سوريا الجديدة: مأزق "التطبيع" مع “إسرائيل”!
قراءة المشهد السوري اليوم بهدوءتجعل المتابع لملف التطبيع مع "إسرائيل" يقف أمام مجموعة من المعطيات التي تؤثر على موقف الإدارة الانتقالية برئاسة أحمد الشرع من العلاقة مع الكيان الصهيوني.
-
ما شكل العلاقة السورية الإسرائيلية اليوم؟
لم يعد السؤال إن كانت هناك مفاوضات مباشرة أو غير مباشرة بين الإدارة السورية الجديدة وبين "إسرائيل" ، وإنما السؤال اليوم هو على أي مستوى تعقد هذه المفاوضات؟ وهل هي مفاوضات تطبيع للعلاقات كما تروج "إسرائيل" وبعض الدول الغربية وفي مقدمتها الولايات المتحدة الأميركية؟ أم هي مفاوضات للوصول إلى اتفاق أمني يضمن إعادة الوضع إلى ما كان عليه قبل الثامن من ديسمبر الماضي كما تقول الإدارة السورية الجديدة؟
على مدار الأشهر القليلة الماضية سرت معلومات كثيرة عن لقاءات ومفاوضات سورية-إسرائيلية، مباشرة وغير مباشرة، جرى تأكيدها مؤخراً على لسان رئيس المرحلة الانتقالية أحمد الشرع، الذي أكد أمام ممثلين عن محافظة القنيطرة وجود "مفاوضات غير مباشرة عبر وسطاء دوليين"، مشيراً إلى أن هدف تلك المفاوضات هو وقف الاعتداءات الإسرائيلية على مناطق الجنوب السوري.
ثم أعقب ذلك تصريحات أميركية وإسرائيلية تحدثت عن "أن الحوار بين دمشق وتل أبيب قد بدأ فعلياً" على حد تعبير المبعوث الأميركي إلى سوريا توماس باراك، فيما كان رئيس مجلس الأمن القومي الإسرائيلي، تساحي هنغبي، يعلن في وقت سابق أمام أعضاء الكنيست "أنه يشرف بشكل مباشر على حوار أمني وسياسي مع حكومة الشرع".
أما وسائل الإعلام العربية والغربية، فقد حفلت رسائلها الإخبارية خلال الأسابيع الماضية بعشرات التسريبات والتحليلات، والتي يؤكد بعضها، واستناداً إلى مصادرها الخاصة، حدوث لقاءات مباشرة وغير مباشرة بين الجانبين، فيما حاول بعضها الآخر تتبع رؤية الطرفين لنهاية المفاوضات، والثمن الواجب على كل منهما دفعه لقاء توقيع "اتفاقيات سياسية وأمنية".
حقائق ومعطيات لكل طرف
وأمام ما حملته الفترة القليلة الماضية في هذا الملف من معلومات وتصريحات ومواقف، يمكن استنتاج الحقائق التالية:
- وجود مفاوضات بين سوريا و"إسرائيل" بوساطة عربية وغربية. وسواء كانت هذه المفاوضات مباشرة أو غير مباشرة، فإن كل جانب طرح مطالبه ورؤيته المرحلية أو المستقبلية لماهية العلاقة المستقبلية بين الجانبين، ووضع كل منهما ملاحظاته على ما قدمه الآخر.
-من المبكر الحكم على مصير هذه المفاوضات ونتائجها بالنظر إلى حساسيتها في هذه المرحلة لكل من حكومتي دمشق و "تل أبيب"، فكل حكومة تريد تحقيق نصر سياسي يعزز من مشروعيتها الشعبية الداخلية ومكانتها الإقليمية، والابتعاد عما يمكن وصفه بـ "التنازلات".
- مصير المفاوضات وسقفها السياسي والأمني سيتحددان خلال الشهرين المقبلين. فإن حصل اللقاء الذي يروجه بعض الأوساط ووسائل الإعلام بين الشرع ونتنياهو على هامش اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة، فهذا يعني أن قطار التطبيع قد بدأ، وإذا لم يحصل ذلك اللقاء، فإن الإدارة السورية الجديدة تكون فعلاً قد وضعت سقفاً لمفاوضاتها مع الجانب الإسرائيلي، ألا وهو إعادة العمل باتفاقية فك الاشتباك الموقعة في العام 1974 بعد حرب أكتوبر، والذي يعني انسحاب قوات الاحتلال الإسرائيلي من جميع الأراضي التي احتلتها بعد الثامن من ديسمبر الماضي.
