عام ونيّف على الطوفان: حرب العقول الإستراتيجية المستعرة
في إطار الحديث عن التحوّط والتهديد السياسي والعسكري المعلن الذي اتبعته واشنطن لحماية "إسرائيل"، يمكن لنا أن نرصد العديد من الإجراءات التي لجأت إليها واشنطن في تكتيكها.
كان الرئيس الإيراني، مسعود بزشكيان، عائداً للتو من نيويورك حيث ألقى خطابه أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، والذي أوضح فيه أن طهران مستعدة للجنوح للسلم في حال فعلت واشنطن الأمر ذاته، وأنها على استعداد لوقف إطلاق النار إذا كانت واشنطن ترغب في ذلك، غير أن الرد الإسرائيلي على تصريحات بزشكيان لم يتأخر، وترجمته عشرات الأطنان من المتفجرات التي ألقتها الطائرات الإسرائيلية على الضاحية الجنوبية لبيروت ليلة السابع والعشرين من أيلول الفائت/سبتمبر نتج منها اغتيال الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله، ومعه القائد في حرس الثورة الإيرانية الجنرال عباس نيلفروشان، لتدخل المنطقة مرحلة جديدة ومفصلية وشديدة الخطورة من الصراع بعد ما يقارب العام من انطلاقة "طوفان الأقصى" في 7 أكتوبر 2023.
لا تكمن الخطورة فقط في ما كشف عنه الرئيس الإيراني بزشكيان بعد تلك الجريمة عندما قال إن “ادعاءات قادة الولايات المتحدة والدول الأوروبية الذين وعدوا بوقف إطلاق النار مقابل عدم الرد الإيراني على اغتيال الشهيد هنية كانت محض أكاذيب”، وأضاف أن "إعطاء الفرصة لهؤلاء المجرمين لن يفعل شيئاً سوى تشجيعهم على ارتكاب المزيد من الجرائم".
وشدد على أن "جرائم النظام الصهيوني غير مقبولة، ولن تبقى من دون رد”، بل إن ما هو أشد خطورة من ذلك ما جاء في كلام رئيس الوزراء الصهيوني بنيامين نتنياهو الذي أفصح عن مخططه بُعيْد جريمة اغتيال السيد نصر الله بقوله "لقد بدأنا للتو، وسنغيّر الشرق الأوسط".
بناءً على ذلك، بات الرد الإيراني ضرورةً لا مفرّ منها من أجل إعادة الصراع إلى سياقه التوازني ومعادلاته الردعية التي توهّم الكيان الإسرائيلي ومن خلفه الغرب الجماعي أنهم تمكنوا من كسرها، وأنهم باتوا أمام لحظة استثنائية يستطيعون من خلالها إحداث تحوّل استراتيجي ونوعي في الصراع لصالحهم، قبل أن يفاجئهم الهجوم الصاروخي الإيراني الحاسم الذي استهدف القواعد والمقار والمطارات العسكرية في وسط الكيان الإسرائيلي وجنوبه بما يقارب 200 صاروخ باليستي وفرط-صوتي تمكنت 90% منها من الوصول إلى أهدافها في ظل عجز منظومات الدفاع الجوي الإسرائيلية و الأميركية في داخل الكيان وفي الإقليم عن التصدي لها.
ولم تقتصر نتائج الهجوم الصاروخي الإيراني على إعادة التوازن الإستراتيجي والعسكري والسياسي للمعركة، بل تعدت ذلك إلى البعد الجيوسياسي الإقليمي المتمثل بالحفاظ على النتائج التي فرضتها جبهة المقاومة خلال عام من المعركة على امتداد الجغرافيا الإقليمية، وبالإضافة إلى ذلك، فقد ساهم الهجوم الصاروخي الإيراني في تهيئة الظروف وتوفير الوقت الكافي لحزب الله لامتصاص الصدمة و احتواء الحدث الجلل ومعالجة الفراغ في الهيكلية و البنية الذي أحدثته جرائم العدو الإسرائيلي عبر عمليات الاغتيال الغادرة التي طالت قيادات الحزب الميدانية وصولاً إلى أمينه العام.
اليوم، وبعد ما يزيد على عامٍ من الطوفان أصبح المشهد أكثر وضوحاً، و الصراع أشد خطورة، وما كان مستوراً منذ ما قبل الطوفان صار مكشوفاً، والحرب الوحشية الهجينة والمركبة التي تشنها "إسرائيل" بتنسيق كامل وفاضح مع الولايات المتحدة لم تكن تهدف إلى استعادة الأسرى الصهاينة لدى المقاومة الفلسطينية، وليست الغاية منها تأمين عودة الصهاينة إلى المستوطنات التي نزحوا عنها في شمال فلسطين المحتلة، ولقد بات واضحاً وعلنياً أن الأهداف الحقيقية لحرب الإبادة الجماعية الإسرائيلية تتمثل بالتوسع و السيطرة وفرض النفوذ الصهيو-أميركي على المنطقة من خلال تصفية القضية الفلسطينية واحتلال جغرافيا جديدة بكل الاتجاهات من غزة إلى الضفة الغربية، ومن جنوب لبنان إلى الأردن وسوريا ومصر، وتلك الأهداف عبّر عنها صراحة العديد من قادة الكيان الصهيوني ومنظّريه السياسيين و العسكريين، وإلى ذلك أشار قائد الثورة الإسلامية في إيران السيد علي خامنئي في خطابه الأخير محذراً من أن الغرب الجماعي يريد "تحويل هذا الكيان إلى بوابة لتصدير الطاقة من المنطقة إلى بلاد الغرب، واستيراد البضائع والتقانة من الغرب إلى المنطقة، وهذا يعني ضمان وجود المغتصب، وجعل المنطقة بأجمعها تابعة له".
