صراع الانتخابات الرئاسية في فنزويلا وتحالفاتها
إذا تقدّمت المفاوضات مع الولايات المتحدة، بمقدور فنزويلا اللعب بورقة النفط لانتزاع مكتسبات أهمّها فك الحصار تدريجياً واسترجاع مبالغ مالية طائلة استولت عليها واشنطن.
للمرة الأولى منذ أكثر من 25 عاماً، يواجه الحزب الاشتراكي الموحّد تحدّياً جادّاً في سباق الانتخابات الرئاسية المقرر إجراؤها في الـ 28 من الشهر الجاري، ومع ذلك فالحزب تغلَّب مؤخراً على بعض الخلافات في صفوفه الداخلية حول الأزمة الاقتصادية الراهنة، ما قاد بدوره إلى تماسكه وتعزيز علاقته ببعض الأحزاب المقرّبة والأحزاب اليسارية الأخرى، وتقوية قواعده الشعبية في جميع أنحاء البلد.
وفي المقابل، راجعت جميع قوى المعارضة – من الوسط إلى أقصى اليمين – موقفها المقاطع للانتخابات الرئاسية التي أجريت عام 2018، والتي اتهمت فيها حكومة الرئيس نيكولاس مادورو بتزوير نتائجها لصالح الأخير، وقررت في نهاية العام الماضي المشاركة في الانتخابات الرئاسية القادمة، واستطاعت خلال السنوات الأخيرة إعادة تنظيم صفوفها التي ما زالت متماسكة، بالرغم من الانشقاقات العديدة في أحزابها وائتلافها خلال الشهرين الماضيين.
يؤكد العديد من المعارضين الذين انشقّوا عن ائتلاف أحزاب المعارضة خلال الشهرين الماضيين أنه لم يعد من الممكن دعوة الشعب الفنزويلي إلى التخلّي عن التشافيزية والبرنامج الاشتراكي الذي وضعه هوغو تشافيز وحزبه الحاكم منذ أكثر من 25 عاماً، ونتيجة لذلك من المرجّح أن يذهب عدد كبير من الأشخاص إلى صناديق الاقتراع في الانتخابات القادمة مقارنة بأي انتخابات سابقة.
وعلى أيّ حال، ما لم تتجه المعارضة إلى استخدام العنف في الأيام القليلة القادمة، من المرجّح أن يحقق الرئيس مادورو فوزاً كاسحاً على منافسيه، وتشير استطلاعات الرأي إلى تقدّم الأخير على سائر المرشحين بحصوله على 56% من الأصوات، متجاوزاً بكثير إدموندو غونزاليس، مرشّح المعارضة الذي حصل على 19% فقط.
الأحزاب والمرشحون
تشارك في الانتخابات الرئاسية ثلاثة ائتلافات حزبية عريضة هي ائتلاف "القطب الوطني الكبير" البوليفاريّ التشافيزيّ الذي يضم الحزب الحاكم إلى جانب 8 أحزاب أخرى، وائتلاف "البديل الثوري الشعبي" البوليفاريّ التشافيزيّ الذي يضم الحزب الشيوعي الفنزويلي إلى جانب 10 أحزاب أخرى، وائتلاف أحزاب المعارضة "المنصة الوحدوية" الليبرالي المعارض للتشافيزية الذي يضم حزب العمل الديمقراطي إلى جانب 9 أحزاب أخرى تتراوح بين تيّاريّ الوسط واليمين.
إجمالاً، يشارك في الانتخابات 37 حزباً – إضافة إلى ائتلاف أحزاب المعارضة – يدعمون 10 مرشّحين؛ يدعم مادورو 13 حزباً على رأسها الحزب الاشتراكي الموحّد والحزب الشيوعي الفنزويلي، بينما يدعم ائتلاف "المنصة الوحدوية" وحزبين آخرين غونزاليس، وتدعم أنطونيو إيكاري 6 أحزاب، ولويس مارتينيز 6 أحزاب، وخوسيه بريتو 4 أحزاب، ودانييل سيبالوس حزبين اثنين، في حين يلقى المرشّحون الأربعة الآخرون – كلاوديو فيرمين، بنيامين راوسيو، إنريكي ماركيز، خافيير بيرتوتشي – تأييد حزب واحد وحيد لكل مرشّح على حدة.
