فرنسا والجزائر من الأزمة إلى القطيعة
التوتر الحاصل بين فرنسا والجزائر قد يصل إلى مستويات سياسية أكثر حدّة، وينتقل من مجرّد كونه أزمة عابرة إلى القطيعة، ولا سيما أنّ هناك شواهد ومتغيّرات وأطراف وخطوات ملموسة تدعم وتدفع باتجاه البرود.
-
التوتر الحاصل بين فرنسا والجزائر قد يصل إلى مستويات سياسية أكثر حدّة.
تدحرج التصعيد بين فرنسا والجزائر لينتقل من مجرّد أزمة سياسية في العلاقات بين البلدين إلى حدود القطيعة الدبلوماسية، متجاوزة بذلك كلّ فرص العودة وحظوظ الجلوس إلى طاولة الحوار المتبادل، وبات التصعيد المتبادل هو السمة الأبرز الحاكمة لمسار العلاقات ومحدّداتها، وتحوّلت المواجهة من مجرّد خلاف سياسي تقليدي إلى مواجهة مفتوحة على كلّ الاحتمالات والخيارات وبكلّ الأدوات وفي الملفات كافة التي تحكم العلاقة بين البلدين وآخرها التبادل الدبلوماسي وامتيازاته.
واستعيدت في الخطابات حيثيات قديمة منذ حقبة الاستعمار، الأمر الذي يعني مراكمة محدّدات التوتر والتصعيد وتحرّكها باتجاه القطيعة. كلّ هذه التطوّرات باتجاه التصعيد يدفع إلى التساؤل هل ما يحدث بين الجزائر وفرنسا مجرّد تصعيد محدود أي ردة فعل مدروسة أم أنّ العلاقات تتجه من الأزمة إلى القطيعة؟
بدت ملامح تدحرج التصعيد الأخيرة وانتقالها من مجرّد أزمة سياسية عابرة وتقليدية إلى إجراءات تصعيدية ملموسة في 7 آب/أغسطس 2025، عندما قرّرت الجزائر إلغاء الاتفاق الثنائي لعام 2013، المتعلّق بالإعفاء المتبادل من التأشيرات لحاملي جوازات السفر الدبلوماسية ومهمات العمل. ويعود هذا الاتفاق إلى سنة 2013 حين وقّعته الحكومتان الجزائرية والفرنسية في الجزائر بتاريخ 16 كانون الأول/ديسمبر 2013، ودخل حيّز التنفيذ رسمياً في 1 أيلول/سبتمبر 2014.
سبق هذا الإجراء إجراء آخر أقدمت عليه الجزائر عندما استدعت سفيرها من باريس في 30 تموز/يوليو 2024، وبالتالي خفّضت التمثيل الدبلوماسي وباتت مسؤولية التمثيل الدبلوماسي الجزائري بمسمّى قائم بالأعمال، وذلك في سياق خطوة ردّ على سياسات فرنسا، قبل أن تردّ باريس في نيسان/أبريل 2025 باستدعاء سفيرها من الجزائر.
شكّلت هذه الإجراءات المتبادلة بين فرنسا والجزائر أزمة حقيقية متصاعدة أفضت لانخفاض وتخفيض قنوات التواصل الدبلوماسي بينهما وبالتالي ازدادت حدّة التصعيد، ولا سيما أنه للمرة الأولى يغيب التمثيل الدبلوماسي الرفيع على مستوى السفراء بين فرنسا والجزائر.
التطوّر الأبرز والأحدث في مسارات التصعيد المتبادل حصل في 26 آب/أغسطس 2025، عندما أصدرت السفارة الفرنسية في الجزائر بياناً حمّلت فيه السلطات الجزائرية مسؤولية تعطّل وتأخير معالجة طلبات التأشيرات وتقليل المواعيد المتاحة أمام طالبي التأشيرة. وقالت السفارة الفرنسية إنّ "وزارة الشؤون الخارجية الجزائرية لم تستجب لطلبات تأشيرة الاعتماد الخاصة بالموظّفين الجدد". وأعلنت السفارة الفرنسية أنه "ابتداءً من 1 أيلول/سبتمبر 2025 المقبل ستشهد السفارة والقنصليات الثلاث انخفاضاً محسوساً في عدد الموظفين بنسبة الثلث".
فجّر بيان السفارة الفرنسية في الجزائر ثلاث أزمات مركّبة: الأولى؛ أنّ السفارة أحدثت أزمة داخلية للجزائر ذلك أنّ تعطيل إصدار التأشيرات أصبح سببه وزارة الخارجية الجزائرية. الثانية؛ أنّ المسكوت عنه أنّ فرنسا ستقلّص عدد موظفيها العاملين في القنصليات الفرنسية بالجزائر مع ما يترتّب على ذلك من تبعات. الثالثة؛ تدخّل السفارة الفرنسية في غير مهامها إذ ليس من شأن السفارة الفرنسية في الجزائر إصدار مثل هذه البيانات، وإصدار البيان من السفارة يعني أنّ الراجح في العلاقة هو التصعيد وأنّ السفارة الفرنسية بدلاً من أن تكون سبباً لخفض التصعيد باتت سبباً للتصعيد ما يعني إقفال كلّ الأبواب الدبلوماسية.
