإنما تتعلق أيضاً باستثمار القوة الذي فرضته الولايات المتحدة في محاولة لتسريع ترتيب واقع المنطقة بما يخدم محاولات الحفاظ على مقومات الهيمنة العالمية الأميركية. 

من ناحية أخرى، يفرض المعيار العقائدي لشعوب المنطقة نفسه بطريقة تجعل الرؤية الأميركية غير واقعية، إذ إن الصراع الذي ألقى بظلاله على المنطقة منذ عام 1948 لا يخرج عن كونه صراعاً عقائدياً يتخطى في جوهره مسألة الحدود وإمكانية الوصول إلى تسوية تؤدي إلى تكريس الكيان في الوعي الجماعي كفاعل طبيعي يمكن التأقلم معه.

وبالتالي، انطلاقاً من مسلمات علم الاجتماع وضرورة مراعاة الحلول المطروحة لعمق المشكلة، سيظهر واضحاً أن التسوية التي يحاول دونالد ترامب فرضها وفق قواعد الصفقات التجارية التي يبرع بها لن تكون إلا مجرد حل شكلي لا يملك مقومات الصمود في المستقبل.

فمن خلال الضغوط التي تمارسها الولايات المتحدة تحت وطأة التهديد باستئناف الكيان للقتال، ومحاولة فرض مهل زمنية قصيرة لمعالجة ما يمكن أن يهدد مشروع ترامب للسلام، سيظهر واضحاً سعيه لاقتناص فرصة اختلال التوازن لدى قوى المقاومة من أجل تكريس اتفاقات ذات تأثير يمكن الاستناد إليها في محاولة التغيير الذي يستهدف فرضه على الوعي الجماعي لشعوب المنطقة الرافضة للتطبيع.

فالواضح لدى الإدارة الأميركية أن أي اتفاق يمكن فرضه لن يكون نهاية لمسار الصراع مع الكيان الإسرائيلي، وإنما سيكون مجرد منطلق يمكن من خلاله العمل على تدجين الشعوب الرافضة للكيان، وتحديد أطر رفضها للمشروع الإسرائيلي ضمن ما يمكن اعتباره غير مهدد للأمن الإسرائيلي، كما هي الحال في مصر أو الأردن أو السلطة الفلسطينية.