غطرسة اليمين الإسرائيلي والنبذ الدولي المتصاعد

يبدو أن "تل أبيب" تقترب أكثر من أي وقت مضى من عزلة دولية شبيهة بتلك التي عاشها نظام الفصل العنصري (الأبارتايد) في جنوب أفريقيا، والذي ساد بين عامي 1948 و1991.

  • مستقبل الاحتلال في ضوء المتغيرات الدولية.
    مستقبل الاحتلال في ضوء المتغيرات الدولية.

منذ نشأتها، سعت "إسرائيل" إلى ترسيخ نفسها كدولة تتبنّى قيم الديمقراطية الغربية في قلب الشرق الأوسط، مدعومة بتحالفات استراتيجية ومظلّة دولية قوية، غير أن التحوّلات الأخيرة، وخاصة منذ عملية "طوفان الأقصى" التي نفذتها المقاومة الفلسطينية في 7 أكتوبر 2023، وما أعقبها من حرب مدمرة على قطاع غزة، وضعت صورة الكيان الإسرائيلي على المحك.

فبينما كانت تروّج حكومة الاحتلال لنفسها كـ"ضحية للإرهاب"، تكشّفت أمام العالم فظائع الحرب وجرائم ضد المدنيين العزل، ما أدى إلى انعطافة جذرية في الموقف الدولي منها، فلم تعد "إسرائيل" تُعامل كدولة فوق القانون، بل باتت في نظر قطاعات متزايدة من المجتمع الدولي دولة مارقة تنتهك القانون الإنساني الدولي، وتمارس سياسات فصل عنصري والاضطهاد الجماعي.

فمن التظاهرات العالمية المليونية، إلى قرارات المحاكم الدولية، والمقاطعات الثقافية والأكاديمية المتزايدة، يبدو أن "تل أبيب" تقترب أكثر من أي وقت مضى من عزلة دولية شبيهة بتلك التي عاشها نظام الفصل العنصري (الأبارتايد) في جنوب أفريقيا، والذي ساد بين عامي 1948 و1991.

منتصف الأسبوع الماضي، أعلن قادة المملكة المتحدة وفرنسا وكندا في بيانٍ مشترك، معارضتهم توسّع العمليات الحربية الإسرائيلية في غزة، معتبرين أن كمية الغذاء التي تصل إلى غزة غير كافية، مهددين باتخاذ إجراءات ملموسة، بما يشمل العقوبات، إذا لم تتوقف حكومة نتنياهو عن "أفعالها المشينة"؛ تلى ذلك إعلان لندن تعليق محادثات التجارة الحرة مع "إسرائيل" واستدعاء سفيرتها، وفرض عقوبات على مستوطنين في الضفة الغربية؛ في الوقت ذاته، صعّد وزير الخارجية الفرنسي جان نويل بارو من لهجته، واصفاً الممارسات الإسرائيلية بأنها حوّلت قطاع غزة إلى "مكان للموت، إن لم يكن مقبرة"!.

بالوتيرة نفسها، أصدر الاتحاد الأوروبي قراراً بمراجعة اتفاقية الشراكة الاقتصادية مع الحكومة الإسرائيلية القائمة منذ نحو عشرين عاماً، وعودة نواياه بالاعتراف بدولة فلسطينية، متهماً "إسرائيل" بعدم الالتزام بالمادة الثانية من اتفاق الشراكة، والتي تحث على احترام حقوق الإنسان والمبادئ الديمقراطية، وتُشكّل عنصراً أساسياً في هذه الاتفاقية.

 تلك المواقف بحدّ ذاتها، غير كافية لإجبار قوات الاحتلال على وقف عدوانها على قطاع غزة، فكل بيان أو موقف أوروبي نحا باتجاه إدانة حكومة نتنياهو، كان مصحوباً بـ"تأييد حق إسرائيل بالدفاع عن نفسها في مواجهة الإرهاب"، لكن التطوّر في الموقف الدولي ينصبّ على فكرة أن "الرد الإسرائيلي المشروع" كان مبالغاً فيه وغير متكافئ، لذا بدأت الأصوات الرسمية تعلو بوتيرة منتظمة في اتجاه الضغط على "تل أبيب" حتى إيقاف الاستهداف المستمر لأبناء غزة.