لم يمرّ بيان السفارة الفرنسية وردّت عليه الخارجية الجزائرية ووصفته بأنه "غير مقبول شكلاً ومضموناً"، واعتبرته يغالط الواقع ويشوّه الحقائق ولا يجانبه الصواب، وأكدت الخارجية الجزائرية بأنّ البيان "يخاطب الرأي العامّ الجزائري بشكل مباشر في محاولة لتحميل وزارة الشؤون الخارجية الجزائرية مسؤولية حصرية وكاملة". مؤكّدة أنّ تصرّف السفارة الفرنسية "لا يمكن التسامح معه، لما ينطوي عليه من انتهاك لروح ونصّ اتفاقية فيينا للعلاقات الدبلوماسية لعام 1961".
وأوضحت الخارجية الجزائرية أنّ "عدم اعتماد الموظفين الدبلوماسيين والقنصليين الفرنسيين في الجزائر جاء بعد قرار فرنسي مماثل، يُذكر أنّ فرنسا منذ عامين ترفض اعتماد نحو 46 موظفاً دبلوماسياً وقنصلياً جزائرياً. ونتيجة للرفض الفرنسي لم يتمكّن ثلاثة قناصل عامّين وستة قناصل جزائريين من الحصول على الاعتمادات اللازمة.
لم تكتفِ الجزائر بردّ الخارجية على بيان السفارة الفرنسية، ففي اليوم التالي 27 آب/أغسطس 2025، استدعت وزارة الخارجية الجزائرية، القائم بأعمال السفارة الفرنسية لديها، وذلك احتجاجاً على البيان الذي أصدرته السفارة الفرنسية بخصوص ملف منح التأشيرات، وبالتالي تدحرج التصعيد من تبادل البيانات إلى استدعاء القائم بأعمال السفارة الفرنسية، وتعدّ هذه البيانات والإجراءات التصعيدية أزمة غير مسبوقة بين كلّ من فرنسا والجزائر ومؤشّراً على التدحرج باتجاه اللاعودة نحو القطيعة، حيث تتراكم المؤشّرات على قطيعة استراتيجية باتت شبه مكتملة، رغم ارتباطات المصالح الحيوية بين الجانبين.
تغليب الانتقال من الأزمة إلى القطيعة لا يقتصر على ملف التمثيل الدبلوماسي وموظفي القنصليات، تلك نتيجة لملفات متراكمة باتت كافية وكفيلة بتفخيخ العلاقة بين البلدين مثل ملف الهجرة، وملف النشطاء، ووقف الواردات الفرنسية، وإلغاء اتفاقيات الجوازات الدبلوماسية ومنع فرنسا دخولَ مسؤولين جزائريين إلى أراضيها.
وكان آخر فصول هذه الأزمة منعاً متبادلاً للدبلوماسيين في البلدين من حقّ الدخول إلى منطقة تسلّم وتسليم "الحقيبة الدبلوماسية" داخل المطارات الفرنسية والجزائرية. وملف تجريم الاستعمار وملف التفجيرات النووية التي نفّذتها فرنسا في الصحراء الجزائرية، وملف الألغام المزروعة على طول الحدود الشرقية والغربية للجزائر. وملف الاعتراف والتعويض عن مخلّفات التفجيرات الفرنسية في الجزائر.
عطفاً على ما سبق فإنه من الواضح أنّ التصعيد بين فرنسا والجزائر هو الغالب، وأنّ العلاقات بينهما قد تتدحرج من مجرّد أزمة سياسية إلى قطيعة، وأنّ الأمر لن يقتصر على مجرّد تخفيض التمثيل الدبلوماسي بل قد يتطوّر إلى برود حدّ التجميد في العلاقات مع ما يترتّب على ذلك من تبعات ودلالات.
ومن الواضح أنّ حدود الأزمة لا تقتصر على سوء تقدير من أطراف ثانوية في البلدين، إذ إنه من الواضح أنّ رئاسة البلدين يتجهان إلى التصعيد، وقد أصدر الرئيس إيمانويل ماكرون تعليمات مباشرة لحكومته للتعامل "بحزم" مع ملف الجزائر. مشيراً إلى الكاتب بوعلام صنصال والصحافي كريستوف غليز المسجونين في الجزائر، وهو ما أثار حفيظة الجزائر التي اعتبرت ذلك تدخّلاً في شؤونها الداخلية. وردّت على تصريحات ماكرون بخطاب مرتفع النبرة، يستدعي السيادة الوطنية ويرفض الوصاية.
إنّ التوتر الحاصل بين فرنسا والجزائر قد يصل إلى مستويات سياسية أكثر حدّة، وينتقل من مجرّد كونه أزمة عابرة إلى القطيعة، ولا سيما أنّ هناك شواهد ومتغيّرات وأطرافاً وخطوات ملموسة تدعم وتدفع باتجاه البرود حدّ التجميد في العلاقات.
ولكن هذا لا يعني إغفال أنّ هناك مصالح استراتيجية كبيرة وقديمة بين البلدين، وبالتالي قد تحدث استدارة جزائرية باتجاه أطراف دولية أخرى مثل الصين والولايات المتحدة الأميركية، لكنّ ذلك لا يعني الانفصال التامّ والكامل بين فرنسا والجزائر.
قد تغلب سيناريوهات التصعيد مثل البقاء على التخفيض الدبلوماسي وتجميد التعاون الأمني وتجميد التبادل الاقتصادي والتجاري، وتقليص التأشيرات، وربما مراجعة بعض الاتفاقيات الثنائية. وقد تتدحرج العلاقة بين البلدين لتقف على شفا القطيعة التامّة؛ لكنّ ذلك لا يعني إغفال أنّ هناك أطرافاً وفاعلين في البلدين من مصلحتهما احتواء التصعيد والحيلولة دون الذهاب للقطيعة التامّة والكاملة بل المحدودة فقط والمؤقتة.