سوريا، ما قبل السقوط وما بعده
كانت مشكلة النظام السوري الأولى هي العقوبات الاقتصادية التي فرضت عليه، ومن أهمها قانون قيصر سيّئ الذكر الذي استهدف الأفراد والشركات التي تقدّم التمويل أو المساعدة للنظام السوري.
ربما لم يكن سقوط حزب البعث في سوريا مفاجئاً للكثير من المتابعين سواء في حجم النقمة الشعبية ضدّه أو في توقيته، لكن من الضروري الاعتراف أنّ سرعة وبساطة هذا السقوط هو المفاجئ بالفعل، وهو ما يحتاج إلى دراسة، وبالرغم من أنّ المواقف العربية للقيادة السورية كانت محترمة بالفعل ورفضت الانسياق لكلّ دعوات التطبيع مع الكيان الصهيوني أو التخلّي عن موقفها المقاوم، إلّا أنّ أداءها في الشأن الداخلي السوري كان يحتاج إلى قدر أكبر من الثبات والقوة في مواجهة التغوّل الكومبرادوري داخل كلّ من الحزب والمجتمع السوري والذي ساهم إلى حدّ كبير في إسقاط النظام.
لقد كانت بداية الخلل المباشر الذي أصاب النظام في سوريا خلال العشرية الأولى من هذا القرن والذي شهد محاولة بعض النخب السياسية السورية الدفع باتجاه تبنّي سياسات السوق والاقتراض من المؤسسات الدولية، والسماح بتدفّق البضائع والاستثمارات التركية، وفي عام 2000 بلغت الصادرات التركية لسوريا 1,84 مليار دولار بينما بلغت الصادرات السورية لتركيا 629 مليون دولار وكان من المستهدف أن يصل حجم التبادل التجاري إلى 5 مليارات دولار.
مثّلت اتفاقية التجارة الحرّة بين البلدين التي تمّ تفعيلها في العام 2007، تتويجاً لحجم الاختراق التركي لسوريا، حيث رأى العديد من السوريين أنها مجحفة بحقهم، فقد كانت البضائع السورية تتحمّل رسوماً جمركية تبلغ 28% عند دخولها إلى تركيا تحت بند دعم الأسر الفقيرة، بينما كانت البضائع التركية تمرّ إلى سوريا من دون رسوم جمركية، ورغم إجحافها فقد دعمتها الكومبرادورية السورية.
لكن في المقابل أدّت هذه السياسات الجديدة إلى العديد من المشكلات الاقتصادية داخل المجتمع السوري كان لها تأثيرها، خاصة أنها ساهمت في تفخيخ الداخل السوري وتفجير العديد من الخلافات حتى في أوساط النخبة السياسية الحزبية التي شهدت عدداً من الانشقاقات كانشقاق عبد الحليم خدّام النائب الأول للرئيس الراحل حافظ الأسد، والعميد مناف مصطفى طلاس الذي سعى لدعم طبقة التجار السنية مستغلاً علاقته ببشار الأسد قبل أن يعلن انشقاقه عن حزب البعث في تموز/يوليو 2012 برفقة 23 ضابطاً سورياً وفرارهم إلى تركيا، حيث تضطرب بعض المرويّات حول علاقته بالاحتجاجات الأولى في عام 2011.
في كلّ الأحوال فقد تمكّن الغرب من اختراق سوريا وحتى العناصر القيادية في الجيش السوري بواسطة الأتراك، وهو ما سمح باشتعال الأزمة السورية في 2011، وهنا قد يبرز تساؤل: ما هي مصلحة تركيا في إشعال الأوضاع بسوريا رغم الفائدة الاقتصادية التي كانت تعود عليها من نظام حزب البعث؟
الواقع أنّ الأمر مرتبط بالصراع بين مشروعي خطي الغاز الطبيعي اللذين يمرّان عبر سوريا لإيصال الغاز إلى أوروبا، الخط الأول الذي يمرّ من إيران عبر العراق إلى سوريا ثم أوروبا ومن الواضح أنّ هذا المشروع كان بموافقة الروس، وبناءً عليه ستحصل سوريا على احتياجاتها من الغاز كما ستتحوّل إلى مركز لتصدير الغاز الإيراني بدلاً من تركيا، وقد تمّ توقيع مذكّرة تفاهم بين الدول الثلاث في 2011، وكان من المتوقّع أن يكون الخط جاهزاً للعمل في 2016. في المقابل اقترحت قطر مدّ خط غاز من أراضيها إلى سوريا عبر السعودية والأردن لينتهي في تركيا ومنها إلى أوروبا.
