في الحديث عن معايير النصر والهزيمة

"إسرائيل صرخت أولاً"، وكانت طهران أكثر براعة في سياسة "عض الأصابع" التي اعتادت عليها، وأدركت أهمية "النفس الطويل" في إدارة المعركة.

  •  كانت الأهداف المعلنة للحرب هي إسقاط النظام في إيران أو تدجينه.
    كانت الأهداف المعلنة للحرب هي إسقاط النظام في إيران أو تدجينه.

لم تكن الحرب المباشرة بين "إسرائيل" وإيران سوى ارتداد من ارتدادات معركة طوفان الأقصى التي غيرت البيئة الاستراتيجية في المنطقة، ولا تزال مفاعيلها مستمرة حتى اليوم.

الخطأ الاستراتيجي لـ"إسرائيل" تمثل في اعتقادها أن فقدان إيران لحلفائها في المنطقة أفقدها القدرة على المجابهة، وبالتالي فإن استهدافها من الخارج بات ممكناً، بعد أن جرى العمل على الداخل ولسنوات طويلة.

الحديث عن أن "إضعاف حلفاء إيران في المنطقة نقل المعركة إلى الداخل الإيراني" لم يعد دقيقاً، والحقيقة أن طهران استطاعت عبر حلفائها تأجيل المعركة إلى حين امتلاكها القوة القادرة من خلالها على ردع خصومها.

المواجهة بين طهران والولايات المتحدة الأميركية كانت مقررة منذ قيام الثورة الإسلامية في إيران عام 1979، بمعنى أن السياسة الإيرانية استطاعت تأجيل تلك المواجهة لحوالى نصف قرن من الزمن.

يبدو أن "إسرائيل" قد نجحت في صناعة "طابور خامس" في الداخل الإيراني، لكنه كان محكوماً عليه بصفة الخيانة من قبل الشعب الإيراني، سواء أكان مؤيداً للحكومة أم معارضاً لها.

نضج المعارضة السياسية في إيران حال دون انزلاقها إلى مستنقع العمالة مع الخارج، وزاد من فرص التقارب بينها وبين الحكومة، على قاعدة الشراكة والعمل لمواجهة التحديات التي تستهدف وجود إيران كلها، بعيداً عن لغة التخوين التي اعتادت حكومات المنطقة على إطلاقها على أي معارضة تقف في وجهها.

عقيدة "الدفاع المتقدم" أو ما يسمى "طوق النيران" التي استطاعت إيران انتهاجها، تراجعت كثيراً في السنوات الأخيرة، وكانت النتيجة الحتمية لها هي نقل المعركة إلى الداخل الإيراني، لكن ذلك تم بعد أن استطاعت طهران بناء قوة الردع الكافية. 

في الحديث عن معايير الربح والخسارة لا بد من التأكيد أن من يبدأ الحرب يعدّ منتصراً فيها إذا ما استطاع تحقيق الأهداف التي وضعها مسبقاً. أما المدافع عن أرضه، فمجرد البقاء والقدرة على الاستمرار يشكلان انتصاراً لوجهة نظره.

لقد كانت الأهداف المعلنة للحرب هي إسقاط النظام في إيران أو تدجينه، وهو ما لم يتحقق. وتدمير البرنامج النووي لإيران، ويبدو أن الادعاءات الأميركية بذلك لم تقنع أحداً، وما الإصرار الأميركي على العودة إلى المفاوضات إلا دليل على ذلك. فما الجدوى من المفاوضات إذا كان قد تم تدمير البرنامج النووي الإيراني على حد زعمهم؟.

أما الرغبة في تدمير البرنامج الصاروخي لإيران، فقد حرصت طهران على ختم المعركة برشقة صاروخية مستهدفة الداخل الإسرائيلي، معلنة استمرار قدراتها الصاروخية المتطورة.

تراجع فكرة تغيير الشرق الأوسط...

في التحليل السياسي علينا التمييز بين الرغبة والقوة والقدرة، فالتفكير الرغبوي ليس بالضرورة هو ما يمكن تطبيقه على أرض الواقع، حتى لو امتلكت القوة اللازمة لذلك، نتيجة لغياب الإرادة أو القدرة على التنفيذ، أو الاصطدام بإرادة الطرف الآخر، وقدرته وإصراره على حسم المعركة.

هذه المعادلة تنطبق وبشكل كبير على الكيان الصهيوني وعدم قدرته على تنفيذ مخططاته، رغم امتلاكه فائض القوة القادرة على تنفيذ تلك المخططات من الناحية النظرية. 

