زيارة رئيس الوزراء الهندي إلى روسيا: نحو عالم متعدد الأقطاب
الولايات المتحدة كانت ترمي من خلال استراتيجيتها الجديدة إلى تحييد روسيا عن المنافسة على الزعامة القطبية، وإيهام الصين بإمكانية وجدوى بناء عالم جديد ثنائي القطبية بعيداً عن روسيا تتقاسم فيه بكين مع واشنطن مناطق النفوذ والسيطرة.
شكّلت الزيارة الرسميّة التي قام بها رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي إلى روسيا ولقاء القمّة الذي جمعه مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين دليلاً إضافياً وجوهريّاً على التحوّلات الجذريّة والعميقة التي يشهدها النظام العالمي منذ سنوات نحو عالمٍ جديد متعدد الأقطاب بعدما ظلّ تحت هيمنة الأحاديّة القطبيّة طوال ثلاثة عقودٍ من الزمن منذ انهيار الاتحاد السوفياتي وانفراط عقد المعسكر الشرقي.
سعت الولايات المتحدة الأميركية التي تقود الغرب الجماعي، ومنذ وصول الرئيس جو بايدن إلى البيت الأبيض، إلى تبنّي استراتيجيات جديدة للأمن القومي الأميركي تهدف إلى عرقلة هذا التحول العالمي نحو التعددية القطبية في محاولة منها للاحتفاظ بتفوقها ونفوذها وهيمنتها على العالم.
ولأجل ذلك، رفعت شعار شيطنة روسيا والمواجهة معها وإعادة توحيد أوروبا تحت قيادة واشنطن بعدما كانت موسكو قد نجحت في التشبيك مع دول أوروبا انطلاقاً من بوابة توريدات الطاقة، وتحديداً الغاز، وظهر المخطط الأميركي جليّاً عبر الحرب بالوكالة التي يشنّها حلف الناتو ضد روسيا في أوكرانيا، بالتوازي مع فرض حزم صارمة من العقوبات المتنوعة والمتشعبة طالت كل جوانب الاقتصاد الروسي.
بالتوازي مع ذلك، اتبعت واشنطن سياسة مختلفة تجاه الصين تقوم على ممارسة الضغط، سواء عبر قضيّة تايوان أو من خلال العقوبات والقيود التجارية أو من خلال السعي لتشكيل تحالفات إقليمية معادية لها في جنوب شرق آسيا والمحيط الهادي، كحلف إيكواس والناتو الآسيوي المزمع إنشاؤه، واعتقدت واشنطن أن استراتيجية الضغوط الممارسة على الصين ستدفع الأخيرة إلى الابتعاد عن روسيا ودفعها نحو التفاوض مع واشنطن.
وحقيقة الأمر أن الولايات المتحدة كانت ترمي من خلال استراتيجيتها الجديدة إلى تحييد روسيا عن المنافسة على الزعامة القطبية، وإيهام الصين بإمكانية وجدوى بناء عالم جديد ثنائي القطبية بعيداً عن روسيا تتقاسم فيه بكين مع واشنطن مناطق النفوذ والسيطرة.
وتدعيماً وترويجاً لذلك، ظهرت العديد من الدراسات الصادرة عن مراكز الأبحاث الأميركية والغربية التي أشارت إلى أن الصين تتمتع بالمؤهلات الجيوسياسية والتكنولوجية والمالية والاقتصادية، وحتى العسكرية، للتحوّل إلى قطب عالمي، فيما أشارت الدرسات ذاتها إلى أن دولاً كروسيا والهند لا تسمح إمكاناتها ومؤهلاتها أن تكون أكثر من قطب جيوسياسي أو عسكري إقليمي.
وفي مواجهة هذه الاستراتيجية الأميركية المكشوفة الأهداف والغايات التي تسعى واشنطن والغرب الجماعي من خلالها إلى احتواء الصين وإبعادها عن روسيا ليتسنى للعرب الجماعي هزيمة موسكو، ثم الانتقال إلى التفرد بالصين في مرحلة لاحقة، تتأتى الأهمية الجيوسياسية والاستراتيجية للعلاقات الهندية الروسية، وبطبيعة الحال العلاقات الصينية الروسية والهندية الصينية.
وبناءً على ذلك، ترفض كلّ من القوى العظمى الثلاث (روسيا والصين والهند) إقامة عالم ثنائي القطبية بالقدر ذاته الذي ترفض فيه البقاء في ظلّ الأحادية القطبية، وتحرص الدول الثلاث عند وصفها لعالم الغد على استخدام تعبير "عالم متعدد الأقطاب" في أدبياتها السياسية الرسمية.
وفي هذا الإطار، حرصت موسكو وبكين عند التعبير عن العلاقة رفيعة المستوى بينهما على وصفها بعلاقة شراكة استراتيجية وتعاون استراتيجي شاملة، ونفى الجانبان في مرات عديدة وصفها بالتحالف العسكري، وأكدا رفضها منطق الأحلاف العسكرية، إذ يدرك الجانبان أن إقامة حلف عسكري بينهما سيدفع واشنطن إلى استقطاب العديد من القوى والدول الإقليمية والدولية عبر التضليل والتخويف.
وبطبيعة الحال، فإن الهند شريكة روسيا والصين في منظمة شنغهاي ومجموعة بريكس قد تكون واحدة من تلك الدول التي يمكن لها أن تجد نفسها مضطرة إلى البحث عن تحالفات مضادة بحكم الضرورة.