إن الزلزال الجيوسياسي والعسكري والسياسي الذي خلّفه الهجوم الصاروخي الإيراني، والذي أصاب المخطط الصهيوـ أميركي بمقتل، دفع واشنطن و"تل أبيب" إلى إعادة التفكير في الوسائل و الأدوات و الخطط اللازمة عبر اللجوء إلى التحوط والتهديد والزجّ بأقصى عوامل القوة الممكنة التي تمتلكها الولايات المتحدة والتي لطالما احتكرتها لنفسها حتى عن أقرب حلفائها، ولقد بات واضحاً أن الولايات المتحدة لا تستطيع التسليم بنتائج الصراع الحالية، والتي أفقدتها التفرد والهيمنة على المنطقة الأهم في العالم جيوسياسياً و جيواقتصادياً وتجارباً وطاقوياً، كما إنها لا تستطيع المغامرة بحرب شاملة لا يمكنها تقدير نتيجتها والتورط بها في الوقت الذي يتربص بها خصومها من بكين إلى موسكو، وكذلك ليس لديها إمكانية لحسم الصراع بالضربة القاضية.
وكان ملاحظاً أنه في المرات السابقة التي كان يعتدي فيها الكيان الإسرائيلي على إيران، أو أحد مكونات محور المقاومة أو مصالح المحور أو ينفذ عمليات اغتيال، فإن الولايات المتحدة كانت حريصة على عدم الظهور بمظهر المشارك في تلك الاعتداءات، بل إنها كانت تنفي علمها المسبق بها، أما اليوم وفي ظل التهديدات الإسرائيلية بالرد على الهجوم الصاروخي الإيراني، فإن واشنطن تتعمّد إظهار مناقشاتها وتنسيقها المسبق ومشاركتها في وضع الخطط مع "إسرائيل" في هذا الخصوص.
وفي إطار الحديث عن التحوّط والتهديد السياسي والعسكري المعلن الذي اتبعته واشنطن لحماية "إسرائيل"، يمكن لنا أن نرصد العديد من الإجراءات التي لجأت إليها واشنطن في تكتيكها:
أولاً؛ تعمّدت واشنطن الظهور بمظهر المفاوض لحكومة نتنياهو التي هددت باستهداف المنشآت النووية والنفطية الإيرانية، لينتهي السجال المسرحي بينهما بموافقة نتنياهو على ردّ يستهدف المواقع العسكرية الإيرانية فقط.
ثانياً؛ أعلنت واشنطن عن خططها لإرسال المزيد من الجنود الأميركيين إلى الشرق الأوسط إلى جانب المزيد من القطع العسكرية البحرية بما يتناسب مع إعادة انتشار قواتها في المنطقة.
ثالثاً؛ أعلنت وزارة الدفاع الأميركية – البنتاغون، وبناءً على توجيهات الرئيس الأميركي بايدن، عن قرارها بإرسال منظومات الدفاع الجوي المتطورة "ثاد" إلى "إسرائيل" لحمايتها من أي رد إيراني على العدوان الإسرائيلي المرتقب، يرافقها 100 من الجنود الأميركيين لتشغيلها، وذلك بعد الفشل في التصدي للهجوم الصاروخي الإيراني الأخير.
رابعاً؛ سرّبت "فوكس نيوز" عن الرئيس الأميركي جو بايدن أن مجلس الأمن القومي قام بإبلاغ إيران بشكل واضح أن أي محاولة لاغتيال الرئيس السابق دونالد ترمب ستعدّ عملاً حربياً، وتزامن ذلك مع تسريب آخر لـ"واشنطن بوست" قالت فيه إن نتنياهو وافق على عدم استهداف المنشآت النووية الإيرانية، ويبدو من هذين التسريبين أن واشنطن تريد القول لطهران بأن عليكم امتصاص الرد الإسرائيلي المرتقب ما دام أنه سيطال أهدافاً عسكرية فقط، وإلا فإن واشنطن ستكون جاهزة لخلق مبرر وسبب للدخول المباشر في المواجهة، حتى لو وصل الأمر إلى حد اغتيال ترامب واتهام طهران بذلك.
خامساً؛ تعمّدت واشنطن الزجّ بالقاذفات الإستراتيجية الشبحية B52 في عدوانها الأخير على اليمن، فيما بدا وكأنه رسالة قوة أرادت إيصالها إلى إيران وجبهة المقاومة.