أكثر من سنة وثمانية أشهر مرت على العدوان الصهيوني على قطاع غزة، وما زالت المقاومة قادرة على الرد، والشعب الفلسطيني أكثر تمسكاً وإصراراً على النصر، وهو ما زاد من مأزق حكومة الحرب الإسرائيلية، وجعلها تفكر في البحث عن "مهرب خارجي"، عبر افتعال المواجهة مع طهران.

إذا كان بن غوريون هو من أسس "دولة إسرائيل" بشكلها الحالي، فإن نتنياهو هو من استطاع توسعتها، هذا الحلم هو ما يسعى نتنياهو لتحقيقه، وهو ما دعمه ترامب حين اعتبر أن إسرائيل صغيرة، وأنه يفكر في العمل على توسعتها.

إثنا عشر يوماً من العدوان الصهيوــ أميركي على إيران، أثبتت للعالم أن من أراد تغيير شكل الشرق الأوسط  لم يستطع حتى تغيير ملابسه، وخاصة أن الصواريخ الإيرانية وصلت إلى منزل عائلة نتنياهو، كما أجبرت المستوطنين على النزول إلى الملاجئ.

إذا كان الهجوم الإسرائيلي على إيران قد فاجأ العالم، فإن الدفاع الإيراني قد فاجأنا جميعاً، فعلى الرغم من سياسة الاغتيالات التي مارستها "إسرائيل"، فإن طهران استعادت زمام المبادرة، وأثبتت أن لديها أجيالاً متسلسلة من القيادات، ليسوا أقل خبرة وبأساً ممن سبقوهم. 

لقد أثبتت الأيام أن المفاعلات النووية الحقيقية هي العقول التي تمتلكها إيران، وهي المفاعلات التي يصعب القضاء عليها. 

امتلاك طهران لأكثر من 30 ألف عالم نووي، ووجود 21 مفاعلاً نووياً فيها، موزعة على 12 منطقة، يزيدان من مناعتها، ويجعلان فكرة القضاء على برنامجها النووي شبه مستحيلة، وكل ما يمكن فعله هو العمل على تعطيله بعض الوقت.

الشباب في "إسرائيل" لم يعيشوا حرباً كهذه، فآخر مواجهة بين "إسرائيل" ودولة أخرى كانت في حرب أكتوبر عام 1973، والتي لم تكن سوى "حرب تحريك"، الهدف منها الجلوس إلى طاولة المفاوضات وتوقيع اتفاقية للسلام بين مصر والكيان الصهيوني. 

"الخداع الاستراتيجي"، الذي نفذته "إسرائيل" وبمشاركة الولايات المتحدة الأميركية يبدو أنه لم ينجح، فالاستعدادات الإيرانية كانت حاضرة، والدليل هو قيام طهران بإفراغ المواقع النووية التي تعرضت للهجمات الأميركية من محتوياتها، قبل عدة أشهر.

الصور التي نُشرت والتي أظهرت قيام شاحنات بنقل مواد من تلك المواقع، يبدو أنها لم تكن سوى نوع من الخداع الذي مارسته طهران، إدراكاً منها أن حركة تلك الشاحنات مراقبة، وبالتالي فإن المكان الذي ستصل إليه سيكون معروفاً لأعدائها.  

حرب دفاعية منضبطة...

الرد الإيراني على العدوان الصهيوني جاء منضبطاً، الهدف منه الابتعاد عن توسيع دائرة المواجهة في المنطقة، لكن التدخل الأميركي المباشر، فرض على إيران حتمية الرد.

الخيارات أمام طهران عديدة، وكان أولها العمل على إغلاق مضيق هرمز، وهو الخيار الذي استبعدته طهران، كونه يضر بمصالحها، ومصالح حلفائها، وعلى رأسهم الصين.

الصين التي كانت استراتيجيتها تركز على الاستفادة من كل أزمة تخوضها الولايات المتحدة الأمريكية في الشرق الأوسط، باتت ترى أن مجرد الاستفادة من الأخطاء الأميركية لم يعد كافياً، وأنه لا بد من وضع حد لتلك الأخطاء.

على أن يكون ذلك على الطريقة الصينية (من دون الدخول في مواجهة مباشرة مع أميركا)، والاكتفاء بتزويد الحلفاء بأسلحة نوعية تؤمن تفوقهم العسكري وقدرتهم على الردع، على غرار ما فعلته خلال دعمها لباكستان في معركتها الأخيرة مع الهند.

صحيح أن العلاقة مع باكستان أكثر أهمية لبكين (حلف وثيق) من العلاقة مع طهران (حلف جديد)، لاعتبارات كثيرة أهمها أن باكستان تدخل في مواجهة مع الهند (العدو التاريخي للصين)، إضافة إلى أن هذه العلاقة أكثر تجذراً وتاريخية من الشراكة الاستراتيجية بين الصين وإيران التي وقعت في العام 2021.