كان من شأن المشروع القطري – التركي أن يقلّل إلى حد كبير الاعتماد الأوروبي على الغاز الروسي، كما ستتحوّل تركيا إلى مركز توزيع للغاز الطبيعي إلى أوروبا، حيث ستلتقي عندها خطوط الغاز المقبلة من إيران (خط أنابيب تبريز – أنقرة) وأذربيجان (ممرّ الغاز الجنوبي) وأخيراً الخط القطري؛ وثمّة فائدة للكيان الصهيوني من هذا الخط، حيث كان سيتمكّن عبره من تصدير الغاز إلى أوروبا بعد أن تحوّل إلى كيان مصدّر للغاز.
إلا أنّ الحكومة السورية رفضت القبول بمشروع خط الغاز القطري – التركي، ووافقت على مشروع الخط الإيراني – السوري، والذي من شأنه تقوية وضع كلّ من إيران والعراق وسوريا مقابل إضعاف موقف تركيا في الشرق، ويبدو أنّ الحكومة السورية وضعت كذلك في اعتبارها، بالإضافة إلى مصالحها، مصالح حليفها الروسي ودور الكيان الصهيوني في الخط القطري – التركي.
يمكننا إذاً أن نفهم الأسباب التي أدّت إلى مشاركة الدول المعنية بخط الغاز القطري – التركي في الحرب التي تمّ إشعالها ضدّ سوريا بهدف إزاحة الرئيس بشار الأسد من السلطة، بالإضافة إلى الولايات المتحدة الأميركية والدول الأوروبية، وبالرغم من نجاح الأسد في الصمود وإعادة السيطرة على معظم المناطق السورية بدعم من روسيا وإيران وحزب الله، إلا أنّ الأوضاع التالية أظهرت خللاً أكبر داخل الواقع السوري بشكل عامّ.
كانت مشكلة النظام السوري الأولى هي العقوبات الاقتصادية التي فرضت عليه، ومن أهمها قانون قيصر سيّئ الذكر الذي استهدف الأفراد والشركات التي تقدّم التمويل أو المساعدة للنظام السوري، كما استهدف عدداً من الصناعات السورية، وكان السبب في تعطيل مشروع خط الغاز العربي والذي كان سينقل الغاز المصري إلى الأردن وسوريا ثم لبنان. لقد صدر هذا القانون بدعوى حماية المدنيين السوريين، لكن من الواضح أنّ الغرض الحقيقي لإصداره هو إسقاط النظام السوري في قبضة الدول الخليجية التي سعت للإطاحة به.
وكانت هذه هي المشكلة الثانية حيث وافق النظام على عودة التواصل مع الأطراف المسؤولة عن الخراب والدمار الذي شهدته سوريا في محاولتهم إسقاط حكمه، وتحت ضغط العقوبات وبعض أجنحة النظام ذاته، تمّ تبنّي سياسات صندوق النقد الدولي عبر تقليص الدور الاجتماعي للدولة فتمّت عمليات دمج وتصفية لعدد من شركات القطاع العامّ، كما تراجع الدعم الحكومي عبر استخدام عناوين سيئة السمعة مثل عقلنة الدعم وتوجيهه إلى مستحقّيه.
كانت النتيجة المباشرة لهذه الممارسات هي اتساع حجم الناقمين على النظام بين الجماهير السورية، بما يعني تهيئة الأوضاع الداخلية لإسقاطه، وبالرغم من استجابة النظام السوري للضغوط الخارجية وخاصة الخليجية لتقليص علاقته مع إيران وعدم مشاركته في طوفان الأقصى، فمن الواضح أنّ تطوّرات الحرب أجبرت كلاً من الأميركيّين والكيان الصهيوني على منح الضوء الأخضر للأتراك كي يقوموا بهذا التحرّك الأخير والذي أسقط نظاماً عريقاً في سوريا من دون أدنى مقاومة من الجيش السوري.