سادساً؛ عمدت واشنطن وعبر السفارة الأميركية في بيروت إلى تحريك عملائها في الداخل اللبناني في محاولة للإيحاء بالولوج في ما سمّته "عصر ما بعد حزب الله".
سابعاً؛ في ظل رفض الدول العربية و الإقليمية استخدام أراضيها و أجوائها لمهاجمة إيران، عمدت واشنطن إلى تسريب معلومات مضللة عن تهديدات إيرانية لدول المنطقة بهدف خلق حالة من التمحور الإقليمي لدفع الدول الغربية و الإقليمية إلى الوقوف علناً إلى جانب المحور الصهيو-أميركي في أي مواجهة عسكرية مباشرة ومفتوحة.
يمكن لنا أن ننتقل من ذلك للقول بأن خلف مسرح الأحداث المُشاهَد تدور حرب من نوع مختلف يمكن توصيفها بأنها حرب العقول الإستراتيجية التي تدير الصراع من الناحيتين التكتيكية والإستراتيجية، وكيفية الزج بأوراق القوة في المواجهة بالتدريج و التتابع وفق ما تقتضيه كل مرحلة من المواجهة. وفي هذا السياق، يمكن لنا أن نتذكر كيف استنزفت المقاومة اللبنانية سلاح الدبابات الإسرائيلي عام 2006، ولننظر اليوم كيف يجري وسيجري استنزاف منظومات الدفاع الجوي الإسرائيلي بسلاحَي الصواريخ والمسيرات، وهذا الاستنزاف لا يقتصر على المنظومات الإسرائيلية فقط، بل يتعداه إلى المنظومات الأميركية و الغربية، و منها "ثاد" وغيرها، وصولاً إلى المصانع المختصة في الكيان والغرب والتي لم تعد طاقتها الإنتاجية تكفي لتغطية متطلبات المعركة في حال تطورها.
ويمكن لنا الانتباه إلى آلية الزج التدريجي بأنواع المسيّرات والصواريخ من قبل جبهات الإسناد، وكيف أن جبهة المقاومة ما زالت تحتفظ بمخزون هائل من المسيرات والصواريخ المعلومة و غير المعلومة من حيث قدراتها والتكنولوجيا التي تعتمدها، وكيف ظهر ذلك جلياً عندما استهدفت المقاومة اللبنانية قاعدة "بنيامينا" معلنة الانتقال إلى مرحلة الإيلام، في الوقت ذاته الذي هددت فيه المقاومة العراقية بالانتقال إلى المرحلة الخامسة من التصعيد التي لن تستثني أيّاً من الأهداف داخل فلسطين المحتلة بما فيها المنشآت النفطية و مفاعل "ديمونا"، بينما تكفل اليمن بمزيد من المفاجآت، براً وبحراً وجواً، وعلى صعيد سلاح الصواريخ، وأما الإيراني فيمارس دبلوماسية القوة و الحلّ والتي قادت وزير خارجيته عباس عراقتشي عبر جولاته المكوكية إلى دول المنطقة معلناً استعداد بلاده لوقف إطلاق النار فيما كانت طهران تجهز 3000 من صواريخها النوعية للرد الحاسم على أي عدوان إسرائيلي محتمل، في ظل مطالبات داخلية بتغيير العقيدة النووية الإيرانية.
لا شك في أنه، ومن خارج رقعة الصراع الحالية، هناك من يتبنى ذلك أيضاً بعقل إستراتيجي بارد، ويشارك فيه بشكل غير مباشر، وكما كان منتشياً بلعبة الكورنيت عام 2006، سيشعر بالنشوة في لعبة الصواريخ و المسيرات اليوم، وخصوصاً أنه قد عانى من لعبة الاستنزاف التي مورست عليه في الجبهة الأوكرانية، نعم إنها موسكو التي بلا شك تتابع وتنظر بغبطة ونشوة إلى معركة الاستنزاف التي يخوضها محور المقاومة في وجه أحدث صنوف الأسلحة الغربية والأميركية، في ظل اتهامات غربية لها بالمشاركة في الصراع بشكل مباشر أو غير مباشر.
وليس من باب المصادفة أن يعلن الرئيس الأميركي بايدن عن رغبته في لقاء الرئيس الروسي بوتين على هامش قمة العشرين بُعيْد يومين من الهجوم الصاروخي الإيراني الأخير على "إسرائيل"، كما إنه ليس من باب المصادفة أن يلتقي الزعيمان الروسي و الإيراني في تركمانستان في لقاء مطول على هامش إحدى الاحتفاليات الحضارية التاريخية، على الرغم من قرب لقائهما في قمة "بريكس" المقبلة، كما إنه ليس من باب المصادفة أيضاً ما قاله الناطق باسم الكرملن حول عدم الكشف عما إذا كانت اتفاقية الشراكة الإستراتيجية بين روسيا و إيران تتضمن بنوداً خاصة بالدفاع المشترك.
إن كل ذلك يشير كما ذكرنا إلى حرب العقول الإستراتيجية التي تدور خلف مسرح الصراع المشاهد، وتنقله من الإقليمية إلى العالمية في ظل الصراع المحتدم نحو عالم جديد.