مع الأخذ في الاعتبار أن انشغال أميركا في الصراعات الدائرة في الشرق الأوسط يريح الصين ويخفف الضغط الأميركي عنها، فالحرب الأميركية على تنظيم القاعدة أجلت المواجهة مع الصين لأكثر من عشرين عاماً. 

أما روسيا، فإن جل تركيزها منصب على الحرب في أوكرانيا، وترى أن الدعم الأميركي لـ"إسرائيل" قد يسهم في تخفيف دعمها لأوكرانيا، مع الأخذ في الاعتبار أهمية إيران بالنسبة إلى روسيا.

الاستراتيجية الروسية تقوم على نظرية "النواة والغلاف"، فالنواة هي روسيا، والغلاف هو الدول المحيطة بها، وتأتي إيران ضمن الغلاف الجنوبي لروسيا، رغم أنهما بلدان غير متجاورين.

الروس مستعدون للتضحية بإيران من أجل أوكرانيا، بينما الصين تهمها إيران أكثر، وخاصة أن البلدين وقّعا شراكة استراتيجية مدتها 25 عاماً، وأن مصالح الصين مع دول المنطقة تتعاظم وبشكل مضطرد.

لم تكن طهران لتستهدف المصالح الأميركية إلا بضوء أخضر من حلفائها، فجاء استهداف قاعدة العديد في قطر تكريساً لمبدأ "الرد المتماثل" ولم يكن بالضرورة رداً الهدف منه نقل رسائل سياسية أكثر منها عسكرية، فتهديدات ترامب لإيران بعدم الرد حتّمت عليها الرد على أكبر قاعدة عسكرية أميريكة في المنطقة.

بعد العدوان الأميركي على طهران، جرى الحديث عن تراجع قدرات إيران الصاروخية، فجاء الرد الإيراني ليؤكد تماسك قدراتها الصاروخية حتى الساعة الأخيرة من المعركة، حين استهدفت بئر السبع.

نهج "نشر الحرائق" الذي يمكن لإيران افتعاله في المنطقة لم يكن وارداً، باعتباره من آخر الخيارات التي قد تلجأ إليها طهران، فيما لو استشعرت أن المعركة باتت تهدد وجودها، وهو ما لم يحدث مطلقاً.

بمعنى أن "إسرائيل صرخت أولاً"، وكانت طهران أكثر براعة في سياسة "عض الأصابع" التي اعتادت عليها، وأدركت أهمية "النفس الطويل" في إدارة المعركة، بينما اعتادت "إسرائيل" على "حرب الأيام المعدودة"، فلا طاقة لمستوطنيها على الصبر، وخاصة أن قوارب الفارين منهم قد ملأت البحر.

لم تستطع "إسرائيل" ولا الولايات المتحدة الأميركية جر إيران إلى اللجوء إلى خيار شمشون، وبالتالي استعداء الجميع، وهو ما لم يتحقق نتيجة لإدراك دول المنطقة خطورة سيناريو "هزيمة إيران"، فيما لو حدث.

هزيمة إيران تعني شيئاً واحداً، وهو أن الولايات المتحدة و"إسرائيل" ستبتلعان المنطقة، وهو ما يثير حفيظة القوى الدولية، والقوى الفاعلة في الإقليم.

التحليلات المنطقية للأحداث هي أكثر التحليلات بعداً عن الحقيقة، فالسياسة لا منطق لها، وعلم السياسة علم غير محايد بكل تأكيد.

لقد كانت الحرب على إيران اختباراً لمفاصل الإقليم ولحلفاء الجمهورية الإسلامية الإيرانية، أما الحرب المقبلة فستكون بهندسة جديدة ستعصف بدول كثيرة في المنطقة.

الحديث الإسرائيلي عمّا سُمّي "التحالف الإبراهيمي"، يؤكد أن الحرب المقبلة في الشرق الأوسط ستشهد تحالفاً إسرائيلياً سنياً ضد الجبهة الشيعية، وهنا آمل أن تكون قراءتي للمشهد خاطئة. 

لقد كانت طهران هي المنتصر في هذه المعركة لأنها لم تعلن بعد نهاية الحرب، ولأنها استطاعت التمييز بين خسائر الحرب ونتائجها، فالخسائر يمكن تحملها، إذا كانت النتيجة هي النصر.

"إسرائيل" تشن عدواناً على الجمهورية الإسلامية في إيران فجر الجمعة 13 حزيران/يونيو يستهدف منشآت نووية وقادة عسكريين، إيران ترد بإطلاق مئات المسيرات والصواريخ التي تستهدف مطارات الاحتلال ومنشآته العسكرية.