أما لماذا هي غير كافية؟ فلأن قادة اليمين الإسرائيلي باتوا يواجهون مثل تلك المواقف الأوروبية بتحدٍ غير مسبوق وبنوعٍ من الطيش واللا مبالاة، وهم يتصورون أنهم "ضحايا" يناضلون بذلك في سبيل "تحرير إسرائيل من سلطة الأوروبيين"، أو أنهم "رسُل الحضارة في مواجهة الهمجية"، حتى إنّ المتحدث باسم وزارة الخارجية الإسرائيلية، في تعقيبه على بيان بريطانيا الأخير، قال: "لقد انتهى الانتداب البريطاني قبل 77 عاماً، وأن الضغط الخارجي لن يُثني إسرائيل عن الدفاع عن وجودها وأمنها ضد أعداء يسعون لتدميرها"!.

المشكلة أن أحزاب أقصى اليمين في "إسرائيل" باتت تتعامل مع الوقائع التاريخية كأنها ضرب من الخيال، فهناك إغفال تام لكون "إسرائيل"، في جوهرها، غَرساً استعمارياً غربياً، ومخططاً احتضنه وزير خارجية بريطانيا اللورد هنري بالمرستون في القرن التاسع عشر، لإقامة "حاجز بشري" في فلسطين، يحول دون تمدد عرب أفريقيا نحو المشرق العربي، ويُعزّز من واقع التجزئة العربية؛ ثم لاحقاً وفّر الاستعمار الإنكليزي كل أسباب نشوء الكيان، بعد احتلال فلسطين، ودخول قائد القوات البريطانية، الجنرال إدموند ألنبي، مدينة القدس في 9 نوفمبر/تشرين الثاني 1917، ثم لاحقاً إعلان الانتداب وتفعيل وعد بلفور الذي يقضي بتأسيس "دولة وطنية للشعب اليهودي"، ما أسفر عن تضاعف عدد السكان اليهود في فلسطين من 10% من إجمالي السكان عام 1920 إلى نحو 31.5% بحلول عام 1948.

وبعيداً من التاريخ القديم، فإن المساندة الغربية، سواء من واشنطن أو العواصم الأوروبية الكبرى، هي فعلياً ما مكّن "إسرائيل" من الوقوف على قدميها بعد عملية "طوفان الأقصى". ولولا أن قامت واشنطن بإرسال حاملتي الطائرات "يو إس إس جيرالد فورد" و"يو إس إس دوايت أيزنهاور"، ومجموعة من السفن الحربية، وغواصة النووية من طراز "أوهايو" إلى منطقة الشرق الأوسط، بالتزامن مع الإعلان عن جسر جوي وبحري استمر حتى أغسطس/آب 2024، لانهار الكيان الإسرائيلي، مجتمعياً وعسكرياً، أمام صواريخ محور المقاومة التي كانت تلاحقه من مختلف الساحات معظم فترات عام 2024.

 تصاعد الضغوط الدولية وأثرها المحتمل

بالرغم من الجدل المثار حول تقييم الأثر الناجم عن المواقف الأوروبية الرافضة لاستمرار الحرب على قطاع غزة، فإن من المهم، على المستويين العربي والفلسطيني، استثمار هذه المواقف لدعم الجهود التي تفضح جرائم الاحتلال، وتوجيه الرأي العام العالمي نحو عزل "إسرائيل" والتعامل معها كرمز للظلم في العصر الحديث. فمثل هذا التوجه، حتى إن لم يؤتِ ثماره فوراً، يمكن أن يُسهم في تعزيز المكاسب الفلسطينية على المدى البعيد.