تبقى الآن ضرورة الإجابة عن السؤال الأكثر أهمية: ماذا بعد سقوط البعث في سوريا؟
بغض النظر عن الطريقة السهلة التي سقط بها النظام، وخلفيّاتها والتي من الصعب التأكّد منها حالياً، فمن الواضح أن سوريا ستشهد صراعاً ضخماً بين المشروعات المختلفة في الفترة المقبلة، ومع أنّ معظم هذه المشروعات تنطلق وتصبّ في مصلحة المشروعات الأميركية بالمنطقة العربية، إلا أنّ هناك تفاصيل تخصّ كلّ مشروع على حدة من الممكن أن تؤدّي إلى تغليب الصراع بين اللاعبين الساعين لاستغلال الوضع السوري لمصلحتهم، ومثل هذا الصراع ربما تكون نتيجته الأسوأ هي تقسيم سوريا بالفعل إلى دويلات طائفية وربما عرقيّة كذلك.
هناك المشروع التركي التقليدي والذي يسعى بكلّ السبل للسيطرة على المنطقة حلب – الموصل، وهو ما لا يخفيه الأتراك أصلاً، وفي العام 2016 طالب الرئيس التركي إردوغان بضرورة تعديل اتفاقية لوزان الموقّعة سنة 1923 وتنازل بموجبها مصطفى كمال أتاتورك مجبراً عن حلب والموصل، واصفاً هذا التنازل بكونه خيانة للشعب التركي، بعدها نشرت إحدى الصحف المقرّبة من حزبه خريطة لتركيا تضمّ كلّاً من الموصل وحلب وكركوك، في إشارة واضحة إلى الأطماع التركية بخصوص هذه المناطق.
يمكننا هنا أن نعدّد حجم المزايا التي ستعود على الأتراك من تحقيق هذا المشروع سواء بضمّ هذه الأراضي العربية إلى دولتهم أو في حال تمّ تحويلها إلى دويلات تابعة لهم، لعلّ أهمها الاستفادة من حقول النفط في الموصل وكركوك، والقضاء على أيّ فكرة لإقامة دويلة كردية في سوريا، ناهيك عن محاصرة الحكم الذاتي الكردي في العراق.
إن الخطوات العملية لتنفيذ هذا المشروع التركي، بدأت منذ محاولات الأتراك الغزو الاقتصادي لسوريا خلال العشرية الأولى لهذا القرن، ثم الحرب المدمّرة لإسقاط النظام السوري، مروراً بالانتصار الآذري على أرمينيا، والذي حوّل إردوغان إلى زعيم للأمّة التركية، وما امتلكه من أوراق ضغط عبر استخدام الأقلية التركمانية في سوريا والذين كانوا في طلائع المعادين لنظام البعث والمتحمّسين لإسقاطه.
ولا يبدو واضحاً ما إذا كانت القيادات الروسية وحتى الصينية تدرك خطورة هذا التطوّر على الداخل في روسيا والصين معاً، حيث يضمّ الاتحاد الروسي أقلّيات تتحدّث بالتركية كشعوب التتر والباشكورد والياكوت والتوفالار. بالإضافة إلى تأثيره المتصاعد في وسط آسيا الممتد حتى إقليم سنكيانج غرب الصين، مستخدماً الصفتين التركية والدينية السنية.
بالرغم من أنّ المشروع التركي يأتي في إطار المشروعات الأميركية عموماً لتفتيت الوحدات السياسية في الشرق العربي، إلا أنه قد يكون متعارضاً في بعض تفاصيله مع تصوّرات الأميركيّين والكيان الصهيوني وحتى أوروبا الغربية بخصوص الكرد سواء في سوريا أو حتى العراق، حيث تسعى الأطراف الغربية لتثبيت وضع دويلة كردية ذاتية الحكم في سوريا.
هناك كذلك مشروع سعودي يسعى لقيادة الأكثرية السنية في سوريا وامتداداتها في لبنان لمواجهة المقاومة التي يقودها حزب الله وإعادة السيطرة على الواقع اللبناني، وسيعمل على أن يكون النظام الحاكم في دمشق موالياً له، ومثل هذا المشروع قد يصطدم بكلّ تأكيد مع الطموحات التركية في حلب والموصل.
المشروع الصهيوني كذلك بدأ تنفيذه بالفعل عبر محاولة دعم الدروز، كما تشير الإعلاميات الصهيونية، والسعي إلى تأسيس كيان درزي في السويداء، سيكون له أثره السلبي في لبنان، ما يعني أنه يرغب في توسيع أراضيه عبر إنشاء كيان تابع يضمّ أقليّة طائفية تشعر بالتهميش في الوسط الإسلامي.
