قراءة في استدارة واشنطن إلى السودان عبر بوابة جنيف

تطرح مفاوضات جنيف المرتقبة بأطرافها السودانية والإقليمية والدولية مجموعة تساؤلات مشروعة لا تتعلق فقط بجدية ورغبة تلك الأطراف بإنهاء الصراع في السودان، بقدر ما ترتبط بمصالح ومحددات ودوافع وحسابات كل طرف وفي المركز الطرف الأميركي.

0:00
  • استدارة واشنطن إلى الصراع الحاصل في السودان جاءت متأخرة جداً.
    استدارة واشنطن إلى الصراع الحاصل في السودان جاءت متأخرة جداً.

بعد ما يزيد على عام من عمر الصراع الدائر في السودان، استدارت الولايات المتحدة الأميركية إليه، وألقت بثقلها لإقناع طرفي الصراع -الجيش والدعم السريع- بالمشاركة في المفاوضات المزمع انعقادها في جنيف السويسرية يوم14  نيسان/أغسطس الجاري، بمشاركة السعودية كدولة مضيفة مع سويسرا، إضافة إلى الأمم المتحدة والاتحاد الأفريقي ومصر والإمارات بصفة مراقب، وذلك لبحث وقف القتال وإيصال المساعدات الإنسانية.

شهدت جنيف خلال الأسبوعين الماضيين حراكاً برعاية الأمم المتحدة من أجل استضافة طرفي الصراع السوداني لبحث قضايا تتعلق بالبعد الإنساني، ولا سيما إيصال المساعدات وحماية المدنيين، وهذه هي المرة الأولى التي يوافق فيها الطرفان على مناقشة المسألة الإنسانية منذ توقف مفاوضات جدة في كانون الأول/ديسمبر الماضي، والتي انتهت من دون التوصل إلى اتفاق.

طريق السودان إلى جنيف لم يخلُ من المعوقات والاشتراطات. وقد تردد الجيش السوداني في قبول الدعوة ليعلن موافقته لاحقاً، ولم تكن موافقة الجيش نزولاً عند قناعة بجدوى الذهاب أو بإمكانية اجتراح اتفاق، ولكن لأن واشنطن لوحت لقائد الجيش السوداني بورقة الاعتراف والشرعية، ثم رمت هذه المرة بكل ثقلها من أجل الذهاب إلى جنيف، لا لقناعة هذه الأخيرة بضرورة حل الصراع في السودان وإنهائه، ولكن لحسابات ومصالح أميركية بحتة.

استشعر البرهان قبل موافقة الجيش السوداني على الذهاب إلى جنيف بأنَّ هناك رغبة أميركية ملحّة في ذلك، فالتقط تلك الرغبة، وأوعز إلى خلية مجلس السيادة ووزارة الخارجية السودانية بأن تناقش مع الإدارة الأميركية ثلاث قضايا، كان تجاهل واحدة منها كفيلاً بنسف المحاولات الأميركية وتفجير لقاء جنيف قبل حدوثه.

تلك القضايا هي أولاً: مناقشة مفردات ما جاء في الخطاب الأميركي، ولا سيما في إرسال الدعوة إلى البرهان بصفته العسكرية من دون تسميته "رئيس مجلس السيادة"، وثانياً: عدم مشاورة السودان في المراقبين المدعوين إلى لقاء جنيف، ومنهم من هو متهم بدعم قوات الدعم السريع، وثالثاً: عدم تنفيذ "إعلان جدة" الموقّع في أيار/مايو 2023.

التقطت إدارة الرئيس بايدن رغبة البرهان الشخصية في البحث عن الشرعية، فأوعزت إلى الخارجية الأميركية بمخاطبة البرهان والاعتراف به رئيساً لمجلس السيادة واستعدادها لاستخدام الصفة في الدعوات الرسمية، وأن يكون إعلان المبادئ الموقّع في جدة مرجعية لمفاوضات جنيف، ومنح الأولوية لتنفيذ ما تم الاتفاق عليه.

تطرح مفاوضات جنيف المرتقبة بأطرافها السودانية والإقليمية والدولية مجموعة تساؤلات مشروعة لا تتعلق فقط بجدية ورغبة تلك الأطراف بإنهاء الصراع في السودان، بقدر ما ترتبط بمصالح ومحددات ودوافع وحسابات كل طرف وفي المركز الطرف الأميركي.

والسؤال المركزي: لماذا ألقت الولايات المتحدة الأميركية بكل ثقلها من أجل إقناع الجيش السوداني وقائده عبد الفتاح البرهان المشاركة في مفاوضات جنيف، بما في ذلك التحول في الخطاب وفي تعريف وتوصيف البرهان الذي لطالما عرّفت عنه الإدارة الأميركية منذ انقلاب 25 تشرين الأول/أكتوبر 2021 بـ"قائد القوات المسلحة"، وهو التوصيف الذي جاء في بيان الخارجية الأميركية في28  أيار/مايو 2024، لتُعرفه هذه المرة في بيان الخارجية الأميركية في 5 آب/ أغسطس الجاري بأنه "رئيس مجلس السيادة"، وهو ما يُعد تحولاً في الخطاب الأميركي تجاه تعريف البرهان وتوصيفه، لكنه يبدو أيضاً تحولاً محدوداً ومن أجل إقناع البرهان بالمشاركة في مفاوضات جنيف التي تسعى واشنطن لعقدها في14  آب/أغسطس الجاري. 

