شراكة روسية-إيرانية استراتيجية والعيون على واشنطن

يشكل التعاون العسكري بين موسكو وطهران، لا سيما في مجال الطائرات المسيّرة، مصدراً إضافياً لتعزيز القدرات الروسية في أوكرانيا. وقد أظهرت الحرب قدرة إيران على لعب دور المورّد الأساسي للتكنولوجيا العسكرية لروسيا.

  •  تعزيز التعاون بين موسكو وطهران قد يؤدي إلى تصاعد المنافسة مع قطر والسعودية.
    تعزيز التعاون بين موسكو وطهران قد يؤدي إلى تصاعد المنافسة مع قطر والسعودية.

خلال أسبوع واحد، سرقت ثلاثة أحداثٍ كبرى اهتمام المراقبين في الشؤون الدولية:

- وقف الحرب على غزة.

- توقيع اتفاقية الشراكة الاستراتيجية الشاملة بين إيران وروسيا.

- تنصيب ترامب.

فكيف تترابط هذه الأحداث، وما تأثيرها على الشرق الأوسط؟

البداية من اتفاقية الشراكة وأبعادها، ومدى قوتها وقدرتها على مواجهة النفوذ الأميركي في المنطقة؟

لأشهر طويلة كانت هذه الاتفاقية منتظرة، لتبيّن بنودها وحجم التطور الذي ستلقيه على علاقة الدولتين. 

كن المتوقع أن يتم توقيع الاتفاقية في بداية أكتوبر الماضي. 

وبخلاف المتوقع، كان يتم تأجيل التوقيع مرةً بعد أخرى، وفي ظل مناخ من الغموض حول الأسباب والطرف الذي يؤجل في كل مرة.

لكن الأحداث التي كانت تشهدها الساحتان الشرق أوسطية والأوكرانية، وعلاقة موسكو وطهران بتلك الأحداث، كانت تفسّر الكثير. فما هي أسباب التأجيل، ولمَ الآن؟

خلال الصيف، كان العالم يعيش على وتيرة الصراع الانتخابي الأميركي، وكان الجميع يقيسون خطواتهم بما يتناسب وتفضيلاتهم للنهج الذي يجب أن يفوز في أميركا، والذي يخدم مصالحهم من العلاقة مع واشنطن.

تجنبت كل من موسكو وطهران الاصطدام بواشنطن بصورةٍ مباشرة، أو اتخاذ خطوات قد تحسّن فرص المرشح غير المرغوب بالنسبة لكلٍ منهما.

لكن اللافت جداً كان تناقض هذه التفضيلات، ففي حين فضّل الروس وصول ترامب، كان الإيرانيون يراهنون على وصول هاريس والديمقراطيين، وكان صلب الرهان على استعادة الاتفاق النووي وتوسيعه، كمدخلٍ لتحسين العلاقة وإطفاء صواعقها الكثيرة. وهذا ربما كان أحد أسباب عض إيران على جراحها التي كانت تتزايد. ما علاقة ذلك بالاتفاقية لاحقاً؟

على وقع ذلك، تأجلت الاتفاقية من أكتوبر، وصار الكلام عن "أسابيع قليلة". فاز ترامب في مطلع تشرين الثاني/نوفمبر فوزاً ساحقاً، وكانت الحرب الإسرائيلية على لبنان قد وصلت ذروتها، والخيارات أمام إيران صعبة، ثم إن الأمل باستعادة الاتفاق النووي حملته معها هاريس إلى صفحات مرحلة مضت. وبدا أن الروس سيكسبون رهانهم.

لكن، ما جرى لاحقاً كان مفاجئاً جداً. ضغط ترامب لإنهاء حربي غزة ولبنان، وتغير الحكم في سوريا بخطوةٍ تركية خاطفة، وبدأت نيّات ترامب بوقف الحرب الأوكرانية تفقد واقعيتها، مع رفض الروس والأوكرانيين صيغة الافتتاح الأولى للتسوية. وفي الوقت نفسه، واصل ترامب تمرير التهديدات والغمز لإيران، واستدركت الأخيرة وصول الرئيس غير المرغوب فيه، فتعاملت بمرونة وواصلت توجيه الرسائل الإيجابية، ومعها تأجلت الاتفاقية مع الروس مرة جديدة إلى بداية العام.