إن إصرار روسيا والصين على التلاقي تحت عنوان الشراكة الإستراتيجية الشاملة، والسعي لتطويرها عبر منظمات ومؤسسات إقليمية ودولية جامعة، كمنظمة شنغهاي للتعاون ومجموعة بريكس+، ترك الباب مفتوحاً على مصراعيه لصانع القرار الهندي لملاقاة هذه النيات الجيوسياسية والجيواقتصادية، سواء عبر تلك المنظمات أو بشكل ثنائي، وخصوصاً أن روسيا أبدت انفتاحاً متعدد الجوانب، بما فيه العسكري والتقني والطاقوي على الهند، وتعمّق ذلك وتوسّع بشكل كبير منذ بدء الحرب الأوكرانية والعقوبات الغربية على روسيا، إذ تحولت الهند إلى أحد أكبر الشركاء التجاريين لروسيا، وخصوصاً في مجال الطاقة، وباتت تستورد ما نسبته 40% من النفط الروسي.
ويمكن الإشارة هنا إلى أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين يتبنى عملياً فكرة الأوراسية الجديدة أو الأوراسية الكبيرة، وينظر إليها على أنها الإطار الجامع الذي يمكن أن يشمل دول آسيا الوسطى والقوقاز ويتمدد للتشبيك مع الشرق الأوسط الصين والهند وصولاً إلى جنوب شرق آسيا.
انطلاقاً من كلّ ذلك، يمكننا الولوج إلى فهم الأهميّة الاستراتيجية لزيارة رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي إلى موسكو ولقائه الرئيس الروسي بوتين يومي 8 و9 يوليو الحالي. ولعل قيام الرئيس بوتين بمنح أعلى وسام مدني في روسيا، وهو "وسام القديس أندرو الرسول"، لرئيس الوزراء مودي لمساهمته المتميزة في تطوير الشراكة الاستراتيجية الخاصة والمتميزة بين الهند وروسيا والعلاقات الودية بين شعبي البلدين هو خير دليل على أهمية الزيارة وأهمية ضيف الكرملين..
ويكفي المرور على بعض تفاصيل الزيارة ونتائجها لتأكيد المؤكد:
من حيث الشكل، يمكن لفت النظر إلى اختيار مودي لموسكو كأول وجهة له بعيد إعادة انتخابه رئيساً للوزراء للمرة الثالثة، وهذا في لغة السياسة يعكس الأهمية الخاصة التي توليها دلهي لشراكتها مع موسكو.
وثمة أمر آخر يمكن الإشارة إليه، هو أن الزيارة جاءت قبيل انعقاد قمة الناتو في واشنطن، والتي حرص الرئيس الأميركي بايدن من خلالها على فرض خطاب الكراهية والتهديد لموسكو، وفي ذلك مؤشر واضح بأن الهند، وإن كانت اتخذت موقفاً حيادياً بما يخص الحرب الأوكرانية، لكنها لا تشاطر مطلقاً الغرب الجماعي رؤيته لذلك الصراع.
بالانتقال إلى المضمون، فإن تصريحات الزعيمين بوتين ومودي والبيان الختامي للقمة أكّد أن البلدين انتقلا إلى مرحلة جديدة من الشراكة الاستراتيجية بينهما، ووضعا برنامجاً طموحاً لأجل ذلك يمتد حتى العام 2030، وجرى لأجل ذلك التوقيع والاتفاق على 9 نقاط في غاية الأهمية شملت جوانب عدة على الصعد السياسية والبرلمانية، وفي مجال الأمن القومي، والشراكة التجارية والاقتصادية، والنقل والمواصلات، وفي قطاع الطاقة، وكذلك في المجال النووي والتعاون الفضائي، وفي العلوم والتكنولوجيا، ووصولاً إلى التعاون العسكري وفي مجال التقنيات العسكرية، وتوسيع كل ذلك وتطويره بهدف تحقيق تجارة بينية تصل إلى مستوى 100 مليار دولار في العام 2030 والتسوية بالعملات المحلية، كما تم منح الهند فرصة للشراكة والتعاون في الشرق الأقصى الروسي والقطب الشمالي..
في الختام، يمكن القول إن زيارة رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي إلى روسيا حسمت الخيار نحو التحول العالمي إلى عالم ثلاثي الأقطاب على الأقل أو متعدد الأقطاب، فالشراكة الروسية الصينية بما تمثله من ثقل عالمي، والتشبيك مع الهند التي تحولت إلى واحدة من أكبر الاقتصادات في العالم، والتي تقدم نفسها كممثلة لدول الجنوب العالمي ذلك وغيره في مواجهة الغرب الجماعي الذي تتهاوى زعامته شيئاً فشيئاً على امتداد الجغرافيا العالمية.
ويكفي النظر إلى الامتعاض الغربي الشديد من تلك الزيارة ونتائجها، وهو ما عبّر عنه المتحدث باسم الخارجية الأميركية ماثيو ميلار، إذ قال: "الهند شريك استراتيجي للولايات المتحدة، إذ تجري معها حواراً كاملاً وصريحاً، بما في ذلك ما يتعلق بمخاوف واشنطن المتعلقة بالعلاقات بين موسكو ونيودلهي. الولايات المتحدة كانت واضحة في التعبير للهند عن "مخاوفها" بشأن هذه القضية".