تجاوزت واشنطن قضية ورمزية توصيف البرهان، وكانت قبل ذلك قد حفزته واسترضته في أيار/مايو الماضي بمكالمة هاتفية استغرقت 30 دقيقة أجراها وزير الخارجية الأميركية أنتوني بلينكن، بحث خلالها مع رئيس "مجلس السيادة" عبد الفتاح البرهان إنهاء الصراع في السودان وتوصيل المساعدات الإنسانية.

شكّل اتصال وزير الخارجية الأميركية أنتوني بلينكن برئيس مجلس السيادة عبد الفتاح البرهان في أيار/مايو الماضي نقطة تحول واستدارة مفاجئة من واشنطن باتجاه السودان، ذلك أن واشنطن سكتت وغضَّت الطرف على الانتهاكات والجرائم التي شهدها السودان منذ اندلاع الصراع في15  نيسان/أبريل 2023.

محددات الاستدارة الأميركية نحو الصراع الدائر في السودان والاهتمام المفاجئ لا يعنيان أن صحوة ضمير أميركية قد حدثت بقدر ما يعنيان أن هناك متغيرات دولية فرضت تداعياتها على الأجندة الأميركية لتقديم الملف السوداني ليصبح أولوية. ومن بين المحددات التي تفسر الاستدارة الأميركية إلى السودان، وجود مخاوف أميركية من تمدد حضور روسيا في السودان، وخصوصاً في البحر الأحمر، ولا سيما أن هناك تلميحاً وتلويحاً سودانياً عبّر عنه مؤخراً الجنرال ياسر العطا مساعد القائد العام للجيش وعضو مجلس السيادة السوداني، في تصريحات تلفزيونية، قال فيها إن روسيا طلبت من السلطات السودانية إقامة محطة للتزويد بالوقود في البحر الأحمر في مقابل توفير أسلحة وذخيرة، وأن رئيس مجلس السيادة وقائد الجيش عبد الفتاح البرهان سيوقع على اتفاقيات بهذا الصدد قريباً.

وفي نيسان/ أبريل الماضي، قام ميخائيل بوغدانوف نائب وزير الخارجية الروسي والمبعوث الروسي الخاص إلى أفريقيا بزيارة الى السودان استغرقت يومين التقى خلالها البرهان، وصرح بأن بلاده تعتبر مجلس السيادة الانتقالي "الممثل الشرعي للشعب السوداني". وقبيل زيارة بوغدانوف إلى السودان بأيام قليلة، كان أحمد إبراهيم مفضّل، مدير المخابرات، يزور موسكو. 

المحدد الآخر في قراءة الاستدارة الأميركية نحو السودان، وتفسير مبادرة وزير الخارجية الأميركي للاتصال بالبرهان، تتعلق بتقارب مرتقب بين الخرطوم وطهران بدأ في شباط/فبراير الماضي، عندما زار وزير الخارجية السوداني السابق علي الصادق طهران، وهو تقارب قد يصل إلى تعاون عسكري تدعم بموجبه طهران الجيش السوداني، وهو ما يقلق كلاً من واشنطن وتل أبيب، ويفسر تلك الاستدارة وتحريك الجمود الأميركي الذي كان تجاه ملف الصراع السوداني.

إن استدارة إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن التي شارفت ولايتها على الانتهاء إلى الصراع الدائر في السودان لا تعدو كونها ورقة انتخابية لدى الحزب الديمقراطي، يراد تقديمها للناخب الأميركي كإنجاز سياسي يتيم في القارة الأفريقية بغض النظر عن مقتضيات ذلك ومتطلباته.

وشواهد التجربة تؤكد أن واشنطن غير جادة بتسوية الصراع الدائر في السودان، ذلك أنها لم تضغط على طرفي الصراع، ولم تهتم بتنفيذ ما تم الاتفاق عليه في إعلان جدة، ولم تتحرك صوب السودان إلا عندما استشعرت أن موسكو وطهران يهددان حضورها ودورها هناك. حتى التحركات الأميركية الأخيرة جاءت على عجل ومن دون تمهيد، وركزت على تلبية الدعوة لمفاوضات جنيف فقط، من دون قراءة خارطة العلاقات والتحالفات الداخلية والإقليمية والمكونات داخل المشهد السياسي السوداني.

إن استدارة واشنطن إلى الصراع الحاصل في السودان جاءت متأخرة جداً، وهي مجرد محاولة محكوم عليها مسبقاً بالفشل، ذلك أن واشنطن حصرت الصراع السوداني في الذهاب إلى مفاوضات جنيف التي لا يمكن التعويل عليها لمجرد موافقة طرفي الصراع في السودان على الحضور والمشاركة، ذلك أن الاتفاق الإنساني الذي توصلت إليه قوات الدعم السريع مع الأمم المتحدة في مفاوضات غير مباشرة عقدت في جنيف قبل أكثر من أسبوعين لم يسفر حتى الآن عن جديد، ولم تصل المساعدات إلى معسكرات النازحين في دارفور، مضافاً إلى ذلك كله انعدام ثقة السودانيين بالدور الأميركي. وبالتالي، فإن فشل واشنطن في إحداث اختراق في الصراع السوداني في جنيف هو السيناريو الأقرب والمتوقع.