يقدر عدد الناخبين المؤهلين في البلاد بنحو 21 مليوناً، إضافة إلى نسبة صغيرة استوفت معايير المشاركة تقدّر بنحو 100 ألف ناخب من أصل نحو 4 ملايين فنزويلي يعيشون في الخارج.
تقع جميع أماكن الاقتراع تقريباً في المدارس العامة، ويبلغ عدد مراكز الاقتراع أكثر من 3000 مركز، وسيتولّى عناصر من الجيش البوليفاري تأمين الانتخابات ومراكز الاقتراع، ويصوّت الفنزويليون باستخدام آلات إلكترونية تسجّل الأصوات وتوفّر في الوقت نفسه قوائم ورقيّة تودع في صناديق الاقتراع داخل المراكز.
يشار إلى أن الفنزويليين الذين يعيشون في الولايات المتحدة ليس لديهم أي وسيلة للمشاركة في الانتخابات؛ لأن قنصليات بلدهم مغلقة منذ قطع العلاقات الدبلوماسية بين البلدين عام 2018 على إثر أحداث العنف المصاحبة للانتخابات الرئاسية، والتي أعلنت خلالها واشنطن اعترافها بخوان غوايدو، زعيم المعارضة السابق والمنفيّ حالياً، رئيساً للبلاد، في مخالفة صريحة لنتائج الانتخابات وقرار غالبية الشعب الفنزويلي.
وفي الوقت الذي تسعى فيه فنزويلا إلى أن تصبح عضواً كاملاً في مجموعة "بريكس"، وهو ما سيتحقق غالباً نهاية هذا العام أو بداية العام القادم، دعا المجلس الانتخابي الوطني الفنزويلي جميع دول "بريكس"، وعلى رأسها الصين وروسيا، إلى إرسال بعثات للمشاركة في مراقبة الانتخابات، وفي الوقت ذاته، سحب المجلس دعوته إلى الاتحاد الأوروبي بسبب سياسة العقوبات المستمرة التي ينتهجها الأخير تجاه البلد.
وقدّم المجلس أيضاً دعوات للمشاركة في مراقبة العملية الانتخابية إلى الأمم المتحدة ومجموعة دول أميركا اللاتينية ومنطقة البحر الكاريبي، ومجموعة الكاريبي، والاتحاد الأفريقي، ومركز كارتر الرئاسي الذي يقع مقره في الولايات المتحدة.
زعيمة المعارضة تُمنع من الترشّح وواشنطن تكثّف العقوبات
أفضت مفاوضات كاراكاس وواشنطن خلال العام الماضي إلى اتفاق يُلزم حكومة مادورو بإتاحة الطعن في استبعاد بعض مرشحي المعارضة في محكمة العدل العليا، مقابل تخفيف واشنطن العقوبات الاقتصادية على قطاع النفط الفنزويلي؛ لم توقّع الولايات المتحدة هذه الاتفاقية من موقع قوّة، وإنما نتيجة العزلة النسبية التي واجهتها من مجموعة "الأوبك" التي تحوز نحو 60% من الإنتاج العالمي للنفط، إلى جانب عدم قدرتها على فرض سلطتها الكاملة على المملكة العربية السعودية؛ يأتي ذلك بمنزلة تحوّط الولايات المتحدة وسعيها إلى إعادة النفط الفنزويلي إلى السوق العالمية.
ولكن هذا الاتفاق لم يكتب له أن يستمر، لأن ماريا ماتشادو، زعيمة المعارضة، استُبعدت من سباق الانتخابات وتولي أي منصب عام لمدة 15 عاماً، ورفضت المحكمة العليا طلب الطعن الذي قدَّمته.
وعلى إثر ذلك، أنهت إدارة بايدن الاتفاق ومفاوضاته خلال العام الجاري، وعادت واشنطن إلى تكثيف العقوبات والتهديد بالتدخل العسكريّ. وخلال الشهر الماضي، عيَّنت الجمعية الوطنية الفنزويلية مجلساً انتخابياً وطنياً جديداً سيشرف على الانتخابات الرئاسية المقبلة، وقوبل المجلس الجديد بالرفض من قبل المعارضة وحلفائها في الولايات المتحدة.
وبالرغم من استبعادها من الانتخابات، استمرت ماتشادو في عقد التجمّعات السياسية في جميع أنحاء البلد وطالبت أتباعها بالتصويت لصالح غونزاليس كبديل عنها.