مع بداية 2025، بدا واضحاً أن ترامب لن يتمكن بسهولة من إيقاف الحرب الأوكرانية، وهذا يقود الروس إلى إظهار امتلاكهم خيارات مزعجة لواشنطن.

وفي ما يخص إيران، كانت صفقة التبادل بين حماس و"إسرائيل" قد وصلت خواتيمها. وهذا ما يزيح عن كاهل إيران عبئاً كبيراً كانت الحرب تلقيه على عاتقها وعاتق حلفائها.

اللافت هنا اضطرار نتنياهو إلى القبول بصفقةٍ كان طرح معظم بنودها بايدن في حزيران/يونيو الماضي، وخرّبها نتنياهو. وقد قبل الأخير بتنفيذ شروط حماس التي رفعتها منذ بداية الحرب. ثم استمر الحوثيون بقصف "إسرائيل" حتى اللحظة الأخيرة التي سبقت وقف إطلاق النار. لكن، هل يثق الإيرانيون بأن الصراع معهم سيتوقف هنا؟

لا يبدو الأمر كذلك، بل على العكس. يتوجس الإيرانيون من استمرار التهديدات ضدهم، ويتحسبون لاحتمال وقف الحرب على حلفائهم، وخوضها مباشرةً ضدهم.

ثم إن المسؤولين الإسرائيليين يصرون على تهديد الاتفاقين مع لبنان وغزة، وفي هذا السياق، سموتريتش يقول إنه حصل على تعهد من نتنياهو بأن الحرب ستستمر حتى القضاء على حماس. بينما نتنياهو يقول إنه حصل على تعهد من ترامب بالأمر نفسه. هذا يبرز ضرورة بأن تقترب طهران من حليفٍ أكبر، ثم تواصل مد اليد للحصول على اتفاقٍ مع الأميركيين. ثم جاءت الاتفاقية مع روسيا. فما وزنها؟

تم توقيع الاتفاقية في يوم الحمعة في 17 كانون الثاني/يناير الحالي، وهنا أبرز نقاطها:

التعاون العسكري والأمني:

• تعزيز التعاون العسكري وتبادل المعلومات الاستخبارية بين البلدين.

• التخطيط لإجراء تدريبات عسكرية مشتركة وتبادل الخبرات في المجالات الدفاعية.

• التزام بعدم السماح باستخدام أراضي أي من البلدين لشن هجمات ضد الآخر. 

هذا الجانب من الاتفاقية يبدو نوعاً ما مخيّباً للآمال، إذ لم يتضمن ملحقاتٍ سرية، لماذا؟

كان المراقبون ينتظرون نقطتين في هذا السياق: وجود مظلة نووية روسية فوق إيران، تمنع بصورةٍ حاسمة احتمال شن الحرب على الأخيرة وإسقاطها، أو وجود بند دفاع مشترك بين الدولتين، يجعل الحرب مع واحدةٍ منها، حرباً بالضرورة مع الأخرى.

لم تتضمن الاتفاقية سوى سياق عام وتعبيرات واسعة من دون تحديد أيٍ من هذه الإجراءات، وبالتالي فهي لم تقدم الكثير من التغييرات المفصلية. بل هي تطوير لمسار موجود بالأساس. ماذا عن التجارة والاقتصاد؟

 التعاون الاقتصادي والتجاري:

• تطوير العلاقات التجارية والاقتصادية، بما في ذلك مبيعات التكنولوجيا النووية المدنية والغاز من روسيا إلى إيران.

• إنشاء ممرات نقل جديدة وتعزيز البنية التحتية للنقل بين البلدين.

• التعاون في مواجهة العقوبات الاقتصادية الغربية وتطوير آليات للتغلب على تأثيراتها. 

التعاون في مجال الطاقة:

• توسيع التعاون في قطاع الطاقة، بما في ذلك تطوير مشروعات مشتركة في مجالات النفط والغاز والطاقة النووية السلمية.

• تسهيل إمدادات الغاز بين روسيا وإيران وأذربيجان. 