وحتى ذلك الحين، وفي ضوء عدم نشر الحكومة السورية الانتقالية أي تفاصيل عن مجريات المفاوضات وحقيقة الضغوط الغربية التي تمارس عليها للسير في ركب "الاتفاقيات الإبراهيمية"، فإن التكهنات تبقى هي سيدة الموقف في كل ما يُنشر.
لكن قراءة المشهد السوري اليوم بهدوء وموضوعية تجعل القارئ أو المتابع لملف التطبيع مع "إسرائيل" يقف أمام مجموعة من المعطيات التي تؤثر بشكل أو بآخر على موقف الإدارة الانتقالية برئاسة أحمد الشرع من العلاقة مع الكيان الصهيوني، أو لنقل إن تلك المعطيات ترسم ملامح لسيناريوهات المفاوضات ونتائجها.
أول هذه المعطيات يتعلق بالموقف الشعبي السوري من قضية التطبيع مع "إسرائيل". فإن كان جزء من السوريين يؤيد التطبيع في هذه المرحلة لإنهاء أي تهديد للدولة الجديدة، فذلك مشروط باستعادة مرتفعات الجولان المحتلة منذ العام 1976" أي وفق معادلة الأرض مقابل السلام. ويمكن الجزم هنا أنه ليس هناك سوري واحد يرضى أو يوافق على استمرار احتلال "إسرائيل" للمرتفعات تحت أي صيغة كانت.
جزء آخر من السوريين ينظر إلى قضية التطبيع من منظورها الأشمل المتعلق بالصراع العربي-الإسرائيلي، وعلى ذلك فهم يرفض الاتفاقيات المنفردة مع الكيان الصهيوني، ويطالب بحل شامل لقضية الصراع وفق القرارات الدولية الصادرة بهذا الخصوص، ولا سيما القراران الصادران عن مجلس الأمن الدولي 242و338. أي لا سلام من دون إقامة الدولة الفلسطينية وعاصمتها القدس.
المعطى الثاني يتمثل في موقف الشرع والفصائل المسلحة المتحالفة معه من قضية استعادة الجولان. إذ دأبت هذه الفصائل على اتهام النظام السابق بالتخلي عن الجولان وبيعه لـ "إسرائيل" مقابل البقاء في الحكم، وتأكيدها حتمية تحرير المسجد الأقصى والقدس من الاحتلال الصهيوني. وبالتالي فإن الإدارة الحالية لن يكون باستطاعتها عقد صفقة سلام أو تطبيع مع "إسرائيل" تكون شروطها وبنودها أقل مما كان يطالب به الرئيس الراحل حافظ الأسد، أواخر التسعينات، وإلا فإن الاتهام السابق سوف يسقط أو يصبح موجهاً للشرع الذي رضي بأقل مما رفض الأسد القبول به قبل ربع قرن.
ومع أن الأمر لم يعد يعني الكثير من الفصائل، إلا أن صورتها مع الزمن سوف تتآكل بسرعة، إذ كيف ترضى عقد سلام على وقع المجازر التي تُرتكب يومياً بحق المدنيين الأبرياء، ومحاولات هدم المسجد الأقصى، أو كيف يستقيم أن تعقد سلاماً مع الإسرائيليين وبعض هذه الفصائل لا يزال يكفّر أتباع المذاهب الإسلامية الأخرى، والذين يعيشون معهم كأبناء وطن واحد؟
المعطى الثالث هو في ماهية وحدود الدور الذي تلعبه الإدارة الأميركية سواء في دعمها غير المحدود لإدارة الشرع وهو بالتأكيد ليس بالمجان، أم في مسألة التفاوض، وهذا الدور كما عودتنا التجارب السابقة لن يكون على حساب "إسرائيل". والسؤال هنا: هل ستمارس واشنطن ضغوطاً على دمشق لتوقيع اتفاقية سلام مع "إسرائيل"؟ وماذا عن الجولان الذي اعترف ترامب بالسيادة الإسرائيلية عليه في ولايته الأولى؟ وهل تقدر إدارة الشرع على مواجهة الضغوط الأميركية المتوقعة؟
وماذا عن "إسرائيل"؟
تعيش "إسرائيل" هذه الأيام أفضل حالاتها منذ تأسس الكيان في العام 1948، من حيث الدعم الأميركي الذي أطلق يدها تدميراً وتخريباً في دول المنطقة، أو من حيث علاقاتها مع الدول العربية سياسياً واقتصادياً، المباشرة وغير المباشرة، وما سببه ذلك من إضعاف شديد للموقف العربي عموماً، والفلسطيني خصوصاً. وعليه فإن الموقف الإسرائيلي من المفاوضات مع دمشق ينطلق من أمرين:
- الأول أنه لا تفاوض على وضع الجولان المحتل، فما لم يجرِ التنازل عليه قبل عقدين وثلاثة عقود من الزمن، لن يجريَ التنازل عنه اليوم والكيان في أوج قوته العسكرية، وإلا لاعتُبر ذلك في داخل الكيان هزيمة سياسية وعسكرية لحكومة نتنياهو.