ولم تكتف بذلك وراحت تطلب من حلفائها في واشنطن أن يقوموا بغزو فنزويلا، ومن المهم هنا الإشارة إلى أنها تورطت في محاولات اغتيال مادورو عام 2018، وأنّها لاقت دعماً خارجياً من الرئيس الأرجنتيني آنذاك موريسيو ماكري ورئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، اللذين دعما الإطاحة بمادورو وحكومته.
بزغ نجم ماتشادو، المقربة من ساسة واشنطن، عام 2023 لتملأ الفراغ الذي تركه غوايدو وزملاؤه من قادة المعارضة المنفيين في الخارج، وفازت في نهاية العام الماضي بانتخابات أجرتها المعارضة بشكل مستقل في صفوفها لاختيار قيادة جديدة، وحصلت على 90% من أصل نحو 2 مليون ناخب، لكن الحكومة أعلنت عدم شرعية الانتخابات وأصدرت أوامر اعتقال بحق عدد من أنصار ماتشادو وألقت القبض على بعض أعضاء فريق عملها ومنعتها من الترشّح فيما بعد.
أما غونزاليس، فبدأ مسيرته الدبلوماسية كمساعد لسفير فنزويلا في الولايات المتحدة خلال أواخر السبعينيات، وشغل مناصب في بلجيكا والسلفادور، وعمل سفيراً لكاراكاس في الجزائر، وشغل آخر منصب له سفيراً لدى الأرجنتين خلال السنوات الأولى من رئاسة تشافيز. ويقتصر نشاط غونزاليس في حملته الانتخابية على الاجتماعات المغلقة والتجمعات الصغيرة، فيما تتصدَّى ماتشادو، زعيمة المعارضة، للترويج له ضمن أعمال جماهيرية أوسع.
حوار الحكومة والمعارضة
خلال الأسبوعين الماضيين، عقد مادورو لقاءات مع بعض قيادات المعارضة وأحزابها وبعض مرشّحي الرئاسة. واقترح المجلس الانتخابي الوطني، ضمن هذا السياق، اتفاقاً يقضي بأن يعترف المرشحون بنتائج الانتخابات أيّاً كانت، وخلال الأسبوع الماضي، حضر مادورو مع سبعة مرشّحين آخرين في مقر المجلس بكاراكاس، ووقّعوا وثيقة تضم تسع نقاط تشمل التعهّد بالامتثال للدستور والقانون والاعتراف بالمجلس بصفته السلطة الشرعية الوحيدة ضمن العملية الانتخابية، ونبذ العنف وضمان سلمية الانتخابات، والدفاع عن السيادة الوطنية وحق تقرير المصير، والمطالبة برفع العقوبات الاقتصادية، ورفض وإدانة أي تمويل من مصادر غير مشروعة.
في حين وقّع المرشحون السبعة الآخرون على الاتفاق، لم يحضر غونزاليس ورفض التوقيع على الوثيقة وقال للصحافة "هذه الوثيقة جرى فرضها على المرشّحين"، وغاب أيضاً ماركيز، النائب السابق لرئيس الجمعية الوطنية الفنزويلية والمدعوم في الانتخابات من قِبل حزب سنترادوس، وأعرب عن عدم قبوله التوقيع على الاتفاق وقال للصحافة "لا فائدة من الاتفاق لأنه لم تجر استشارة المرشّحين".
وفي مستهل الأسبوع الجاري، نشر النائب الفنزويلي السابق، كارلوس بروسبيري، أدلة على فساد مجموعات من المعارضة، تشمل إثباتاً على تلقّي بعض القيادات في اليمين المتطرف مليون دولار من واشنطن، وأكد رفضه مراراً لمثل هذا التمويل منذ عام 2015، وأعلن استقالته من حزب العمل الديمقراطي وقال للصحافة "إن الشخص الوحيد الذي يستطيع ضمان النمو الاقتصادي لفنزويلا هو الرئيس نيكولاس مادورو".
وقد التقى الرئيس مادورو خلال الأيام الماضية بعدد من قادة المعارضة المستقلة الذين أكدوا له دعمهم ودعوا الآخرين في صفوف المعارضة إلى الانضمام إلى الحوار قبل الانتخابات، وبالمقابل أكَّد مادورو أنّه سيوقع مرسوماً يدعو من خلاله إلى حوار وطني كبير يشمل نقاشاً موسّعاً للجوانب الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية.