وعلى مستوى التعاون العلمي والثقافي:

• تعزيز التعاون في مجالات العلوم والتعليم والثقافة، بما في ذلك تبادل الطلاب والباحثين وإقامة فعاليات ثقافية مشتركة.

• تطوير مشاريع مشتركة في مجالات التكنولوجيا المتقدمة والابتكار. 

وكان مهماً أن الاتفاقية الشاملة تضمنت التعاون في مجال البنى التحتية

 التعاون في مجال النقل واللوجستيات:

• تطوير ممرات نقل جديدة لتعزيز التجارة وتسهيل حركة البضائع بين البلدين.

• تحسين البنية التحتية للنقل وتسهيل الإجراءات الجمركية لتعزيز التعاون الاقتصادي. 

التعاون في مواجهة التهديدات المشتركة:

• التنسيق في مواجهة التهديدات الأمنية المشتركة، بما في ذلك مكافحة الإرهاب والجريمة المنظمة.

• تبادل المعلومات والخبرات في مجال الأمن السيبراني وحماية البنية التحتية الحيوية. 

 إذاً، هي تعزيز للسياق الموجود بين البلدين، لمواجهة التحديات المشتركة، خصوصاً في ظل العقوبات الغربية المفروضة على البلدين. فكيف تنعكس على الملفات الأساسية، خصوصاً العلاقة مع واشنطن؟

أولاً: انعكاس الاتفاقية على العلاقة مع الولايات المتحدة الأميركية

 تعكس الاتفاقية الاستراتيجية بين روسيا وإيران تطوّراً كمّياً ربما يتحوّل الى نوعي في أنماط التحدي التي تواجه الولايات المتحدة. فهي تجسد تطوراً لافتاً في ما يمكن تسميته "محور مقاومة الأحادية الغربية"، إذ تسعى الدولتان إلى تعزيز استقلالهما الاستراتيجي في مواجهة النفوذ الأميركي المتزايد.

لماذا؟

  بالنسبة إلى إيران: تمثل هذه الاتفاقية تعزيزاً لقدرتها على تجاوز ضغوط العقوبات الأميركية من خلال دعم روسي على مستويات متعددة، خصوصاً في قطاعي الطاقة والنقل. فهي توفر لطهران دعماً تقنياً واقتصادياً يعزز مرونتها أمام محاولات الولايات المتحدة عزلها. كما تمنح إيران ورقة تفاوضية أقوى على طاولة المباحثات النووية مع الغرب.

ماذا عن روسيا؟ 

بالنسبة إلى روسيا: فإنها تعيد تأكيد توجهها نحو بناء تحالفات تعزز قدرتها على مقاومة العقوبات الغربية المفروضة بعد بدء حربها في أوكرانيا. وهذه الاتفاقية تعمق انخراطها مع قوى الشرق الأوسط المناهضة للهيمنة الأميركية، وتعيد توجيه سياساتها بعيداً من التوافق التقليدي مع الغرب.

وهناك أثر مشترك يطال الدولتين معاً، حيث يشكل التعاون العسكري والاستخباري بين البلدين تهديداً مباشراً لسياسات الردع الأميركية في المنطقة، ما قد يدفع واشنطن إلى إعادة تقييم استراتيجياتها الأمنية والاقتصادية.ماذا عن ملفات الشرق الأوسط؟

ثانياً: انعكاس الاتفاقية على ملفات الشرق الأوسط

 • توازن القوى الإقليمي: توفر الاتفاقية دعماً لإيران يمكنها من إعادة صياغة دورها الإقليمي، بعد الأحداث الأخيرة وخسارتها في سوريا. وهذا الحضور قد يعيد رسم خطوط التوازن بين إيران من جهة، والقوى المتحالفة مع واشنطن من جهة ثانية، ثم إنه يتناغم مع تحسن العلاقات الإيرانية-السعودية، ووجود علاقات ممتازة بين الأخيرة وكل من روسيا والصين.