حتى على الصعيد الإسرائيلي الداخلي، فثمة حالة انقسام تتصاعد إزاء الموقف من استمرار الحرب، فاليوم لم يعُد أهالي الأسرى الإسرائيليين والناشطين اليساريين وحدهم من يضغطون على الحكومة لوقف الحرب، هناك أيضاً وجوه معارضة، محسوبة على يسار الوسط، من أمثال زعيم حزب "الديمقراطيين"، واللواء المتقاعد في "جيش" الاحتلال، يائير غولان، الذي صرّح بأن سلوك "إسرائيل" في غزة يهدد بوضعها على مسار التحول إلى دولة منبوذة بين الدول مثلما كانت جنوب أفريقيا في يوم من الأيام.

تصريحات غولان، أشعلت النيران داخل "إسرائيل"، وجلبت له هجوماً من جميع الأطياف السياسية تقريباً، من أقصى اليمين إلى الوسط المعتدل، فهاجمه رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، ووزير الخارجية جدعون ساعر، ووزير الحرب يسرائيل كاتس، ووزير الاتصالات شلومو كرعى.. حتى إن البعض دعا إلى تجريده من رتبة "لواء"!، لكن هذا الهجوم الشرس، من جهة أخرى، فجّر جدلاً لا ينتهي داخل المجتمع الإسرائيلي حول نظرة العالم إلى حكومتهم، وكيف أن الأمور تزداد سوءاً يوماً بعد آخر.

 بعض المحللين السياسيين الإسرائيليين يُقللون من أهمية المواقف الأوروبية، ما دام الدعم الأميركي مستمراً، لكن واقعياً، من الصعب تجاوز أن دونالد ترامب، أحد أقرب حلفاء "تل أبيب"، تجاهل نتنياهو خلال أول زيارة خارجية برّاقة قام بها إلى منطقة الشرق الأوسط منتصف الشهر الجاري، حين تعمّد عدم التعريج على "إسرائيل"، ما يؤكد أن حكومة الاحتلال باتت اليوم عبئاً على الإدارة الأميركية، وأن الأخيرة تفكّر في دعم كل ما يسهّل التخلص من تلك الحكومة، وحتى يحدث ذلك فإن واشنطن قد تفضّل التعامل مع قوى أخرى في الشرق الأوسط.

ومن المؤكد أن مواقف الزعماء الأوروبيين الأخيرة الناقِدة لممارسات الاحتلال الإسرائيلي، تنبع بشكلٍ أو آخر من سياسة واشنطن التي لم تعد متحمسة للدفاع عن "إسرائيل" كما كانت، وبالتالي بدأت تغضّ الطرف عن المواقف الدولية الرافضة لغطرسة نتنياهو؛ والأكيد أن انصراف الإدارة الأميركية عن مهمة "الدفاع الدبلوماسي والدعائي عن إسرائيل" سيُحفّز آخرين للنزول إلى الميدان، وسَيولّد مزيداً من الانتقادات الدولية أو ستُتخذ إجراءات ملموسة ضد "إسرائيل".

مستقبل الاحتلال في ضوء المتغيرات الدولية 

مع تصاعد الضغوط الدولية وازدياد عزلة "إسرائيل" على الصعيدين السياسي والإنساني، يبدو أن حكومة نتنياهو تواجه تحديات لم تشهدها من قبل. الدعم الغربي، الذي كان يشكل عصباً أساسياً لبقاء الكيان الإسرائيلي في مواجهة الأزمات، بدأ في التراجع، ما يعكس تغيراً في موازين القوى الدولية. وفي الوقت ذاته، يشهد المجتمع الإسرائيلي انقساماً داخلياً حول استمرارية الحرب.

إذا استمر هذا الاتجاه التصاعدي في الضغط الدولي، فقد تجد "إسرائيل" نفسها في عزلة متزايدة. بينما تبقى الأوضاع الفلسطينية في قلب الصراع، فإن النجاح في تعزيز هذا الضغط الدولي سيظل يشكل أحد العوامل الرئيسية في إعادة صياغة موازين القوى في المنطقة، وربما يسهم في تحقيق تقدم على صعيد العدالة الفلسطينية في المستقبل القريب.