هل يلجأ اليمين المتطرف إلى العنف مرة أخرى؟
في أوّل انتخابات رئاسية بعد رحيل تشافيز عام 2013، هزم مادورو منافسه الأبرز هنريكي كابريليس بفارق ضئيل، ورفضت المعارضة المدعومة من الولايات المتحدة الاعتراف بالنتائج، وأطلقت العنان لاحتجاجات عنيفة في الشوارع في محاولة للانقلاب على النتيجة.
وتوالت محاولات الانقلاب منذ ذاك الحين وصولاً إلى الانتخابات الرئاسية في عام 2018، إذ قاطعت المعارضة الانتخابات ونصَّبَت نفسها "حكومة مؤقتة" بقيادة غوايدو الذي اعترفت به واشنطن وحلفاؤها رئيساً للبلاد، ولكنهم باءوا بالفشل، وبعد أشهر من إعلان فوز مادورو في الانتخابات، جرت محاولة لاغتياله بواسطة طائرتان مُسيَّرتان تحملان متفجرات أثناء إلقائه خطاباً على الحرس الوطني البوليفاري.
وفي عام 2021، دخل إلى البلاد نحو 60 عميلاً، بعضهم عسكريون أميركيون، بهدف إشاعة الفوضى واغتيال مادورو، ولكن قُبض عليهم وفشلت العملية.
وفي مطلع هذا العام، اعتقل 32 شخصاً بينهم عسكريون، بعد تحقيق استمر أشهراً، لأنهم اشتركوا في مؤامرة تدعمها الولايات المتحدة بهدف اغتيال مادورو.
وخلال الأسبوع الماضي، نشرت مجموعة عسكرية كولومبية فيديو تعلن فيه أن مجموعة من اليمين المتطرف الفنزويلي تواصلت مع أعضاء مجموعتهم في مقاطعة لاغواخيرا الكولومبية المتاخمة للأراضي الفنزويلية بغرض تخريب شبكة الكهرباء وإشاعة الفوضى في الشوارع إذا أعيد انتخاب مادورو مرة أخرى واغتياله، وأشار المتحدث إلى أن المجموعة رفضت هذه الطلبات لأنها ترفض التدخل في شؤون الدول الأخرى، وتعهد بالتواصل مع السلطات الفنزويلية.
خاتمة
نحو أكثر من نصف سكّان فنزويلا فقراء ويواجهون انعدام الأمن الغذائي، والسبب في ذلك ليس برنامج الحزب الاشتراكي الموحّد والرئيس مادورو، بل أسباب مختلفة على رأسها الحصار الاقتصادي والعقوبات المالية والعقاب الجماعي الذي يتعرّض له الشعب الفنزويلي منذ عام 2005، واليوم تفرض الولايات المتحدة وحلفاؤها أكثر من 900 عقوبة اقتصادية على قطاع النفط ونشاطات إنتاجية أخرى، ما يؤثّر بالسلب على جميع الفنزويليين، وبالرغم من قدرة مادورو وحكومته على إدارة الأزمة الاقتصادية وتعافي القطاع النفطي نتيجة عقد اتفاقيات مع روسيا والصين لا تعتمد على الدولار، فإن العقوبات والحصار يلعبان دوراً محورياً في كبح تقدّم الاقتصاد الفنزويلي لأنهما يؤثران في عائداته الريعية واستيراد بعض السلع والتكنولوجيات الضرورية.
إن فوز مادورو في الانتخابات حدثٌ سيكفل أن يحسم الفنزويليون مستقبلهم، وسيواجه مادورو وحزبه الحاكم بعض العقبات في تحقيق برنامجهم والمضي قدماً في دفع الاشتراكية البوليفارية؛ أهم هذه العقبات هي الحصار الاقتصادي والعقوبات من جهة، وزيادة نفوذ اليمين وإعادة تنظيمه لنفسه من جهة أخرى.
إذا تقدّمت المفاوضات مع الولايات المتحدة، بمقدور فنزويلا اللعب بورقة النفط لانتزاع مكتسبات أهمّها فك الحصار تدريجياً واسترجاع مبالغ مالية طائلة استولت عليها واشنطن، ناهيك بمصادرة شركات النفط الفنزويلية التي كان مقرّها في الولايات المتحدة.
لقد شهد الاقتصاد الفنزويلي تقدماً في بعض مؤشراته مؤخراً، ومن المؤكّد أن فك الحصار سيترك تدريجياً آثاراً إيجابية ضخمة في الاقتصاد وحياة جميع الفنزويليين.