• الردع الإقليمي: التعاون العسكري بين البلدين، خصوصاً في ما يتعلق بتقنيات الدفاع الجوي والطائرات المسيّرة، يشكل تحدياً مباشراً لـ"إسرائيل"، التي ترى في هذا التحالف تهديداً لهيمنتها العسكرية في المنطقة. لكن روسيا تدير توازناً دقيقاً في هذا المجال، ظهر في أحداث سوريا وبين سطور أحداثها. ماذا عن أوكرانيا؟

ثالثاً: أثر الاتفاقية على ملف أوكرانيا

• الدعم الإيراني لروسيا: يشكل التعاون العسكري بين موسكو وطهران، لا سيما في مجال الطائرات المسيّرة، مصدراً إضافياً لتعزيز القدرات الروسية في أوكرانيا. وقد أظهرت الحرب قدرة إيران على لعب دور المورّد الأساسي للتكنولوجيا العسكرية لروسيا، ما يزيد من تكاليف الصراع على أوكرانيا وحلفائها الغربيين.

• التصعيد الغربي: قد تؤدي هذه الاتفاقية إلى تعزيز موقف روسيا وتصعيد المواجهة بين الغرب من جهة، وروسيا وإيران من جهة أخرى. إذ من المتوقع أن تعمد واشنطن وحلفاؤها إلى فرض مزيد من العقوبات على طهران وموسكو، في محاولة للحد من التعاون العسكري بينهما، إذا لم يتمكن ترامب من رعاية تسوية سياسية توقف الحرب. لكن هناك أيضاً أمن القوقاز.

رابعاً: أمن القوقاز

 •تحولات استراتيجية: يعيد الاتفاق الروسي-الإيراني تشكيل مشهد أمن القوقاز، خصوصاً في ظل التوترات المستمرة بين أذربيجان وأرمينيا. إذ قد تمثل إيران وروسيا حلفاء متقاربين في إعادة صياغة علاقاتهما هناك، مع ابتعاد أرمينيا خطوة عن موسكو واقترابها من واشنطن، ومع النفوذ التركي-الأذربيجاني المتزايد في المنطقة.

•ممرات النقل: تهدف الاتفاقية إلى تطوير ممرات نقل استراتيجية تتجاوز القيود الغربية، وهو ما يضع أمن القوقاز في قلب الصراع على طرق التجارة والطاقة العالمية. تعزيز هذه الممرات قد يقوض الجهود الغربية لإضعاف نفوذ موسكو وطهران في هذه المنطقة الحيوية. ماذا عن قطاع الطاقة؟

خامساً: قطاع الطاقة

• إعادة تشكيل السوق العالمية: يشكل التعاون في قطاعي النفط والغاز بين روسيا وإيران تحدياً كبيراً للنظام الاقتصادي العالمي الذي تقوده واشنطن. فتح قنوات لتبادل التكنولوجيا والطاقة بين البلدين قد يقلل من تأثير العقوبات الغربية ويمنح البلدين القدرة على توجيه موارد الطاقة نحو أسواق آسيا.

•منافسة الغاز: تعزيز التعاون بين موسكو وطهران قد يؤدي إلى تصاعد المنافسة مع قطر والسعودية على أسواق الغاز الطبيعي المسال. في المقابل، يمكن أن يؤدي إلى استحداث آليات تنسيق جديدة لإدارة صادرات الطاقة بشكل مشترك، ما يعيد صياغة قواعد السوق العالمي للطاقة.

• أثر طويل المدى: قد تتجلى هذه التأثيرات في تعزيز قدرة روسيا وإيران على تقويض الجهود الغربية للسيطرة على أسواق الطاقة من خلال التحالفات الإقليمية والدولية.

لكن، رغم كل ذلك، وفي مقابل الأجواء التفاؤلية بين البلدين، يستنتج مراقبون كثر أن الدولتين تتصافحان، بينما أعين مسؤوليهما على واشنطن، وترغبان باتفاقٍ مع ترامب وليس بالصدام. أما الأخير فيحمل ألف كرةٍ بين يديه، ويشن هجوماً لتغيير العالم انطلاقاً من سيطرته المطلقة على الداخل وعلى حلفائه بالقوة والتهديد، ليتوسع لاحقاً باتجاه القوى المناهضة، وصولاً إلى الصين. وهو هجومٌ قد يحرق أميركا والعالم حرفياً، وقد يهدد حياته أولاً وآخراً.