أما المشروع الروسي والذي يعتبر خاسراً حتى الآن، ولا أحد يمكنه أن يتنبّأ بالطريقة التي سيتعامل بها مع الأوضاع السورية الجديدة، لكن المنقذ الوحيد للروس هو تأسيس كيان علوي بأيّ صيغة (الاستقلال أو الحكم الذاتي) في الساحل السوري بمحافظتي اللاذقية وطرطوس، واللتين تضمّان القواعد العسكرية الروسية، وبالتالي يمكن للروس عبر رعاية هذه الدويلة الإشراف على آبار الغاز في البحر المتوسط، وهو ما سيواجه بمعارضة شرسة من المشروعات السابقة بكلّ تأكيد، لأنه سيمثّل تهديداً لتركيا التي يوجد فيها 20 مليون علويّ، كما سيعني أن الضربة الأميركية للروس في شرق المتوسط والتي تهدف لحرمانهم من السيطرة على الغاز صارت بلا معنى تقريباً، وربما تمثّل تهديداً للوجود الأميركي، التركي والسعودي في سوريا ولبنان.
إنّ فكرة تقسيم سوريا وبلدان عربية أخرى ليست مجرّد توقّعات أو رؤى تشاؤمية، وإنما هي مشروعات معلنة منذ ثمانينيات القرن الماضي، فسبق أن أشار إليها ضابط المخابرات الصهيوني السابق أودد ينون سنة 1982 في مقال بمجلة كفونيم بعنوان "استراتيجية لإسرائيل في الثمانينيات"، وقد أعقبها ظهور مشروع المستشرق برنارد لويس عام 1992 والذي تشابه مع رؤية ينون مع بعض التعديلات.
لكنّ مشروع التقسيم برز بوضوح في عام 2006 بعدما استخدمت وزيرة الخارجية الأميركية كوندوليزا رايس تعبير الشرق الأوسط الجديد أثناء زيارتها لـ "تل أبيب"، وفي توقيت متقارب كتب الخبير العسكري الأميركي رالف بيترس مقالاً بعنوان "الحدود الدموية... كيف يمكن رؤية الشرق الأوسط بشكل أفضل" بالمجلة العسكرية الأميركية، وتضمّن المقال رؤيته لتقسيم المنطقة على أساس عرقي وطائفي.
وفي عام 2013 طرحت الصحافية روبن رايت في مقال لها بصحيفة نيويورك تايمز مقترحها لتقسيم خمس دول عربية هي العراق، سوريا، اليمن، السعودية وليبيا إلى 14 دولة. ومن الملفت أنّ هذه المشروعات لم تستبعد السعودية من مشروعات التقسيم.
لكن ماذا عن الموقف الإيراني؟ لقد قامت العلاقات الأساسية بين إيران وسوريا في أحد أهم جوانبها بناء على عداء كلا النظامين للكيان الصهيوني، وبالتالي يعتبر كلّ من ساسة الولايات المتحدة والكيان الصهيوني وحتى أوروبا أن إيران تعدّ الخاسر الأكبر في سقوط نظام البعث السوري.
لكن في المقابل يبدي الساسة الإيرانيون هدوءً ملفتاً وثقة في أنّ تطوّرات الأحداث في سوريا ستصبّ بمصلحة المقاومة للكيان الصهيوني والوجود الأميركي في سوريا بالنهاية، وربما كان لتجربتهم في أفغانستان صدى في هذا الشأن، حيث تمكّنوا من ترويض حركة طالبان وتحويلها، وهي المعادية الأيديولوجية للشيعة عموماً، إلى حليف تمكّن من طرد الأميركيين بشكل كامل وبناء علاقات قوية مع كلّ من الصين وروسيا بالإضافة طبعاً إلى إيران.
في كلّ الأحوال تثبت التجارب التاريخية أنّ لجوء الأميركيين والصهاينة لبعثرة الأوراق في أيّ كيان سياسي، لا يؤدي دائماً إلى النتائج التي يتوقّعها الأميركيون، فالحرب الأهلية في لبنان لم تؤدِ أبداً إلى القضاء على القضية الفلسطينية كما أرادتها أميركا والكيان الصهيوني، وإنما انتهت لتأسيس مقاومة كبرى كحزب الله في الجنوب اللبناني تمكّنت من دحر الكيان الصهيوني وجيش لحد العميل في عام 2000، وتكرّر الأمر في العام 2006 وفي الحرب الأخيرة حيث فشل الكيان الصهيوني بالبقاء كيلو متر واحد داخل لبنان.