- الثاني هو أن التفاوض يجب أن يجري وفق الشروط الإسرائيلية لا وفق القرارات الدولية أو مبادئ الشرعية الدولية. بمعنى أن التفاوض لغاية توقيع اتفاقية سلام أو اتفاقية أمنية يجب أن ينطلق من المصالح الإسرائيلية، والتي باتت تتلخص اليوم في تحويل الجنوب السوري إلى منطقة منزوعة السلاح، وهي التي كانت توجد فيها سابقاً ثلاث فرق عسكرية ولواءان مستقلان وأفواج خاصة، والتعاون الأمني لملاحقة خلايا المقاومة في الجنوب السوري.
ترحيل الجولان إلى الأمام
كثيرون يعتقدون أن مسعى أو اهتمام الرئيس الشرع سيكون منصبّاً على عقد اتفاقية أمنية على غرار الاتفاقية الأمنية التي وقعت في نهاية التسعينات بين تركيا وسوريا، وذلك بغية تحقيق الأهداف التالية:
- وقف الاعتداءات الإسرائيلية على الأراضي السورية، والتي وصلت إلى حد استهداف مكان قريب من قصر الشعب، وهذا من شأنه تخفيف الضغوط على حكومة الشرع وتسريع عملية التعافي الاقتصادي عبر جذب الاستثمارات الأجنبية وتشجيع المغتربين على العودة والاستثمار في بلدهم.
- طالما أن "تل أبيب" لن تتنازل عن الجولان في هذه المرحلة، وطالما أن الإدارة السورية لا تجرؤ على التنازل عن الجولان بأي صيغة كانت، فإنه من الأفضل ترحيل قضية استعادة الجولان للمستقبل. وكما أن اتفاقية فصل القوات أو فك الاشتباك التي وُقعت في العام 1974 حافظت على هدوء جبهة الجولان لمدة خمسة عقود، فإن اتفاقية أمنية مشابهة يمكنها أن تعطي فرصة زمنية مشابهة للإدارة السورية الجديدة لتثبيت حكمها وإكمال سيطرتها على جميع أراضي البلاد. لكن اتفاقية فك الاشتباك جاءت بعد حرب شنتها سوريا لاستعادة الجولان، فيما الاتفاقية الأمنية المراد الوصول إليها جاءت بعد تدمير الجيش الإسرائيلي لكل مقدرات سوريا العسكرية والأمنية.
- التبادل الأمني، والذي سوف يساعد الإدارة السورية الجديدة على مواجهة ما تعتبره تداخلات خارجية في الجنوب، وهذا ترجمة لما نقله رجل الأعمال الأميركي جوناثان باس عن الرئيس الشرع من أن "سوريا و"إسرائيل" لديهما أعداء مشتركون"، وبحسب ما نشر باس في صحيفة "جويش جورنال" اليهودية، فإن الشرع قال له: "أريد أن أكون واضحاً، يجب أن ينتهي عصر القصف المتبادل الذي لا ينتهي. لا تزدهر أي دولة عندما يملأ الخوف سماءها. الحقيقة هي أن لدينا أعداءً مشتركين، ويمكننا أن نلعب دورًا رئيسيًا في الأمن الإقليمي.